طالعت باهتمام البيان الذي صدر في ختام أعمال مؤتمر شرم الشيخ، المعروف إعلاميا باسم «القمة العربية الأوروبية الأولى». فقد تضمن هذا البيان سبع عشرة فقرة، وجاء نص الفقرة الأولى منه كالتالي: «لقد عقدنا نحن قادة الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية والاتحاد الأوروبي قمتنا الأولى يومي 24 و25 فبراير 2019 في شرم الشيخ بجمهورية مصر العربية، تحت الرئاسة المشتركة لفخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي رئيس جمهورية مصر العربية، وفخامة الرئيس دونالد توسك رئيس المجلس الأوروبي، لمناقشة والتعامل مع التحديات الراهنة والمشتركة في المنطقتين، اللتين تمثلان 12% من سكان العالم، وبدء عصر جديد من التعاون والتنسيق، واثقين في أن تعزيز التعاون بين الدول أعضاء جامعة الدول العربية والاتحاد الأوروبي، من شأنه تعزيز الاستقرار والازدهار والرفاه في المنطقتين وفي العالم بأسره، والعمل المشترك في إطار النظام الدولي متعدد الأطراف القائم على الشرعية». أما نص الفقرة الأخيرة فجاء كالتالي: «اتفقنا على عقد مؤتمرات قمة منتظمة بالتناوب بين الدول العربية والأوروبية، على أن تعقد القمة المقبلة في بروكسل عام 2022».
وبينما حاول البعض تصوير هذا المؤتمر وكأنه حدث تاريخي سيكون له ما بعده، سعى البعض الآخر للتقليل من شأنه، من منطلق أن بيانه الختامي لم يأت بأي جديد يوحي بأن نقلة نوعية في العلاقات العربية الأوروبية على وشك الحدوث الآن، أو في المستقبل المنظور، ومؤكدا على أن هذه العلاقات لن تختلف بعد هذا المؤتمر عما كانت عليه قبله.
لفهم ما جرى في هذه «القمة» سواء في الجلسات العلنية، أو فيما وراء الكواليس، ربما يكون من المفيد تذكير القارئ بأن «الحوار العربي الأوروبي» بدأ في أعقاب حرب أكتوبر 1973، التي جسدت وحدة العالم العربي على أروع ما يكون، بناء على مبادرة فرنسية كانت تستهدف في ذلك الوقت تأكيد استقلالية القرار الأوروبي وإخراجه من إسار الهيمنة الأمريكية. ولا شك أن هذه المبادرة أتاحت فرصة ثمينة لإقامة حوار مؤسسي بين «جماعة أوروبية» تسعى لإبراز خصوصية سياستها الخارجية و»جامعة دول عربية» تسعى لتأكيد الوحدة بين شعوبها الطامحة للاستقلال والتنمية. غير أن قدرة الجامعة العربية على إدارة حوار متكافئ مع الجماعة الأوروبية، من موقع الندية توقفت على استمرار حالة التماسك التي تجلت بوضوح إبان حرب أكتوبر، غير أن الرياح راحت تهب بما لا تشتهي السفن العربية. فلم تكد تمر أشهر قليلة على انتهاء تلك الحرب، حتى كانت شروخ وتصدعات عديدة قد بدأت تظهر في الجدار العربي، وراحت تزداد عمقا وخطورة بمرور الوقت، خاصة عقب قرار السادات زيارة القدس عام 1977 وقرار صدام شن الحرب على إيران عام 1979 ثم غزو الكويت عام 1990، الأمر الذي مكن الجماعة الأوروبية من التحكم في مجريات الحوار مع العالم العربي، وصياغة مخرجاته بما يتفق مع مصالحها وحدها.
لذا يمكن القول إن الحوار العربي الأوروبي أصيب منذ البداية بخلل بنيوي بدت الجماعة الأوروبية من خلاله وحدة واحدة متماسكة، في مواجهة عالم عربي مفكك ومنقسم على نفسه، الأمر الذي انعكس بطبيعة الحال على شكل ومضمون الاتفاقات التي أبرمتها الجماعة الأوروبية، ثم الاتحاد الأوروبي بعد ذلك، والتي أخذت شكل اتفاقات ثنائية مع دول عربية منفردة، وليست اتفاقات مؤسسية بين تجمعين دوليين، وهو ما جسدته اتفاقيات الشراكة الأورومتوسطية، أو اتفاقات الشراكة الأوروبية الخليجية، أو غيرها من الصيغ التي استحدثتها الجماعة الأوروبية. ورغم هذا الخلل ظلت الدول العربية قادرة على إدارة علاقاتها الثنائية بالاتحاد الأوروبي، إلى أن اندلعت ثورات الربيع العربي التي أجهزت على ما تبقى من تماسك النظام العربي، وكانت لها انعكاسات سلبية هائلة على النظام الأوروبي، خاصة عبر تدفق أعداد هائلة من المهاجرين غير الشرعيين وتصاعد العمليات الإرهابية التي راحت توجه ضرباتها المميتة في العمق الأوروبي.
