قضى الناشط الروسي بحركة مناهضة الفاشية، أليكسي سوتوغا، أربع سنوات مسجونا بتهمة المشاركة في الاشتباكات مع النازيين الجدد، وبالرغم من ذلك يشعر بارتياح لدوره هو وأنصاره في تراجع مكانة حركات اليمين القومي المتطرف مجتمعيا وانخفاض عدد الجرائم المرتكبة لأسباب عرقية، “وهذه حقيقة” يؤكدها رئيس منظّمة “وطندوش” التي تجمع أبناء الجالية الأوزبكية في روسيا، عثمان باراتوف، الذي يشعر بالأسف لاستمرار العنصرية بحق المهاجرين ولكن من قبل السكان العاديين.
وتراجع عدد ضحايا الاعتداءات على أساس عرقي من 83 اعتداء (من بينها عشر وفيات) في عام 2016، إلى 71 (من بينها ست وفيات) في عام 2017، بحسب إحصاء مركز “سوفا” للمعلومات والتحليل (غير حكومي متخصص في دارسة قضايا العنصرية ورهاب الأجانب والعلاقات بين الدين والمجتمع والراديكالية السياسية وقيم الليبرالية وحقوق الإنسان).
انتشار حليقي الرؤوس
عرفت روسيا خلال العقد الأول من القرن الحالي بانتشار واسع للحركات النيونازية والمعروفة إعلاميا باسم “حليقي الرؤوس” والذين رفعوا شعار “روسيا للروس”، وسط ارتفاع خطير في عدد حوادث الاعتداءات على الأجانب من غير السلافيين وصلت إلى حد القتل. ووفق بيانات لجنة التحقيق التابعة للنيابة الروسية، فإن عدد حوادث القتل لأسباب عرقية ارتفع من 152 حالة في عام 2005 إلى 548 في عام 2009.
إلا أن حركات اليمين القومي بدأت تتراجع في ما بعد، بل تختفي من المشهد، بعد صدور أحكام بالسجن بحق عدد من عناصرها وتفاقم الانقسامات الداخلية بسبب الأزمة الأوكرانية. وتكشف إحصاءات قسم القضاء بالمحكمة العليا الروسية عن ارتفاع عدد المدانين بموجب المادة 282 (إثارة الكراهية أو الفتنة وإهانة الكرامة الإنسانية) من القانون الجنائي الروسي، من 137 مدانا في عام 2011 إلى 414 مدانا عام 2015. ووفقا للجهة نفسها، تمت إدانة 460 شخصا في عام 2017، أحدثها حكم السجن لمدة 16 عاما بحق زعيم مجموعة “نيفاغراد-2” النيونازية، وما بين أربع وتسع سنوات بحق 18 معاونا له أدينوا في مايو/ أيار الماضي بتهم القتل وإثارة الكراهية والفتنة والسرقة وغيرها.
ضربة قاضية
كُشِف عجز القوميين عن حشد أنصارهم في “يوم الوحدة الشعبية” (عيد وطني روسي)، الذي صادف 4 نوفمبر/ تشرين الثاني، إذ لم يشارك في “المسيرة الروسية” في موسكو سوى 300 ناشط يميني.
وتعد حركة “حليقي الرؤوس” أو “النازيين الجدد” كيانا غير متجانس ومكون من مجموعات متفرقة من الشباب التفت حول شعارات عنصرية ومواجهة غير السلافيين. ويرجع الناشط سوتوغا تراجع نشاط حركات اليمين المتطرف الروسي بهذا الشكل إلى مجموعة من العوامل، قائلا في حديث لـ”العربي الجديد”: “قبل بضع سنوات، ألحقت السلطات الروسية ضربة قاضية بالقوميين بمجموعة من قضايا جنائية بعدما لم تعد بحاجة إليهم. إذ كانت السلطة سابقا تحتاج إلى القوميين كفزاعة لترويع رجال الأعمال أولا، ثم المجتمع المدني واليساريين”.
بالتوازي مع تراجع الحركات القومية، بدأت تتجلى ملامح حركات وطنية وليدة سلمية ومعتدلة في شعاراتها موالية للكرملين، مثل “ناشي”، وتعني (Ours)، و”محليون” و”رومول” (“روسيا الشابة”)، وهو أمر يرجعه سوتوغا إلى خروج النازيين الجدد عن السيطرة وتورطهم في حوادث قتل المناهضين للفاشية، مضيفا أن “السلطة أكدت أنه من الأفضل الاستثمار في الحركات الموالية للكرملين، كلما توفرت فزاعات خارجية، مثل أوكرانيا والغرب وحلف الناتو”.
