مفارقة التجارة الحرة.. سياسة سيئة لفكرة جيدة

مفارقة التجارة الحرة.. سياسة سيئة لفكرة جيدة

مع اعتلاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب سدّة الحكم عبّر عن ازدرائه من اتفاقيات التجارة الحرة فتراجع عن اتفاقية (نافتا) الشهيرة، ثم أبرم اتفاقيات جديدة مع كندا والمكسيك ليتسنّى له تصحيح ما وصفه بعيوب الاتفاقية السابقة، وقادت سياسة الرئيس الشعبوي إلى نفور الأميركيين من مضامين التجارة الحرة مشككين في أهدافها، خاصة وأنها أشعلت فتيل النزاعات التجارية عالميا، كما أضرّت بوظائفهم حيث كان العمّال أول ضحاياها داخليا، ويحمّل متابعون المسؤولية إلى خبراء الاقتصاد الذين فشلوا في إقناع الجمهور بإيجابيات التجارة الحرة، إذ أنهم أساؤوا فهم ما يقدّره معظم الناس في هذا المجال.

واشنطن – “يجب أن نبيع للأجانب سنوياً أكثر مما نشتريه منهم”، نُسبت هذه الكلمات، التي كُتبت في 1549، إلى الدبلوماسي الإنكليزي السير توماس سميث، واعتبرت من المقولات الهامة التي مازالت تعتمد اليوم في ما يسمّى بـ”المذهب التجاري”. إذ يمكن أن تنطبق هذه الكلمات في زمننا الحاضر، حتى أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب يمكن أن يكتبها على صفحته في تويتر. إذ يعتقد ترامب أن الولايات المتحدة تخسر عندما تدير العجز التجاري مع دول أخرى. ويتفق العديد من الأميركيين معه على هذه الفكرة.

وقد سبق أن عبّر ترامب مرارا عن معارضته لاتفاقات التجارة الحرة متعدّدة الأطراف مثل اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية (نافتا) واتفاقية “الشراكة عبر المحيط الهادئ”. فيما وصف الاتفاقية التجارية الجديدة بين أميركا والمكسيك وكندا بأنها تحلّ الكثير من العيوب والأخطاء في اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية.

ويشكّل موقف ترامب قطيعة مع انخراط الولايات المتحدة في النظام الدولي المبنيّ على قواعد، والذي ساهمت في قيامه بعد الحرب العالمية الأولى.

الأمس واليوم
طرح الاقتصاديان آدم سميث وديفيد ريكاردو أفكارا حاسمة ضد النزعة التجارية ومؤيدة للتجارة الحرة منذ أكثر من 200 عام. وقد أقنعت حُججهما جلّ الاقتصاديين منذ ذلك الحين، ولكنها لم تحقق نفس النجاح على مستوى شعبي. إذ لا تظهر استطلاعات الرأي سوى دعم عام هزيل للتجارة الحرّة، وفهم ضعيف لإيجابياتها وأهدافها.

ويشرح أستاذ الاقتصاد الأميركي ألان بلندر في تقرير على مجلة “فورين أفيرز” الأميركية فشل واضعي السياسات الاقتصادية في إقناع الجمهور بإيجابيات التجارة الحرة.

تأتي بعض المشاكل من طبيعة المبادلات التجارية. على عكس المفاهيم الاقتصادية الأخرى مثل العرض والطلب، فإنّ فكرة الميزة النسبية التي تفيد بأن بلديْن يستطيعان الاستفادة من المبادلة حتى عندما يستطيع أحدهما إنتاج كل شيء أرخص من الآخر، تعتبر غير بديهية. كما يتعيّن على المدافعين عن التجارة الحرّة أن يتعاملوا مع السياسيين الشعبويين الذين يرون العمّال والشركات الأجنبية كبش فداء في محاولة حلّ المشاكل الاقتصادية المحليّة. والأسوأ من ذلك كلّه، أن الاقتصاديين يسيئون فهم ما يقدّره معظم الناس في مجال التجارة.

يستوجب ذلك على الحكومات أن تبذل مزيدا من الجهد لمساعدة المتضرّرين من التجارة، لكن بناء الائتلافات السياسية الضرورية للقيام بذلك يُعتبر أمرا صعبا، وهنا يأتي دور الاقتصاديين حيث يجب أن يتواصلوا بشكل أفضل مع عامة الشعب.

وقد ساد الاعتماد على التجارة الدولية في سياسات معظم الحكومات الغربية منذ الحرب العالمية الثانية، بعد فترة الكساد الكبير، التي تعمّقت وتطوّرت بسبب سلسلة من القيود على التجارة.

