تزامنا مع تواصل عدم اتضاح الرؤية بشأن المستقبل السياسي في ليبيا رغم إعلان رئيس حكومة الوفاق الوطني فائز السراج عن اتفاقه مبدئيا مع القائد العام للقوات المسلحة الليبية المشير خليفة حفتر على إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية وإنهاء التصعيد العسكري، ظل النزاع على النفط -تحت يافطة من يستحوذ على البترول ينتصر في الحرب- من بين أهم العوامل المعرقلة لتطوير الاقتصاد الليبي طيلة ثماني سنوات من الصراع وهو ما أكدته المؤسسة الوطنية للنفط التي أعلنت عن تراجع إجمالي إيرادات مبيعات النفط نحو 30 بالمئة على أساس شهري في يناير الماضي، ليتراجع بالتالي إجمالي مبيعات النفط إلى 1.6 مليار دولار في نفس الفترة بانخفاض قدره 680 مليون دولار.
طرابلس – بعد رفع حالة الطوارئ القاهرة التي استمر فرضها في حقل الشرارة النفطي (أكبر حقل نفطي في ليبيا) منذ ديسمبر 2018، تأمل المؤسسة الوطنية للنفط الليبي في أن يعود الإنتاج إلى سالف نشاطه وذلك بإبعاد الثروة النفطية عن كل المساومات والصراعات السياسية التي نخرت اقتصاد البلاد القائم أساسا على المنتجات البترولية.
وكلّفت سيطرة مجموعة مسلحة متكونة من حراس ورجال قبائل حاولوا المساومة قصد الحصول على منافع مالية، خسائر هامة للحقل المذكور الذي تبلغ طاقته الإنتاجية 315 ألف برميل يوميا.
ووفق إحصاءات المؤسسة الوطنية للنفط، أدى تردي الأوضاع الأمنية في الجنوب وعدم كبح جماح الجماعات المسلحة إلى تعرض قطاع النفط في ليبيا إلى ظروف صعبة منذ نهاية العام الماضي، وهو ما أدى إلى تراجع إجمالي إيرادات مبيعات النفط نحو 30 بالمئة على أساس شهري في يناير الماضي، ليتراجع بالتالي إجمالي مبيعات النفط إلى 1.6 مليار دولار في نفس الفترة بانخفاض قدره 680 مليون دولار.
ومن بين الأسباب التي أدت إلى خنق شريان الاقتصاد الليبي تمثّلت دون شك في انعكاس الأزمة السياسية بالبلاد على الحقول النفطية، حيث ظل النفط في السنوات الأخيرة من أهم الأسلحة التي يراهن عليها الفرقاء الليبيون للانتصار في الحرب، وقد أدت سيطرة الجيش الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر على حقلي الشرارة والفيل جنوب البلاد إلى قلب كل موازين القوى قبل التوافق بصفة رسمية ونهائية مع حكومة الوفاق الوطني على مواعيد رسمية لإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية خلال العام الجاري.
وظلّت المؤسسة الوطنية للنفط الخاضعة لسيطرة حكومة الوفاق الوطني في طرابلس بقيادة فائز السراج محل تجاذب كبير بين الأطراف المتصارعة، لكونها تعد أهم مؤسسة في البلاد لأنها تمتلك كل الحقول النفطية في كل من الجنوب الشرقي والغربي لليبيا.
حول كل هذه الملفات، قال رئيس المؤسسة الوطنية للنفط مصطفى صنع الله في حوار أدلى به لـ صحيفة “زييت الألمانية” إن المجموعات المسلحة تشكل أكبر التحديات التي تواجه عمل المؤسسة، مؤكدا أنه “على الرغم من أن المؤسسة وعملها محميان بعدد من قرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة التي تعترف بعمل المؤسسة فإن الكثير من المجموعات المسلحة لا تحترم ذلك وتستغل الانفلات الأمني لكسب الأموال”.
واتهم صنع الله حرس المنشآت النفطية التابعين لوزارة الدفاع بأنهم ينقسمون إلى مجموعات مسلحة تعمل بشكل مستقل وتهدد عمل المؤسسة وسلامة حقولها.
وأكّد أن كافة الحقول التي تقع في المنطقة الشرقية والخاضعة لحماية قوات الجيش بقيادة المشير خليفة حفتر تقوم بعملها بشكل مهني على عكس منطقة الغرب التي تتمركز بها ميليشيات مسلحة تخلق مشكلات عديدة للمؤسسة الوطنية للنفط.
