ثماني سنوات عجاف مرت على الانقسام الفلسطيني الداخلي، ومما يبدو فإن الوضع الفلسطيني بحاجة إلى مخاض عسير كي ينتظم في مساره المأمول الذي يعيد للفلسطينيين الأمل ولقضيتهم الحياة بعد أعوام من الألم والكارثة والهوان.
غياب الشراكة
لا ريب أن ثقافة الشراكة الوطنية غائبة تماما عن التفكير الفصائلي الفلسطيني، وما تم تداوله طيلة المرحلة الماضية عن استدعاء قيم ومفاهيم الشراكة السياسية في إطار اتفاقات وتفاهمات المصالحة ظل يراوح، فقط، في إطار الشعار المجرد لأغراض الاستهلاك الداخلي، لنكتشف أخيرا أننا أمام واقع مؤسف تغلب عليه ثقافة الهيمنة والاستحواذ والرغبة في إقصاء الآخر.
ومما يؤسف له أن تجربة السنوات الماضية، بما حوته من مآس وآلام ومصائب في ظل الانقسام، لم تكن كافية لإعادة صياغة التفكير الفصائلي الفلسطيني باتجاه موجبات الشراكة الحقة، والاستقامة على رؤية جامعة تعلي المشترك الوطني العام على الاعتبار الفصائلي الضيق، وتنزل عند حدود المصلحة الوطنية العليا أيا كانت الكلفة أو الأثمان المترتبة عليها.
كم من الوقت نحتاج -نحن الفلسطينيين- لتعبيد طريق الشراكة الوطنية التي تشكل القاعدة الصلبة في مواجهة الاحتلال وتحدياته الجسام؟! وهل نحتاج إلى ثماني سنوات عجاف جديدة كي نتعلم من أخطائنا وخطايانا، ونأخذ العبرة من تجارب ومصائر الآخرين؟!
إن فلسطين ليست حكرا على فصيل بعينه، فالوطن وطن الجميع، ولا مناص من الاعتراف بأن النهج والسياسة الفصائلية الحالية تضر فلسطين وقضيتها العادلة أشد الضرر، وتباعد بين الفلسطينيين وبين تلمس آفاق النصر والحرية، وتعيدهم سنوات طويلة إلى الخلف.
مَنْ يقرر في شأن فلسطين وقضاياها الكبرى، ومَنْ يبت في المصير الوطني، يجب أن يكون الشعب الفلسطيني بكافة شرائحه في الداخل والخارج أولا، ولا قيمة لأي ادعاء أو محاولة للتزلف إلى الشعب بشعار جميل أو ألفاظ براقة ليس لها من الواقع نصيب.
وعليه، ينبغي أن تنشغل الساحة الفلسطينية اليوم بمساع حقيقية ترسي أسس ومعالم مصالحة وطنية شاملة، وتبدد الآثار الغائرة التي حاقت بالعلاقات الداخلية، وتوفر ضمانات أصيلة وملموسة للخروج من نفق التكلس والجمود، وانعدام الثقة، والشعور بالضياع والانفتاح على المجهول، الذي يهيمن على الوضع الفلسطيني العام حاليا
الأمن مقابل التنمية
لعل المخطط الأخطر الذي تُحبك فصوله السود هذه الأيام في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب على غزة، يكمن في نزع القضية الفلسطينية عن أبعادها وسياقاتها السياسية وتحويلها إلى قضية إنسانية بحتة لا تستوجب سوى شفقة وعطف العالم، بعيدا عن قوة وإلزامية الحقوق المشروعة المكفولة بقوة الشرائع السماوية والقوانين الأرضية، والعمل على تكريس الانقسام الداخلي وتحويله إلى حالة انفصال دائم، عبر البحث في خيارات ذات صبغة سياسية تستهدف أساسا إنعاش الوضع الاقتصادي والمعيشي المتردي في قطاع غزة.
ولعل في التسريبات التي تحدثت عن مفاوضات غير مباشرة بين حماس والاحتلال برعاية بعض الدول لإنشاء ممر مائي تحت رقابة دولية، ورفع الحصار، وتفعيل ملف إعادة الإعمار، مقابل هدنة قد تصل إلى 15 عاما، في إطار المخطط الذي يقوده الاتحاد الأوروبي واصطلح على تسميته “الأمن مقابل التنمية”، خير دليل على خطورة هذا المخطط وتداعياته الكارثية على الوضع الفلسطيني ومستقبل القضية الفلسطينية.