وبعد الانهيار شبه التامّ للتجارة الدولية خلال الحرب العالمية الثانية، انطلق عالم مزعزع لبناء نظام تجاري جديد أقوى. وكانت النتائج مثيرة للإعجاب: عقدت الاتفاقية العامة للتعرفة الجمركية والتجارة، والجماعة الاقتصادية الأوروبية، واتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية، بالإضافة إلى العديد من الصفقات التجارية الأخرى.

طوال تلك الفترة، كانت السياسة الأميركية ذات طابع عالمي وبدت مؤيدة للتجارة الحرة، وغالبًا ما كانت الولايات المتحدة تحتلّ الصدارة بين الدول الكبرى، كان متوسط ​​الرسوم الجمركية التي تفرضها الولايات المتحدة في انخفاض مع بعض الانقطاع الطفيف. وقادت واشنطن المفاوضات التي نتجت عنها الاتفاقية العامة للتعرفة الجمركية والتجارة ثم منظمة التجارة العالمية. كما وقّعت العديد من الاتفاقات التجارية الثنائية.

بدت السياسة التجارية الأميركية (ولا تزال) أكثر حمائية، وظهر ذلك في عدّة مناسبات مثل عقدها اتفاقية التجارة الحرّة لأميركا الشمالية، التي دخلت حيّز التنفيذ في 1994. كان هذا الاتفاق بمثابة خطوة كبيرة نحو تحرير التجارة. ولكن لا يزال هناك العديد من المزارعين المكسيكيين الذين لا يستطيعون تصدير طماطمهم إلى الولايات المتحدة، وأيضا العديد من السائقين لا يستطيعون شحن حمولتهم عبر الحدود الأميركية المكسيكية على الرغم من أحكام الاتفاقية.

على الرغم من هذه القيود، دعّم كلّ من الديمقراطيين والجمهوريين التجارة الحرة. لكن ترامب لم يشاركهم وجهة نظرهم. وخلال الحملة الانتخابية الرئاسية في سنة 2016، صدمت حملاته الحمائية العديد من المراقبين. ومنذ تولّيه منصبه، احتفظ ترامب بجدول أعماله المتعلق بالتجارة، وسحب الولايات المتحدة من الشراكة عبر المحيط الهادئ، وهدّد بحلّ اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية قبل التفاوض على صفقة تجارية جديدة مع كندا والمكسيك، وفرض رسوم جمركية على الألمنيوم المستورد، وبدأ حربا تجارية مع الصين، وأعرب عن عدائه لاتفاقيات التجارة الأخرى، وعلى الرغم من دعم الحزب الجمهوري للتجارة الحرة، بدا أعضاء الكونغرس الجمهوريين متفقين مع هجمات ترامب على التجارة.

وتظهر استطلاعات الرأي أن مستوى دعم الأميركيين للتجارة الحرة يعتمد على مدى فهمهم لها، وكيفية طرح السؤال، وظروف طرحه. وقد أجرت “أن.بي.سي” و”وول ستريت جورنال” استطلاعا في فبراير 2017 وسألوا عددا من الأميركيين: “بشكل عام، هل تعتقد أن التجارة الحرة بين الولايات المتحدة والدول الأجنبية قد ساعدت الولايات المتحدة أو أنها أضرت بها؟”، أجاب 43 في المئة بأنها ساعدت، بينما قال 34 في المئة إنها أضرّت.

وقد أجرت شبكة “سي.بي.إس” و”نيويورك تايمز” استطلاعا آخر، في يوليو 2016، حول العولمة. ورأى 55 في المئة أن العولمة قد ضرّت الولايات المتحدة.

ثم سألت “سي.يس.إس” إن كانت التجارة الأميركية مع الدول الأخرى تخلق المزيد من الوظائف للولايات المتحدة أم لا؟ أعطت نسبة من المستطلعين ما يسميه الاقتصاديون بالإجابة الصحيحة: التجارة لها تأثير ضئيل أو معدوم على عدد الوظائف، وكان حوالي 7 في المئة كانوا غير متأكدين، فيما اعتبر 29 في المئة أن التجارة خلقت وظائف ورأى 48 في المئة أنها دمرتهم.

