يعبّر العراقيون عن مطالبهم في الساحات العامة وأمام المقرات الحكومية في البلاد. ولا يُقاس تأثير احتجاجاتهم بعددهم بل بانتشارها وبنقل صوتهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
كثيراً ما يتجمّع مجموعة من الأشخاص أمام المؤسسات الحكومية العراقية، حاملين لافتات أو أوراقاً كتبت عليها عبارات يطالبون من خلالها الجهات الحكومية بإنصافهم أو إيجاد حلول لمشاكل يعانون منها. هؤلاء لا يتظاهرون أمام المباني الحكومية فقط، بل تمتد الوقفات الاحتجاجية إلى الساحات العامة أو مناطق يتجمع فيها الناس، خصوصاً إن كان هناك حضور إعلامي، إذ يسعى المتظاهرون إلى الاستفادة من وسائل الإعلام لإيصال أصواتهم إلى الجهات المسؤولة. وتختلف أعداد المتظاهرين؛ أحياناً يتظاهر شخص واحد، وقد يصل عدد المتظاهرين في بعض الأحيان إلى الآلاف. ويحرص هؤلاء المواطنون على التظاهر السلمي.
وعادة ما تدير لجان تنسيقيّة التظاهرات، وتتبنّى الإعداد لها وتهيئة ظروفها وتوقيت انطلاقها وانتهائها، وتفاصيل أخرى لضمان نجاحها. ويستغلّ مواطنون هذه التظاهرات ويحاولون إيصال مطالبهم ومشاكلهم الخاصة عبر وسائل الإعلام التي تحضر لتغطية هذه الأحداث، وهو مشهد بات مألوفاً في التظاهرات.
عدد من التظاهرات التي عرفتها مدن مختلفة في العراق شهدت وقوع ضحايا بين قتلى وجرحى، فضلاً عن خسائر مادية نتيجة اشتباكات بين متظاهرين وقوات الأمن. لكنّ تظاهرات أخرى كانت مثالاً يحتذى به، إذ أثبتت سلميّتها وعكست معنى الديموقراطية، واحتراماً متبادلاً بين قوات الأمن والمتظاهرين. وفي العديد منها، كان المتظاهرون يوزّعون الورود على قوات الأمن، بينما يوزع عناصر من هذه القوات عبوات مياه الشرب على المتظاهرين.
لكنّ صورة التظاهرات بشكلها الحالي تبقى جديدة على العراقيّين، خصوصاً أنّ بعضها يطالب بتغيير الحكومة، على غرار ما كان يحدث في أواسط القرن الماضي، حين كانت الجماهير تخرج للمطالبة بتغيير الحكومة في العهد الملكي، وفي بداية العهد الجمهوري قبل نحو ستين عاماً.
ويتحدث حسين قاسم، وهو موظّف في وزارة الصناعة، عن التظاهرة الأولى التي شارك فيها عام 2008، مبيناً أنه كان يشعر بالخوف والقلق، حين كان يطالب والعشرات من زملائه الموظفين في الوزارة بإنصافهم وإعادتهم للخدمة. ويوضح قاسم لـ “العربي الجديد” أن الشعارات التي كتبت على اللافتات أثناء التظاهرات أمام مبنى الوزارة بدت “قاسية” بحق الوزير والحكومة، إذ حملت اتهامات بالفساد. “وما شجعنا على الاستمرار هو وقوف القوى الأمنية الخاصة بحماية الوزارة إلى جانبنا، وتشجيعنا على مواصلة التظاهر”.
يتابع قاسم أنّ التظاهرات التي استمرت أشهراً عدة بدت مثمرة، ما شجّع على المشاركة في تظاهرات عدة أخرى تتعلق بمطالب شعبية أقيمت وسط العاصمة بغداد. وخلال تولي نوري المالكي رئاسة الحكومة في ولايتين متتاليتين (2006 ــ 2014)، خرجت العديد من التظاهرات المطالبة بمحاربة الفساد وتوفير الخدمات، ووصلت إلى حد التنديد بالحكومة وتنحي المالكي عن الحكم. وفي مرّات عدة، جوبهت هذه التظاهرات بالقوة. أبرز الأحداث التي شهدتها التظاهرات في العراق وقعت في مارس/ آذار عام 2016، حين اقتحم متظاهرون غاضبون المنطقة الخضراء، التي تعد أكثر مناطق العراق حصانة بسبب وجود المقرات الحكومية ومساكن كبار قادة الحكومة، إضافة إلى مباني سفارات عدة، كالسفارة الأميركية والسفارة البريطانية.