إلى جانب تشديد موقف السلطة من القوميين، بات هؤلاء يعانون انقسامات داخلية منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية عام 2014. ويوضح سوتوغا طبيعة هذا الانقسام، قائلا: “انضم قسم منهم إلى الكتائب اليمينية الأوكرانية، مثل (آزوف)، إيمانا منهم بأن أوكرانيا باتت نموذجا يقتدى به لدولة سلافية قومية، وبالنسبة إليهم فإن الأوكرانيين والروس شعبان سلافيان، ولكن أوكرانيا دولة قومية سلافية ناجحة بمقاييسهم، بينما روسيا فشلت في ذلك، بينما قاتل آخرون في صفوف قوات (جمهورية دونيتسك الشعبية) دفاعا عن فكرة العالم الروسي”.
خطاب يميني
مع تدفق ملايين المهاجرين من آسيا الوسطى إلى روسيا بحثا عن الزرق مستفيدين من إعفائهم من التأشيرات كونهم من مواطني الجمهوريات السوفييتية السابقة، باتت الهجرة من القضايا الحاضرة بقوة في الحياة السياسية الروسية بشقيها النظامي وغير النظامي. ووفق أرقام الأمم المتحدة، فإن عدد المهاجرين والمغتربين (بعضهم يعود لاحقا إلى بلده) المقيمين في روسيا يبلغ نحو 12 مليونا، ما يضعها في المرتبة الثانية عالميا بعد الولايات المتحدة، وفق ما جاء في التقرير الصادر عن إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية للأمم المتحدة في نهاية عام 2017.
ويعرف زعيم الحزب الليبرالي الديمقراطي الروسي، فلاديمير جيرينوفسكي، الذي يمثل ثالث أكبر كتلة في البرلمان، بلهجته المعادية لغير الروس في خطابه السياسي، ودعواته لفرض تأشيرة دخول على القادمين من آسيا الوسطى وجمهوريات جنوب القوقاز، كما أن عمدة موسكو، سيرغي سوبيانين، المدعوم من حزب “روسيا الموحدة” الحاكم، أعرب قبيل انتخابات رئاسة بلدية العاصمة الروسية عام 2013، عن عدم ترحيبه بتوطين المهاجرين وضرورة حصر دورهم بالأعمال الموسمية.
إلا أن سوتوغا يعتبر أن “الليبرالي الديمقراطي” ليس حزبا يمينيا بنسبة 100 في المائة، بل يصف أعضاءه بأنهم “ليبراليون شعوبيون يعتمدون خطابا قوميا لاستغلاله عند الضرورة”.
إلى ذلك، فإن زعيم المعارضة “غير النظامية” الروسية، أليكسي نافالني، معروف أيضا بشعاراته القومية اليمينية، بما فيها “كفانا نطعم القوقاز”، في إشارة إلى الدعم الضخم الذي تحصل عليه جمهوريات شمال القوقاز الروسي من الميزانية الفيدرالية. وفي هذا السياق، يوضح سوتوغا أن “اليمينيين القوميين الروس يرون في نافالني وفي شعاراته تجسيدا لهم، ويشارك بعضهم في أنشطة مقاره في مختلف المدن”.
العنصرية في الحياة اليومية
يقر رئيس منظّمة “وطندوش” عثمان باراتوف، بتحسن كبير في السنوات الماضية في ما يتعلق بالأوضاع الأمنية للمهاجرين وتراجع حالات الاعتداء عليهم، دون أن ينعكس ذلك على المعاملة السيئة التي لا يزالون يتلقونها من المواطنين العاديين وأصحاب العمل والشقق المعروضة للإيجار، بما يصل إلى حد نظام الأبارتايد (الفصل العنصري)، كما يصفه.
يقول باراتوف في حديث لـ”العربي الجديد”: “أخيرا باتت المادة 282 (الخاصة بإثارة الكراهية أو الفتنة) من القانون الجنائي الروسي يسري مفعولها على أرض الواقع، وتم سجن بضعة أشخاص بموجبها، فبات (حليقو الرؤوس) يخافون من ممارسة أعمالهم، ولكن العنصرية في الحياة اليومية لا تزال قائمة كما هي”.
ويضرب أمثلة على ذلك، قائلا: “ذات مرة، أجريت اتصالا للاستفسار عن وظيفة، فتمت مواجهتي بسؤال حول قوميتي وما إذا كنت سلافيا أم لا. وفي أحيان كثيرة، يسمع المهاجرون كلمة (بونايخالي) (تعبير مهين يعني حرفيا “حضروا بكثرة”) من السكان المحليين، كما يرفض أصحاب العقارات تأجيرها لغير السلافيين في حالات كثيرة”.
وأظهر مسح لمواقع إعلانات تأجير الشقق أجراه معد التحقيق، أن العديد من الإعلانات تشترط صراحة أن يكون المستأجر سلافي الشكل (أي روسياً أو أوكرانياً أو بيلاروسياً).
العربي الجديد