ويتلاشى دعم التجارة بسرعة إذا كانت مرتبطة بالوظائف أو العولمة. لكن إذا كانت قضية التجارة الحرة مقنعة، فلماذا يفشل الاقتصاديون في الإقناع بها؟

لا تبدو مقنعة
لا ينطبق هذا على معظم الأفكار الكبيرة في الاقتصاد بما أنّ مفهوم انخفاض الطلب وزيادة العرض مع ارتفاع الأسعار له معنى بديهي. وكذلك مفهوم آدم سميث عن اليد الخفية، القائل بأن الأسواق اللامركزية تنتج مجموعة من السلع والخدمات وتضعها في أيدي المستهلكين الذين يمكنهم تحمّل سعرها.

رغم ذلك يبدو من الصعب فهم قضية التجارة الحرة: لنفترض أن البلد “أ” يمكن أن ينتج كل منتج بسعر أرخص من البلد “ب”. هل سيستفيد كلا البلدين من التجارة؟ أم ستنجذب الوظائف إلى البلد “أ”، تاركة العمال ذوي الأجور الأعلى في البلد “ب” عاطلين عن العمل؟

جادل ريكاردو بأن كلا البلدين سيستفيدان، لكن الحدس يميل إلى عكس ذلك. ألا تقوم الأسواق الحرة، على أرض الواقع، بإرسال الأعمال إلى أرخص المنتجين، لذلك يستغرق الأمر بعض الوقت لفهم صحة تحليل ريكاردو فالأفكار المعقّدة صعبة التصديق.

ومع ذلك، فإن عدم الفهم ليس السبب الوحيد للشك العام في إيجابيات التجارة. قد يفهم بعض الناس النظرية بشكل جيّد ولكنهم يعارضون فتح التجارة.

تُظهِر نظرية التجارة الأوليّة أن كلّ تحرّك باتجاه التجارة الحرة يخلق فائزين وخاسرين، تماماً مثل أيّ تغيير اقتصادي. فإذا قامت الولايات المتحدة بتخفيض التعريفات على منتج أو إزالتها، فإن وصول المزيد من نفس المنتج من بلد أجنبي سيضرّ بشركات التصنيع المحلية ويكلّف بعض عمّالها الأميركيين وظائفهم. وسيصبح هؤلاء ضحايا التجارة.

في المقابل تؤكد نظرية الميزة النسبية أن مكاسب التجارة تتجاوز الخسائر. ويفتح هذا المجال أمام إمكانية عدم استغلال السياسة الأميركية: فباستطاعة الفائزين، من حيث المبدأ، تعويض الخاسرين. سيسمح القيام بذلك للجميع بالاستفادة من التجارة. لكن الإدارات الأميركية فشلت في القيام بذلك.

وتمتلك الولايات المتحدة بعض برامج التعويض الهزيلة، على سبيل المثال، تقدّم للناس الذين فقدوا وظائفهم أموالا من أجل إعادة التدريب على الدخل الإضافي بينما هم عاطلون عن العمل، كما أن المساعدة في تسوية التجارة تموّل بشكل سيء، ويصعب الوصول إليها، ولا يتمتع بها جميع المتضرّرين. يمكن لواشنطن تحسينها من حيث المبدأ لكن يبدو ذلك صعبا من الناحية العملية.

وتصعب الطريقة المتبعة في توزيع المكاسب والخسائر سياسات الاتفاقيات التجارية. ففي أكثر الأحيان، تكون المكاسب واسعة النطاق ولكنها ضئيلة. ومن جهة أخرى، تتركز الخسائر، وتكون واضحة، وتضرب مجموعات محددة، عندما يتعلّق الأمر بتجميع هذه المكاسب والخسائر، فإن حسابات التفاضل والتكامل الاقتصادية تقرب التجارة الحرة.

ويبدو لافتا أن الانشقاق بين المواقف الاقتصادية والسياسية تعمّق في الاقتصاد الحديث حيث يتأذى الناس باستمرار بسبب التغيرات الاقتصادية التي تقع خارج سيطرتهم. وفي معظم الأوقات، لا يكون لهذا الضرر سبب واضح.

لكن على التجارة أن تتجنّب هذه المشاكل. فالتجارة الحرة هي الحالة الطبيعية للأمور، حتى لو كان معظم الناس لا يدركون ذلك. إذا لم تقم الحكومات حواجز عند الحدود، فإن السلع والخدمات كانت ستتدفق بحرية عبرها، هذه التجارة الطبيعية تخلق
باستمرار فائزين وخاسرين، دون أي إجراء حكومي. لكن الاتفاقيات التجارية مختلفة، فهي إجراءات متعمّدة وملحوظة من قبل الحكومات.