وبشأن الصراع الدائم حول المنشآت النفطية بليبيا يقول صنع الله “نمتلك حقولا نفطية في كل من الجنوب الشرقي والغربي، وبالقرب من الحدود المصرية والجزائرية، بالإضافة إلى شركات خارجية. ولذلك يجب أن نبقى محايدين ومستقلين، ويجب أن نبقى بعيدا عن الصراعات السياسية والعسكرية. فدون إنتاج النفط والغاز وبيعهما، ستنهار ليبيا تماما وسوف تشل كل حركتها الاقتصادية”.
وقامت الميليشيات منذ سنوات وفي أكثر من مرة باستهداف حقول النفط ومصافي التكرير، ما أدى إلى شل حركة إنتاج النفط التي تعد المحدّد الأول لدفع عجلة الاقتصاد الليبي.
ويقول رئيس المؤسسة الوطنية للنفط إن هذه الجماعات المسلحة عادة ما تتكون من حرس المنشآت الذين يعملون لصالح عصابات إجرامية مقابل الحصول على أموال طائلة، ولذلك وجب على الدولة إصلاح جهاز الأمن لضمان إخلاص أفراد الأمن للمؤسسة ولإنتاج النفط، وذلك بتكليف أعوان غير منتمين إلى العشائر.
ويفسر اشتراطه عدم انتماء الأعوان إلى القبائل والعشائر بسبب تولي قادتهم السيطرة على حقول النفط خلال الفوضى التي تلت الثورة. ويضيف أن المشكلة تكمن في أن جماعات مسلحة “تحاول توظيف الحصار لابتزازنا والحصول على أموال منا، تحاول السلطات التفاوض معهم، لكنهم لم يتركوا مجالا لهذا”.
وفي قلب كل هذه الفوضى التي تعم المنشآت النفطية تتهم أجهزة الدولة بعدم التعاطي بجدية مع الأشخاص المتورطين في شل إنتاج النفط، مما جعل الكثيرين يتهمون هذه الميليشيات المسلحة بالولاء لحكومة الوفاق الوطني في إطار خطة لمنع الجيش الوطني من التقدّم للسيطرة على حقول الجنوب.
ويقول رئيس المؤسسة الوطنية للنفط “على هؤلاء الأشخاص أن يعلموا أن هناك عواقب قانونية قاسية إذا ما توقف إنتاج النفط بسببهم، ولم تعد المدن تملك الكهرباء”، وتابع “نسلم أسماءهم إلى المدعي العام، نعطيه كل المعلومات التي نملكها عن هؤلاء الأشخاص وعن تجاوزاتهم ونذكر الخسائر والأضرار التي تعرضنا إليها نتيجة الحصار، ثم يصدر مكتب المدعي العام مذكرات توقيف لمنعهم من مغادرة البلاد”. ويوجه رسالة لكل من تورّط في وقف إنتاج النفط بقوله “لا يمكن أن يعثر هؤلاء المجرمون على ملاذ في ليبيا، نريد أن تكون ليبيا دولة يحكمها القانون والمؤسسة الوطنية للنفط تخضع إلى سلطة القانون”.
ومع تزامن انقطاع إنتاج النفط في الجنوب الليبي وإعلان الجيش الليبي منذ منتصف شهر يناير انطلاقه في تطهير الجنوب من الإرهاب وخاصة ما تبقى من مقاتلي داعش، اختلفت التصنيفات للجماعات المسلحة التي سيطرت على المنشآت النفطية خاصة مع تقديم أنفسهم بأنهم منتمون لتنظيم الدولة الإسلامية.
إلا أن صنع الله يقول “لا أعرف ما إذا كان المهاجمون ينتمون إلى داعش. يستخدم العديد منهم اسم التنظيم ليبدوا أكثر أهمية”. وتسبب داعش بمشكلات كبيرة في أوائل سنة 2015، حيث استولى على خمسة حقول نفطية، مما ألحق أضرارا بالغة بالقطاع بعد أن سعى التنظيم المتطرف لمنع ليبيا من الاستفادة من عائدات النفط. وعلاوة على الجماعات المسلحة ومقاتلي تنظيم داعش فقد عانت ليبيا أيضا في السنوات التي أعقبت الثورة منذ عام 2011 من أزمة المهربين للمنتجات النفطية، حيث تراجعت قوة الدولة فحاولت عدة أطراف نافذة استغلال الوضع ونهب مدخرات النفط وتهريبه إلى دول عربية مجاورة أو أوروبية عبر البحر.