اللافت للنظر أن تعقد أول قمة عربية أوروبية في وقت بدا فيه النظام الأوروبي مأزوما، والنظام العربي مهزوما وعلى وشك الانهيار
كان من اللافت للنظر أن يعجز الحوار العربي الأوروبي الذي امتد لأكثر من أربعة عقود عن عقد مؤتمر واحد على مستوى القمة، وأن تعقد أول قمة عربية أوروبية في وقت بدا فيه النظام الأوروبي مأزوما، وبدا فيه النظام العربي مهزوما وعلى وشك الانهيار. فمن الواضح أن النظام الأوربي يمر بأزمة عميقة لأسباب عديدة أهمها: 1- البريكست وما قد يؤدي إليه من انفراط عقد الاتحاد الأوروبي، خاصة إذا ما قررت دول أوروبية أخرى أن تحذو حذو بريطانيا وتنسحب بدورها من الاتحاد. 2- تصاعد نفوذ اليمين الشعبوي المعادي للوحدة الأوروبية واحتمال وصوله إلى السلطة في دول أوروبية عديدة، بما فيها دول القلب الأوروبي وعلى رأسها فرنسا وألمانيا وإيطاليا. 3- السياسة اليمينية المتطرفة التي تنتهجها إدارة ترامب، المعادية للاتحاد الأوروبي ولحلف شمال الأطلسي، وللأطر المؤسسية متعددة الأطراف بشكل عام، وهي سياسة ملهمة لليمين الأوروبي المتطرف وداعمة لأطروحاته العنصرية.
ومن الواضح أيضا أن النظام العربي يمر بأزمة أكثر عمقا، وهي أزمة لها وجهان أحدهما داخلي والآخر خارجي، لكنهما يصبان في مجرى واحد يتمحور، في تقديري الشخصي، حول أزمة السياسة والحكم في هذه المنطقة من العالم. فأغلبية النظم العربية الحاكمة ملكية كانت أم جمهورية، يسيطر عليها رجل واحد، وتخلو من أي تعددية سياسية أو حزبية حقيقية، وليس بها آليات قادرة على تحقق الفصل والتوازن بين السلطات، أو السماح بالتداول السلمي للسلطة، وعادة ما تدار من خلال آليات وأجهزة أمنية لا تدرك معنى المواطنة أو دولة القانون، ولا تتردد في ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. ولا جدال في أن هذه الأزمة، التي يجسدها غياب الحكم الرشيد، هي المسؤولة عن كل الأمراض والإخفاقات التي يعاني منها العالم العربي، وفي مقدمتها العجز عن تحقيق التقدم والتنمية والعدالة الاجتماعية في الداخل، بالتوازي مع العجز عن تحقيق الوحدة أو التكامل فيما بين الدول العربية والفشل في مواجهة التحديات والأطماع الخارجية، خاصة الأطماع التوسعية للمشروع الصهيوني. فما الذي يستطيع اتحاد أوروبي مأزوم أن يقدمه لعالم عربي مهزوم ومحبط إلى هذه الدرجة؟
الواقع أن أي طرح عقلاني أو منطقي لا بد أن يتوصل إلى نتيجة مفادها، أن الاتحاد الأوروبي يريد من الدول العربية أن تتعاون معه لتحقيق هدفين يسعى إليهما بكل الوسائل والسبل المتاحة الأول: منع الهجرة غير الشرعية من الوصول إلى اراضيه. والثاني: مكافحة التنظيمات المتطرفة، والعمل بقدر الإمكان على تجفيف منابع ومعامل تفريخ التطرف. أما النظم الحاكمة في العالم العربي فتريد من الاتحاد الأوروبي في المقابل: 1- التخفيف من حدة انتقاداته لسياسات أمنية لا تراعي بالضرورة أي ضوابط قانونية أو سياسية تتعلق باحترام حقوق الإنسان. 2- تقديم ما يكفي من المساعدات العسكرية، أو التقنية أو الاقتصادية، أو لتمكينها من تثبيت دعائمها وحمايتها في مواجهة أي مخاطر داخلية أو خارجية قد تتعرض لها، بحجة دعم وحماية الاستقرار السياسي بدون تدخل في شؤونها الداخلية.
قراءة ما بين سطور البيان الختامي لأول قمة عربية أوروبية تكشف عن معادلة ضمنية جديدة لعلاقات عربية أوروبية تقوم مفرداتها على مقايضة التزام الدول الأوروبية بالتغاضي عن انتهاكات النظم العربية لحقوق الإنسان في الداخل، مقابل التزام الدول العربية بمكافحة الإرهاب والهجرة غير الشرعية. وبالطبع لن يجرؤ أي من الطرفين على الاعتراف بوجود اتفاق بينهما حول مفردات هذه المعادلة الخطرة، التي لا أظن أنها يمكن أن تصمد في وجه الأعاصير مهما بلغت درجة الاتفاق الضمني حولها.
القدس العربي