عمرو موسى يحيي الربيع.. ويميته

عمرو موسى يحيي الربيع.. ويميته

يبدو من الصعب جداً تحديد خانةٍ معينةٍ لوضع مقولة أمين عام جامعة الدول العربية الأسبق، عمرو موسى، إن الربيع العربي لم يكن ربيعاً، وما إذا كانت تنتمي لشعارات الثورة المضادة، أم لرهطٍ من كتابات يساريين وليبراليين اشترطوا على الثورات العربية التطابق مع موديلاتٍ لم يكلّفوا خاطرهم تحديد مواصفاتها ومعاييرها.
غير أن الرجل، في محاضرته الطويلة التي نظمها منتدى عبد الحميد شومان الثقافي في عمّان، وضع قدماً مع الربيع العربي وقدماً مع الثورات المضادة، فالربيع لم يكن ربيعاً، لكن سوف يأتي الربيع العربي، وهذه رشاقة حركية لم يبلغها أحد قبل الدبلوماسي المحنّك الذي يحبّه المطرب الشعبي شعبان عبد الرحيم، فالعرب، بجميع اتجاهاتهم وانتماءاتهم، انقسموا ما بين مؤيد للربيع العربي بدون أي قابلية للجدال ومؤيد للثورات المضادة وأنظمة الحكم بحماسة تتجاوز حدود التعصب بدرجات.
لم يوضح موسى لماذا لم يكن الربيع العربي ربيعاً، وما إذا كان يقصد بكلامه هذا سوء إدارة الحراكات العربية، والافتقاد للخبرة والدراية في تنظيم الجماهير وتعبئتها وجعلها تحافظ على مكتسباتها الثورية، ولا تفرّط في مواجهة تطورات الأحداث، أو ما إذا كان موسى يتحدث عن النتائج التي أدت إليها ثورات الربيع العربي، من دمار وخراب وموت، لا يمكن معه إطلاق صفة الربيع، كون هذه الصفة تحيل إلى ما هو جميل، وحتى رومانسي، وما حصل في العالم العربي كان درامياً كارثياً؟
بالطبع، لا يستطيع أحد وضع القيود على موسى في اختيار التوصيفات التي يراها مناسبة
“الربيع سيرورة بأطوار متعدّدة وبنيان بطوابق كثيرة” ومتناسقة مع ثقافته وخبرته ووجدانياته، للتعبير عن موقفه من الربيع العربي وأحداثه، لكن المشكلة أنه هو الذي وضعنا في هذه المتاهة، إذ بعد نكرانه حصول الربيع العربي، وهو في ذلك يبدو ملتصقاً بمدرسة الأنظمة العربية التقليدية، ويبدو منسجماً في ذلك بوصفه نتاج ثقافتها، ولديه آليات تفكيرها، يبشّرنا بأن الربيع العربي الحقيقي سوف يأتي، والإشكالية في هذا القول بانتمائه لجيل ما بعد الثورات العربية، فكيف لرجلٍ من سلالة الجيل الأكثر تقليدية في عالمنا العربي التنبؤ بحدوثه والإيحاء بتبنيه!
ولكن يبدو أن الأمين العام الأسبق لجامعة الدول العربية لن يكسب الثوار الذين سيأتون من خلف الركام العربي، متمنطقين الثورة من جديد، كما لن يكسب الذين اطمأنوا لانتصارهم على ذلك الربيع، فالأولون سيعتبرون أن موسى أفسد ترتيبات جيل بحاله، ووشى بهم، وقدم بلاغاً لأجهزة الأمن العربية لأخذ الحيطة والحذر من ترتيباتٍ تجري في العتمة. أما الحكام وسدنة الثورات المضادة فلا بد أنهم سيتحسّسون مسدساتهم لحظة إبلاغهم ببوح الرجل عن ربيع عربي سوف يأتي، وهم ما زالوا ينفضون غبار الوقعة الربيعية عن ثيابهم، وسينطقون بصوتٍ واحد: حتى أنت يا موسى؟
ولكن، مهلاً، لماذا التسرع ومحاولة تضمين كلام موسى في سياقاتٍ ليست لها صلة بمراميه، هل تأكّد أحد من مقاصده وغاياته؟ ماذا لو أن موسى قصد بالربيع الذي سوف يأتي مزيدا من سيطرة الثورات المضادة ونجاحها في الاستمرار وإدامة نهج الحكم والسلطة القائمين؟ لا يحتاج الأمر البحث في شخصية الرجل، ومعرفة مرجعياته الفكرية، وفحص طريقة تفكيره، الأجدى والأسهل البحث في خبايا محاضرته نفسها ومعرفة مقاصده الحقيقية.
يؤكّد موسى، في محاضرته، أن العرب باتوا بحاجة اليوم “لإنتاج ربيع ثانٍ، ربيعٍ حقيقي،
“ماذا لو أن موسى قصد بالربيع الذي سوف يأتي مزيدا من سيطرة الثورات المضادة ونجاحها?” يصب في خانة الإصلاح والانطلاق نحو المستقبل”، وهذا الكلام لا يحتمل تأويلات وتفسيرات كثيرة لاكتشاف انحيازيته الواضحة، ولا مضامينه التي تعلن عن نفسها مقدّماً، ذلك أن نغمة الإصلاح التي يعزف على وترها هي ذاتها مقولة لنعطي الحكام مزيداً من الوقت، ليحققوا برامجهم الإصلاحية، والتي للمصادفة ما زالوا لم يعلنوا عنها ولم يفكروا بعناصرها حتى اللحظة.
الغريب أنه بعد ما حصل، ما زال هناك من يفكر بهذه الطريقة، بل يمتلك الجرأة للتحدّث بذلك، من دون أن يكلف نفسه عناء السؤال: كيف لهذه الجثث الحاكمة الموزّعة على شرق العالم العربي وغربه القيام بعمليات إصلاحية، وأي نوعٍ من الإصلاح الذي من الممكن أن يجترحه هؤلاء؟ هذا منطقٌ يتساوى مع العدمية، ليس لأنه يحيل إلى انتظار دائم لا أفق له، بل أيضاً لأنه يضع المستقبلات العربية أمام خيار واحد وإجباري، يتمثل باستمرار الرضوخ لحكم هذه النماذج التي لا أمل يُرتجى منها، لا اليوم ولا في أي وقت.
مجرد الاعتقاد بأن الربيع العربي انتهى هو قراءة غير منطقية للواقع العربي المتغيّر بعنف. هذا نوعٌ من التبشير الأقرب إلى الدعاية منه إلى قراءة الواقع، ذلك أن الربيع سيرورة بأطوار متعدّدة وبنيان بطوابق كثيرة، قد يجري تجديد أدواته وترشيق أفكاره وتغيير أساليبه التعبيرية، لكن سيكون هو ذاته الربيع الذي انطلق في وجه الاستبداد والفساد والتزييف.

الربيع العربي