ويؤكّد مصطفى صنع الله أن تهريب النفط يمثل مشكلة كبيرة لليبيا، “حيث تسيطر الميليشيات المحيطة بمدينة الزاوية على المستودعات والشاحنات، وتنظم عمليات بيع غير قانونية. وتقوم بتهريب الوقود عبر الحدود وإلى البلدان المجاورة مثل تونس″.
ويشير إلى أن أجهزة الدولة تحاول ردع هؤلاء المهربين بقوله “في الآونة الأخيرة، أغلق المدعي العام 103 من هذه المحطات الاحتيالية، ومحطات الوقود التي عملت على إعادة بيع البنزين المهرب بشكل غير قانوني بأسعار مرتفعة. وأضيفوا إلى قائمة سوداء. نأمل أن تخيف هذه الخطوات المهربين الآخرين”.
ولا يقتصر تهريب النفط الليبي على المسالك البرية بل أصبح يتم تهريبه على قوارب إلى أوروبا في وضح النهار عبر مالطا وإيطاليا، وهو ما ألحق خسائر بحسب صنع الله تقارب ثلث البنزين المنتج في ليبيا، حيث كلف تهريب الوقود المنظم الاقتصاد الليبي أكثر من 750 مليون دولار كل عام. ومن بين وسائل الردع المتاحة لتلافي هذه المعضلة يأمل رئيس المؤسسة الوطنية للنفط في أن يتم تمديد فترة عمل البعثة البحرية للاتحاد الأوروبي “صوفيا” بقوله “ساهمت البعثة في المساعدة على تعقب مهربي الوقود. لذلك، نأمل أن يتم تمديد فترة عملها”.
وفي هذا الصدد كان مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة قد أصدر أيضا قرارا يحظر تهريب البنزين بالإضافة إلى النفط الخام. وفي الأشهر الأخيرة، شنت غارات على نطاق الاتحاد الأوروبي أدت إلى اعتقال عدد من المهربين. كما تم كشف عصابة تهريب كبيرة. وتتهم عدة دول أوروبية منها إيطاليا ومالطا بتوظيف شبكات تهريب تستنزف مقدرات النفط الليبية، إلا أن مصطفى صنع الله يقول “بعض الوكالات المالطية والإيطالية ساعدت المسؤولين الليبيين على التحقيق في حلقة التهريب، لكن لا يعني هذا غياب الفساد في تلك الدول أو عدم استفادة أي شخص في الحكومة المالطية من التهريب”.
ودعا إلى المزيد من الضغط السياسي على جميع الأطراف المعنية وتطوير آليات فعالة لفضح شبكات التهريب وإيقاف نشاطها على المدى الطويل، لأن ليبيا لا يمكنها وقف التهريب بمفردها. ويرتبط التهريب في ليبيا بصفة مباشرة باستقواء الميليشيات المسلحة لتجد مدخرات هامة لشراء الأسلحة لأن العملية تكسبها الملايين من الدولارات التي تجعلها قادرة على مزيد تجنيد الشباب الليبي الذي ضاق ذرعا من الأوضاع المتردية في ليبيا طيلة ثماني سنوات.
ووفق مصطفى صنع الله، أدت معضلة التهريب إلى صناعة أشخاص أصبحوا قادرين على شراء النفوذ والسلطة، رغم أنهم لا يهتمون برفاه البلاد ومصالحها، في وقت يقاتل فيه الليبيون من أجل البقاء، ولا يمتلك الكثير منهم أي وظائف أو مصادر للدخل.
وعلى وقع كل هذه الأزمات التي يتخبط فيها النفط الليبي منذ سنوات، يأمل الليبيون في فض الصراع على الشرعية والسلطة الدائر بين حكومة الوفاق في العاصمة طرابلس (غرب) وخليفة حفتر المدعوم من مجلس النواب المنعقد بمدينة طبرق في الشرق، خاصة مع بروز توافقات أولية بشأن الاستحقاقات الانتخابية المدفوعة سياسيا من قبل دول الجوار الليبي تونس والجزائر ومصر.
العرب