ينضم الهجوم على المخازن الإيرانية في دمشق هذا الأسبوع إلى قائمة طويلة وممتدة. ولمن يحصي: الجيش الإسرائيلي هاجم آلاف الأهداف في أثناء مئات الغارات في أرجاء سوريا في السنوات الأخيرة، على حد قول رئيس الأركان السابق. هذا معطى رادع بل ومذهل، مجرد نشره يستهدف بالتأكيد إطلاق رسالة تحذير إلى طهران. غير أنه عندما تقلب الجرة على فمها ونفكر في هذا من الجانب الآخر ينبغي الاعتراف: حيال الجسارة الإسرائيلية المثيرة يتكشف أيضاً تصميم إيراني لا يقل قلقًا.
وعليه، فينبغي أن نأخذ خطوة إلى الوراء ونفكر إذا كانت توجد في الترسانة السياسية الإسرائيلية أداة واحدة قادرة على أن تكمل أو تعزز الخيار العسكري من أجل تحقيق هدف إسرائيل الاستراتيجي الأهم اليوم، ألا وهو طرد الإيرانيين من سوريا، وكسر محور الشر طهران ـ دمشق ـ حزب الله. إذ إن حقيقة أنه بعد آلاف الهجمات لا يرتدع الإيرانيون وبالتأكيد لا يتنازلون ـ ينبغي أن تُشعِل ضوءاً أحمر في إسرائيل وتشجع على البحث عن حلول بديلة، إبداعية، وبالأساس أكثر نجاعة للمدى البعيد.
في الوضعية الحالية توجد وسيلة واحدة كفيلة بالفعل أن تحقق هذا الهدف وتعيد الأمن إلى الحدود الشمالية. وهي أليمة، وممزقة، وستواجه الكثير من العوائق الإسرائيلية الداخلية أكثر منها الدولية. ولكن يحتمل أيضاً أن يكون هذا هو الحل الوحيد الذي على جدول الأعمال فضلاً عن الحرب الشاملة: مسيرة سياسية في إطارها تعيد إسرائيل أجزاء من هضبة الجولان إلى سوريا، مقابل إخراج الإيرانيين من الدولة وفك الارتباط عن حزب الله. صحيح، سبق أن كنا في هذا الفيلم. ولكن الأزمنة تغيرت وهذه هي النقطة: التغييرات بعيدة الأثر التي أحدثها الربيع العربي، وتحسين العلاقات مع السعوديين ودول الخليج، وكذا منظومة العلاقات الدولية الجديدة في عهد ترامب، تشير إلى أن اللاعبين تغيروا والقواعد انقلبت. اليوم، مع نهاية الحرب الأهلية في سوريا، نضجت الظروف لمسيرة سياسية ثورية، مسيرة توقع ضربة قاضية بتطلعات الهيمنة الإيرانية وتغير الواقع الجغرافي السياسي في صالح إسرائيل.
بعد الربيع
المتغير الأول هو الأسد نفسه. لا تتشوشوا: الرئيس السوري يبقى قاتلاً، طاغية وكذاباً. ولكن إذا كانت ثماني سنوات الحرب الأهلية في سوريا علمتنا شيئاً ما، فهو أنه الباقي المطلق: سيفعل كل ما ينبغي كي يبقى في الحكم، هذا هو السبب لعناقه الإيرانيين وإعطائهم يداً حرة في بلاده. كما أن هذا هو السبب في أنه لن يتردد في أن يطردهم في اللحظة التي يبرز فيها بديل أفضل. وهذا بالضبط ما يشكله الجولان. الآن، بعد أن ضمن عملياً حكمه، لم يعد الأسد يحتاج الإيرانيين حقًا. ولكنه بالفعل يحتاج إلى شيء ما آخر في الجبهة السياسية: شرعية جماهيرية. وهذه ليست إيران ـ بل إسرائيل بالذات ـ قادرة على أن تمنحه إياها من خلال إعادة أجزاء من الجولان. المعنى واضح: بخلاف المطالب المنكرة التي تقدم بها السوريون في الاتصالات التي أجروها في الماضي مع حكومات رابين، باراك، واولمرت وكذا نتنياهو، في سوريا اليوم توجد روافع ضغط أقل بكثير، وهي بناء على ذلك قابلة للضغط أكثر بكثير.
لم يكن ينقص حافظ الأسد الشرعية. ولهذا فهو لم يسارع أيضاً إلى الموافقة على ترتيبات أمنية بعيدة الأثر طالبت بها إسرائيل. بالنسبة له كانت إعادة الجولان مثابة علاوة. أما بالنسبة لابنه، فهذا هواء للتنفس، كفيل بأن يضمن مستقبل حكمه وأن يدخله إلى كتب التاريخ.
