ظهر اليسار على الساحة السياسية التونسية في عشرينيات القرن الماضي، إلا أن تأثيره في التحولات المجتمعية يكاد لا يُذكر. وكان المؤمل أن تطلق الثورة التونسية (14 يناير/كانون الثاني 2011) عنان المكونات اليسارية المختلفة، لتلعب دورها الفاعل في بناء المنظومة الجديدة للديمقراطية الاجتماعية التي تتشكل فصولها (ولو بصعوبةٍ أحياناً)، إلا أن مختلف هذه الأحزاب اليسارية، ممثلة في ائتلافها الحزبي (الجبهة الشعبية) قد فشلت في التموقع السياسي الذي ينسجم مع التاريخ الطويل لمكونات هذه الجبهة التي تمثل طيفاً من أحزاب يسارية ذات مرجعية فكرية ماركسية، ولديها ارتباط وثيق بالشيوعية، وكذلك أحزاب اليسار القومي من منطلقات يوسفية (نسبة إلى الزعيم الوطني صالح بن يوسف 1907-1961)، وصولا إلى الامتدادات البعثية والناصرية. علاوة على حزبي المسار التونسي (الشيوعي سابقاً) والجمهوري (وسطي بين تطرّفي الأحزاب الدينية، حزب التحرير نموذجاً، والأحزاب الماركسية). أما المكون الآخر للطيف اليساري التونسي فتمثله تياراتٌ وشخصياتٌ يساريةٌ داخل المنظمة النقابية المركزية (الاتحاد العام التونسي للشغل والنقابات القطاعية، الجامعة العامة للتعليم وغيرها)، فلدى مكونات هذا الطيف بأسره توجهاتٌ تقدّميةٌ علمانيةٌ، تدعو إلى العدالة الاجتماعية والمساواة التامة بين المرأة والرجل، والإعلان في كل المواقع، ومن كل المنابر، عن الوقوف ضد الهيمنة الإمبريالية الغربية، مدافعين عن السيادة الوطنية والحق العربي في تحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني. وعلى الرغم من هذه المنطلقات والقناعات، يُجمع الملاحظون على أن هذا اليسار ظلّ يدق طبولاً في أرضٍ يباب، ويقرع نواقيسه في مدن الغياب.
تعود جذور اليسار التونسي إلى عشرينيات القرن الماضي، ويُجمع المؤرخون على أن
“تُجمع شرائح عريضة على أن شعارات اليسار التونسي بعيدة عن إكراهات الواقع” التونسيين، منذ ذلك التاريخ، عُرف عنهم في العالم العربي، كما عن الفرنسيين في العالم الغربي، ميلهم إلى العمل النقابي في تمظهراته اليسارية. ويفسّر المؤرخون ذلك بأسباب عدة، كالحضور التاريخي المكثف للتقاليد اليسارية والنقابية الفرنسية في زمن الاستعمار، فالصراع بين الاشتراكيين والشيوعيين في الانتخابات البرلمانية في فرنسا، في أوائل القرن الماضي، وما تلاه من صراعٍ ثان داخل النقابات بين الطرفين في فرنسا الترابية ومستعمراتها، نجده ينعكس مباشرةً على الحزب الشيوعي التونسي الذي تأسس سنة 1920 في شكل فرع من الحزب الشيوعي الفرنسي. ويبرز هذا التأثر بوضوح في إفشال أول تجربتين نقابيتين ذات مرجعية شيوعية للزعيم النقابي الشيوعي الأول، محمد علي الحامي، وبلقاسم القناوي، حين أسّسا تباعاً “جامعة عموم العملة التونسيين” الأولى والثانية (أغسطس/آب 1924) وسنة 1936.
وفي سنة 1944، نجد الزعيم النقابي، فرحات حشاد، ينسحب من النقابة الفرنسية (السي. جي. تي)، ويؤسس النقابات المستقلة في الجنوب التونسي، ثم يؤسس لاحقاً (1946) الاتحاد العام التونسي للشغل. والملاحظ أن مؤسس النقابة اليسارية الشيوعية الأولى في تونس، محمد علي الحامي، تكوّن أكاديمياً في جامعة همبولدوت، في برلين، بين سنتي 1921 و1924، أي في أوج انتصار الثورة الشيوعية سنة 1919، وهي السنة التي دخل فيها، أو قبلها بقليل، إلى ألمانيا التي أصبحت تحت حكم الاشتراكيين. هناك تعرّف على الحركة السبارتكية اليسارية والثورية، واطلع على ما تقوم به روزا لوكسمبورغ مثلا، وقد أمكن له ذلك، لأنه كان طالباً في كلية الفلسفة. وبعودته إلى تونس، بعد فترة قصيرة من تأسيسه أول نقابة تونسية، نفته فرنسا ومات في المنفى في ظروف غامضة. ويعتبر فرحات حشاد، مؤسس الاتحاد العام التونسي للشغل، أول زعيم تونسي عالج علمياً مسألة الشغل، ونشر التحليلات عنها باللغة العربية، وقارع فيها تقنياً الفصول القانونية الفرنسية بالفصول القانونية التونسية.