وهكذا، فإن ما عجز الاحتلال وحلفاؤه عن تحقيقه طيلة المرحلة الماضية الملبدة بالحصار والعدوان، يحاولون اليوم إنفاذه عبر طرح مشاريع ذات صبغة إنسانية واقتصادية بهدف حرف مسار اهتمامات الشعب الفلسطيني عن قضيته السياسية وهمومه الوطنية وأجندته التحررية إلى الشؤون المعيشية والأوضاع الحياتية التي تؤججها نوازع الكبت والقهر وشدة الحاجة والعوز والمعاناة.
وليس خافيا أن السياسة الإسرائيلية عمدت طيلة المراحل الماضية، بدعم إقليمي ودولي، إلى تفريغ القضية الفلسطينية من بعدها السياسي وإلباسها لبوسا اقتصاديا بحتا في إطار ما يُعرف بمصطلح “السلام الاقتصادي”، وعملت على توظيف سيرورة المفاوضات مع السلطة الفلسطينية لخدمة هذا الاتجاه.
ذا، فإن على حركة حماس أن تنتبه لخطورة المسار الذي يقودها إليه الأوروبيون بدعم إسرائيلي، وألا تأخذها نشوة الانفصال والرغبة في استمرار حكم القطاع بعيدا عن القضايا الجامعة والمصالح الفلسطينية الكبرى.
السياسة الفصائلية
ابتليت الساحة الفلسطينية طيلة السنوات الثماني الماضية بكل ما هو عجيب وغريب، وواجهت تحديات كبرى في ظل اختلال مقومات السياسة الفصائلية الراشدة وضعف مستوى الالتزام بالأخلاق الوطنية والقيم الإنسانية.
فقد بلغ الاستهتار والتردي الفصائلي مدى مزعجا تقزمت معه القضية الفلسطينية والمصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني، وتضخمت فيه الذات الفصائلية، وطغت فيه الرؤية الفصائلية الضيقة على حساب الرؤية الوطنية الجامعة.
لقد دخل شقا الوطن الفلسطيني في أزمة عميقة جراء الاحتكام إلى السياسة الفصائلية المعروفة، ومع كل إشراقة شمس كانت الأوضاع الفلسطينية الداخلية تشتد بؤسا وتأزما وارتكاسا.
لذا، كان مستهجنا أن تبقى السياسة الفصائلية الفلسطينية غارقة في أوهامها الحالمة، غائصة في مشروعاتها الخاصة، دون أن تبلور اتجاها وطنيا صادقا ينأى بالشعب وآلامه وعذاباته ومآسيه عن انقساماتها وتناحراتها ومماحكاتها التي لا تنتهي.
فالمواطن الفلسطيني بحاجة إلى من يحمل همه ويضمد نزف جراحه ويخفف عنه هول مآسيه، كي يثبت في ميدان المواجهة مع الاحتلال، وترسخ قدمه في معركة الإرادة والصمود، ويشكل رافدا قويا لقضيته العادلة، لا أن يحمل هو هم الفصائل وعبء سياساتها وأوزار سلوكياتها، ويتحول إلى شمعة تحترق من أجلها.
إننا -نحن الفلسطينيين- أشد ما نكون حاجة اليوم إلى سياسة فصائلية راشدة، ترتكز في حدها الأدنى على القواسم المشتركة، وما أكثرها، بعيدا عن الاشتراطات الحزبية وتفصيل السياسة الفلسطينية على المقاسات والأجندات الخاصة.
يكفي ما ذاقه الفلسطينيون من وبال وويلات الانقسام البغيض الذي أججته السياسات الفصائلية العقيمة، وآن الأوان لبدء مرحلة جديدة تدرك فيها الفصائل، حقيقة وفعلا، أنها مؤتمنة على مصير الشعب والوطن والقضية، وأن بوصلتها ينبغي أن لا تنحرف أبدا عن القدس والقضايا الفلسطينية الكبرى، وأن بندقيتها ينبغي ألا تصوب إلا إلى صدر الاحتلال.