كما كشف وزير الخارجية الأمريكي الأسبق جون كيري النقاب في كتابه الجديد، منذ العام 2009 ـ حتى قبل الحرب الأهلية السورية التي هزت مكانة الأسد بشدة ـ كان الأسد مستعداً لأن «يسير بعيداً جداً، أبعد بكثير مما كان مستعداً لأن يفعله في اتصالات سابقة». فقد علم أن السوريين وافقوا ضمن أمور أخرى على التخلي عن مطلبهم بالانسحاب التام إلى خطوط 67، على محطات إنذار مبكر، على منطقة مجردة من السلاح بعرض عشرات الكيلومترات عن الحدود بل وحتى على إمكانية استمرار سيادة إسرائيلية على قسم من البلدات في الجولان وعلى مصادر المياه. وهذا كان قبل الربيع العربي، وقبل تدمير الجيش السوري وقبل أن يصبح سلاح الجو صاحب السيادة في سماء سوريا. إذا عادت إسرائيل إلى طاولة المفاوضات فستفعل ذلك من موقف تفوق مطلق ومع قوة مساومة هائلة كفيلة بأن تسمح بإعادة محدودة، وبالأساس رمزية لأجزاء من الجولان في ظل الاحتفاظ على مناطق الاستيطان الأساسية.
ليس الأسد وحده هو الذي تغير، بل والولايات المتحدة أيضاً. فدعم ترامب غير المتحفظ يسمح بضمانات أمنية غير مسبوقة. ومثلما كان في سيناء، هكذا أيضاً في سوريا سيكون ممكناً نشر قوات أمريكية في المنطقة المجردة لتضمن أنه إذا حاول الأسد غزو الجنوب ـ فإنه سيضطر إلى عبور المارينز. وفي ضوء التأخير الذي لا ينتهي في عرض «خطة القرن» في القناة الفلسطينية – والحاجة الملحة للرئيس لإنجاز ما في السنتين المتبقيتين حتى الانتخابات ـ فإن الإدارة ستلتقط الفرصة. كما أن مثل هذه الخطوة ستمنح الأمريكيين فرصة لأن يعيدوا إلى المنطقة موطئ قدم من الباب الخلفي. فبعد أن دحروا في واقع الأمر للخروج من سوريا وفي الأشهر الأخيرة ـ ربما بسبب ضعف ترامب أمام بوتين وأردوغان، ربما بسبب التزامه للناخبين بالانسحاب من الشرق الأوسط، فإن إمكانية «قانونية» لأن يعيد مرابطة جنود أمريكيين في الجولان كفيلة بأن تغري البنتاغون في ضوء الحاجة إلى صد الروس (الذين في واقع الأمر كفيلون بأن يدعموا بل ويتوسطوا في اتفاق يخلصهم من الإيرانيين).
وماذا عن الإيرانيين؟ مدى نفوذهم في أسفل الدرك: فإعادة العقوبات سرعت انهيار الريال وصعدت المعارضة الداخلية للنظام. وفي اللحظة التي ينتهي فيها القتال ـ وهذا فقط مسألة وقت ـ لن يكون للأسد سبب لمواصلة استضافة سليماني ورفاقه. وبالعكس: بعد نزع سلاح الثوار سيكون التهديد الوحيد المتبقي عليه من الداخلي هو بالذات في شكل تلك القوات الإيرانية في أراضيه.
صعب، ليس هاذياً
هل يبدو اتفاق على الجولان مقابل طرد الإيرانيين معقولاً؟
يبدو أنه لا. هل تجدي محاولة عرضه ما بعد الانتخابات؟ بالتأكيد نعم. يعود نتنياهو ليقول إن التواجد الإيراني في سوريا هو خطر وجودي لا يمكن لإسرائيل أن تسلم به. وهو محق. فالنهاية المقتربة للحرب الأهلية في سوريا تشكل الاآن فرصة نادرة للحكومة التالية: والعائق الأساس هو بالطبع من الداخل: بسبب المعارضة والغضب المتوقعين والخوف من التفاف يميني لبينيت وشركائه، من الصعب التصديق بأن نتنياهو أو أي مرشح آخر يحل محله سيخاطر سياسياً بمثل هذه الخطوة الجريئة. ولكن حتى لو كان هذا صعباً، فهو ليس هاذياً: على الأقل ليس أكثر هذياناً من قرار الرئيس المصري السفر لإلقاء خطاب في الكنيست في الوقت الذي كان لا يزال فيه يسود وضع حرب بين الدولتين، أو من استعداد ريغان وغورباتشوف للقاء في جنيف في محادثات عن نزع السلاح النووي في الوقت الذي كانت فيه الدولتان مع الإصبع على الزناد جاهزتين ومدعوتين لأن تبيد الواحدة الأخرى.
إن التهديد الوجودي يستوجب حلاً إبداعياً، فالهجمات الإسرائيلية التي لا تنقطع في سوريا تشهد على أننا لم نجده بعد. والمشكلة؟ قريباً أيضاً من شأن نافذة الفرص هذه أن تغلق: في كل يوم يتعزز الأسد، تثور أعصاب بوتين ومستوى الصبر الروسي يتقلص. لقد أدى الجيش الإسرائيلي وظيفته حتى الآن وصد.