لا تساعد الطريقة التي تجرى بها الصفقات التجارية في شعبيتها. ومن أجل درسها في الكونغرس الأميركي، تحتاج الاتفاقيات التجارية إلى دعم سياسي. لكن جماعات مصلحة المستهلك عادة ما تكون صامتة أو عاجزة. لذا يتجه المؤيدون إلى الشركات الكبرى التي تسعى إلى الوصول إلى الأسواق الخارجية، ويمكن أن ينجح هذا النوع من بناء الائتلافات.

المذهب التجاري
لا يتعامل الرأي العام مع التكنولوجيا والتجارة بنفس الطريقة. فالتقنيات الجديدة تدمر وتخلق وظائف أكثر من التجارة. وعلى الرغم من المخاوف من الروبوتات، من الصعب العثور على أي شخص يدافع عن عرقلة التقدّم التكنولوجي. توفّر التجارة والتكنولوجيا مستويات معيشة أعلى للأغلبية على حساب وظائف الأقليّة. وعلاوة على ذلك، كانت التحسينات في التكنولوجيا من الدوافع الرئيسية للتجارة الدولية الموسّعة، مع اختراع السفن القادرة على السفر لمسافات طويلة والطائرات النفاثة وحاويات الشحن والاتصالات السلكية واللاسلكية.

لكن معظم الناس لا يرون أيّ تناقض في دعم التقدّم التكنولوجي في الوقت الذي يعارضون فيه التجارة الحرة. وقد يكون السبب الأكبر الذي يجعل الاقتصاديين غير قادرين على الإقناع بالتجارة الحرة فلسفيًا: فالنظرة العالمية التي تدعم النظام الاقتصادي تختلف اختلافًا كبيرًا بين الاقتصاديين ومعظم الناس.

يرى الاقتصاديون الأهداف المركزية للنظام الاقتصادي، مثل إنتاج السلع والخدمات بأقلّ تكلفة ممكنة ثم توزيعها على الأشخاص الذين يريدونها. ويصف كل كتاب دراسي للاقتصاد تلك الأهداف ويبيّن مدى نجاح الأسواق الحرة في تحقيقها. وينصبّ تركيز الاقتصاديين بشكل مباشر على رفاهية المستهلكين.

تعتبر رفاهية المنتجين ثانوية، إن ذكرت. في رؤية الاقتصاديين، حيث تتوفر شركات لخدمة رفاهية المستهلك. لكن ماذا لو كان خبراء الاقتصاد على خطأ؟ ماذا لو كان الناس يهتمون أكثر بدورهم كمنتجين كما يهتمون بشأن السلع والخدمات التي يستهلكونها؟ ربما ينظر الجمهور إلى الهدف المركزي للنظام الاقتصادي على أنه يوفّر وظائف ذات رواتب جيّدة، وليس إنتاج سلع رخيصة الثمن.

أمام هذه التساؤلات يبدو الإقناع باتّباع التجارة الحرة مهمة صعبة. صحيح لا توجد أيّ حلول سريعة لمشكلة إقناع الشعب بالتجارة الحرة، لكن هناك بعض الإجراءات التي يستطيع الاقتصاديون وصانعو السياسات اتّخاذها.

ينبغي على واشنطن تخصيص المزيد من الأموال لبرنامج المساعدة والتسويات، وجعلها أسهل في الوصول إليها، وتعزيز الجهود المبذولة لنقل العمّال النازحين إلى وظائف جديدة. في الوقت الحالي، وبالنسبة إلى واشنطن يُعدّ تعديل التجارة المساعدة حاليا بمثابة متاهة بيروقراطية. كما يمكن أن يحاول الاقتصاديون ربط التجارة بالتكنولوجيا في أذهان الناس. والأمل هنا هو أن تضاعف أوجه التشابه بين الاثنين قد يولّد بعض البراءة عن طريق الارتباط. على سبيل المثال أصبح التسوّق عبر الإنترنت أكثر شعبية، وأحدث الابتكارات التكنولوجية التي تحفّز التجارة.

هذه أشياء يمكن للاقتصاديين وواضعي السياسات القيام بها. ولكن هذه الخطوات غير مضمونة. هناك قائمة أطول وأكثر أهمية من العوامل التي لا يمكن تغييرها. إنّ مبدأ الميزة النسبية هو فعلاً أمر منافٍ للواقع، وبالتالي يصعب الإقناع به. وإذا كان المستهلكون يهتمون بالوظائف الجيّدة أكثر من السلع الرخيصة، فإنّ الحُجج القياسية للتجارة لن تقنعهم. وبالنظر إلى كل هذا، ربما ينبغي أن يشعر الاقتصاديون بأنهم محظوظون لأن التجارة الدولية ليست في وضع أسوأ مما هي عليه بالفعل.

العرب