شيء من المرونة السياسية، وقليل من الوطنية الصادقة، وبعض من الرشد في الفكر والتفكير السياسي، يكفي لتدشين مرحلة فلسطينية جديدة ذات نسق فصائلي متميز، وإرساء توافق وطني مقبول، ولو في حده الأدنى، لإنقاذ الفلسطينيين من خطر التحديات التي توشك أن تعصف بوجودهم وكيانهم الوطني
إن الوضع الكارثي الذي يعيشه قطاع غزة بشكل خاص، والوضع الفلسطيني الداخلي والقضية الفلسطينية بشكل عام، يتطلب أكثر من حلول آنية ومعالجات ترقيعية، ويحتاج إلى بسط معالجات حقيقية وحلول إستراتيجية للخروج من نفق الإدارة السيئة للأزمات الراهنة قبل فوات الأوان.
لمستوى الأول يتولى إنقاذ المصالحة وحسم ملف الحكومة التوافقية والملفات الأخرى في أسرع وقت ممكن، بما يعنيه ذلك من إنهاء كامل للمعاناة الداخلية لأهالي غزة والبدء في مسار إعادة الإعمار.
أما المستوى الثاني فيعمد إلى حسم ملف إعادة بناء وتشكيل منظمة التحرير كي تتولى صياغة وقيادة المشروع الوطني الفلسطيني، داخليا وخارجيا، خلال المرحلة القادمة.
في وقت يركز المستوى الثالث على معالجة مشكلة العلاقة مع الجماهير الفلسطينية ورد المظالم إلى أهلها، ومداواة الجروح الغائرة والتهتك الخطير في النسيج الاجتماعي الناجم عن كارثة الانقسام.
تشكل المقاومة الشعبية الحل المتاح فلسطينيا في هذه المرحلة الحساسة من عمر الفلسطينيين التي ابتلوا فيها بانقسام بغيض أذل ناصية قضيتهم وأعادها عشرات السنين إلى الوراء، وذلك في ضوء الاعتبارات التالية:- انسداد آفاق المقاومة المسلحة بشكل كامل على المستوى العملي والميداني في شقي الوطن الفلسطيني بحكم واقع الانقسام المعروف، وضرورة البحث عن آليات كفاحية بديلة متوافق عليها وطنيا.
– ضرورة الخروج من مأزق تناقض البرامج والأجندات الفصائلية عبر التوافق على برنامج عملي لمواجهة الاحتلال يلقى تأييدا وتجاوبا من الجميع، ويضمن قبول ومشاركة الفصائل الفلسطينية دون استثناء.في المقابل، فإن الاستخفاف بالمقاومة الشعبية يعني إغلاق الخيارات الكفاحية وقصرها على خيار المقاومة المسلحة، وهذا ما يلحق الضرر بالقضية الفلسطينية، ويقزم الخيارات النضالية الفسيحة، ويلغي -تقريبا- دور القطاعات والشرائح الشعبية والمجتمعية الواسعة التي تم تحييدها رغما عن أنوفها بحكم اختزال المقاومة في بعدها المسلح فقط.إن كل يوم يمر دون فعل كفاحي فلسطيني يُنقص من قدرة الفلسطينيين ككل على مواجهة مخططات وإجراءات وجرائم الاحتلال، ويجعل مهمتهم الكبرى في كبح التغول الإسرائيلي الخطير على الأرض والمقدسات أكثر صعوبة.فلسطين تضيع، والاحتلال يتمادى أكثر فأكثر، وما لم ينتفض الضمير الوطني الفلسطيني، فصائليا وشعبيا، باتجاه بلورة آليات كفاحية شعبية تتجاوز منطق المزايدة الفصائلية، فإننا قد نصحو على ضياع القدس والأقصى وبقية فلسطين ذات صباح.
وختاما.. فإن حركتي حماس وفتح والكل الوطني الفلسطيني اليوم أمام اختبار وطني بالغ الأهمية والحساسية لجهة طي ملف الانقسام إلى الأبد، وكلنا أمل أن تعلو قيم التوافق والوحدة والشراكة والتكاتف الداخلي على مثيرات الفرقة وموجبات الاختلاف، وأن يعبر الفلسطينيون جميعا تحديات المرحلة القادمة بصف وطني موحد وإستراتيجية وطنية مشتركة قادرة على التصدي لإجرام ومخططات الاحتلال.