وبالعودة إلى الحركة الشيوعية، وهي النواة الأولى لليسار في تونس، ظهرت هذه الحركة، في بادئ الأمر، امتداداً للحركة الشيوعية الفرنسية، وعندما انعقد مؤتمر مدينة تور الفرنسية للحزب الاشتراكي الفرنسي، مال أغلب الاشتراكيين الفرنسيين في تونس إلى الحزب الشيوعي الناشئ آنذاك (1920)، وأسسوا لهم أول جامعة شيوعية، أصدرت صحفاً، مساندين حركة محمد علي الحامي النقابية. نشط الشيوعيون في تونس، خصوصاً منذ عام 1936 في عهد الجبهة الشعبية الفرنسية التي كان الحزب الشيوعي الفرنسي أحد مكوناتها. وكان من زعماء اليسار الشيوعي في تلك الفترة، علي جراد وحسن السعداوي وجورج شمامة وأوغست فور، وجورج عدة.
بعد استقلال البلاد (1956)، حاول الحزب الشيوعي أن يتدارك أمره باتباع سياسة تونسة
“خلال مرحلة حكم الزعيم بورقيبة تونس (1956- 1987)، انحسر نشاط اليسار التونسي، بمختلف تياراته” الكوادر، كما نقد ذاتياً مواقفه بخصوص فترة النضال الوطني. ومع ذلك، لم يتمكّن من اكتساب عناصر جديدة، بعد أن فقد العناصر الفرنسية اليهودية التي غادرت البلاد. واقتصر نشاطه على المشاركة في انتخابات 1959 التي لم يفز فيها بأي مقعد. خلال مرحلة حكم الزعيم بورقيبة تونس (1956- 1987)، انحسر نشاط اليسار التونسي، بمختلف تياراته (شيوعيون، ماركسيون، تروتسكيون، قوميون، بعثيون، إلخ…) داخل فضاءات الجامعة التونسية، وتميزت خلال هذه الفترة حركة “آفاق” اليسارية وحزب العمال التونسي، وأغلب عناصرها درست في الجامعة الفرنسية، وقد زج النظام زعماء هذه الحركة في السجون، ومن أبرزهم محمد الشرفي ونور الدين بن خذر ومحمد بن جنات ومحمد الكيلاني والفاضل الغدامسي وحمة الهمامي. وقد ظل الاتحاد العام لطلبة تونس، منذ أوائل السبعينيات، أهم التنظيمات اليسارية الطلابية في الجامعة التونسية، وما زال اليساريون يحتفلون بذكرى “حركة فيفري” (فبراير) 1972 التي جاءت ردّة فعل على الانقلاب الذي قامت به السلطة آنذاك في مؤتمر قربة (1971) وفرضها بالقوة قيادة طلابية موالية لها. وكان من نتائج الصدام بين السلطة والاتحاد العام لطلبة تونس (اليسار) قرار مجلس الوزراء، يوم 8 فبراير/شباط 1972، إغلاق كلية الآداب وكلية الحقوق، ليجد 11489 طالباً أنفسهم في عطالة جامعية امتدت أكثر من شهرين.
بعد الثورة وفشل اليساريين في انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2011، وهي أول انتخابات ديمقراطية في تونس، طرح الراحل شكري بلعيد مشروع توحيد التنظيمات والأحزاب اليسارية في حزب يساري كبير، وتم تأسيس الجبهة الشعبية سنة 2012، وقد ضم هذا القطب اليساري أطرافاً قومية ناصرية وعروبية يسارية، وأطرافاً بعثية وشخصيات تقدمية. وقد شاركت
“احتكار “الثورية”، وجمود هذه الخطابات الفوقية، عطلت اللحظة الثورية لديهم” مكونات هذه الجبهة في انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2014، وحصلت على 15 مقعداً في البرلمان التونسي (217 مقعداً). والملاحظ أن مساهمات اليسار بنوابه في البرلمان تكاد تقتصر على الاحتجاج السياسي والاجتماعي، وإدانة كل الحكومات المتعاقبة، والتخندق المطلق في صفوف المعارضة الراديكالية، من دون تقديم البدائل والبرامج، ما جعل أدبيات الجبهة اليسارية وبياناتها تغرّد خارج السرب، وكان عليها أن تقوم بمراجعة نقدية لتجربة اليسار التونسي عبر تاريخه الطويل، وأن تعمل على نشر القيم والمفاهيم الحديثة، تناغماً مع الواقع الجديد الذي أفرزته النيوليبرالية وثورة الروبوتات والثورة المعلوماتية والاتصالية، بعد أن اتضح أن الكثير من تحاليل “رأس المال” لماركس و”ما العمل للينين” عن كيفية اشتغال الرأسمالية وعن كيفية الاستيلاء على السلطة السياسية، لم تعد تشفي الغليل، لأنها صالحة لواقع القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، في أرضٍ أخرى بعيدة عن الأرض التونسية في اللحظة الراهنة.
اليوم، وانطلاقاً من الواقع التونسي، يجمع الملاحظون، وكذلك شرائح عريضة من الشعب، على أن خطابات مختلف أطياف اليسار التونسي تطلق شعاراتٍ يراها المواطن البسيط بعيدة كل البعد عن إكراهات وتعقيدات الواقع الذي يعيشه التونسيون بمختلف شرائحهم، فاحتكار “الثورية”، وجمود هذه الخطابات الفوقية، عطلت اللحظة الثورية لديهم، ولم تستطع نفض الغبار عنها. وكان من الطبيعي ألا تحظى هذه الخطابات (النارية) بالمكانة المتوقعة في الساحة السياسية التونسية. ولعل هذا ما يفسر فشل اليسار في انتخابات 2011 و2014، وعدم تمكّن الزعيم اليساري للجبهة الشعبية، حمّة الهمامي، من المرور إلى الدور الثاني للانتخابات الرئاسية.
العربي الجديد