يقول عادل الربيعي، أحد الناشطين الذي عمل ضمن مجموعة شبابية لتنسيق تظاهرات عدة بين عامَي 2010 و2015: “التظاهرات التي خرجت في ذلك الحين جعلت المواطنين أكثر قوة. في البداية، كنا نخشى الخروج في تظاهرات سلمية ترفع شعارات مناهضة للحكومة وأحزاب السلطة”، مضيفاً لـ “العربي الجديد” أن “الفساد الذي استشرى بين مؤسسات الدولة كان ظاهراً للعيان، والسبب هي الأحزاب الحاكمة. كنّا على يقين أننا نواجه الخطر. لكن بعد تظاهرات عدة، صرنا نرفع شعارات فيها تشهير للحكومة ونهتف بسقوط رئيسها”.
الربيعي يؤكد أنّه “يمكن لأي شخص أو مجموعة حمل شعارات والتظاهر في أيّ مكان. لم يعد هناك خوف. كسرنا هذا الحاجز الذي بني في داخلنا ولدى آبائنا من قبلنا. الحكومة تعلم أن مواجهة المتظاهرين بالقوة لن تجدي نفعاً، في ظل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي. اليوم، ما من حاجة لأن تواكب محطات التلفزة المتظاهرين لإيصال أصواتهم. يكفي أن يصوّر المتظاهرون احتجاجاتهم أو اعتداء قوات الأمن عليهم من خلال هواتفهم ويبثوها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ليراها خلال دقائق ملايين الناس. هذا الإعلام السهل والمتاح للجميع بات يُرعب الحكومات”.
حريّة التعبير التي أصبح يؤمن بها العراقيون، تظهر من خلال تظاهر أفراد في أماكن عامة، وقد يتظاهر مواطن بمفرده في ساحة التحرير وسط بغداد، أو في تجمع معروف كمبنى القشلة التراثي، الذي يتحول لتجمع ثقافي واجتماعي يوم الجمعة، ويحاول إيصال مشكلته إلى جهات مسؤولة، مستفيداً من الحضور والإعلاميين والناشطين المؤثرين في محيطهم.
من جهته، يقول الصحافي علي الزبيدي، الذي يرتبط بعلاقات عمل مع العديد من مكاتب الإعلام في المؤسسات الحكومية، إن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت سلاحاً تخشاه الجهات الحكومية، ويكفي أن يتظاهر شخص أو عدد من الأشخاص لديهم ما يثبت تقصيراً حكومياً في حقهم، ويتم نشره عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ليحظى بتفاعل كبير. ويشير الزبيدي إلى أنّ “أحد الوزراء العراقيين في الحكومة السابقة (2014 – 2018) أمر وكيله بتسوية أوضاع شخص بسيط وحل مشكلته، وقد انتشرت قصته على وسائل التواصل الاجتماعي وهو يتظاهر منفرداً في حديقة مبنى القشلة، حاملاً لافتة صغيرة كتب عليها تظلمه ومطالبه، متهماً هذا الوزير بسلبه حقوقه”.
أما حسن السعدي، أحد الشيوخ القبليين، وعضو مجلس شيوخ عشائر محافظة ديالى (شرق)، فيقول لـ “العربي الجديد” إنّه شارك في عدة تظاهرات، منها طالبت بإنصاف المزارعين، وأخرى نددت بتدخّل المليشيات في الشؤون المدنية. ويوضح أنه يشعر بأن “العراق شهد تغييراً كبيراً، ولم يعد هناك خوف من مسؤول حكومي أو أي جهة حكومية كما في السابق”. ويعزو السبب إلى “وجود عدد كبير من الأحزاب المؤثرة غير المتوافقة في ما بينها، وامتلاك جهات عدة القوة، كالعشائر والمليشيات والأحزاب. ولم يعد هناك حزب واحد حاكم كما في السابق، إضافة إلى وجود عدد كبير من وسائل الإعلام، سواء المستقلة أو التابعة لجهات سياسية. والأكثر أهمية وجود منصات التواصل الاجتماعي. وهذه كلها زادت من نسبة حرية التعبير في البلاد”.
العربي الجديد