منذ أن كلّف الرئيس العراقي برهم صالح، عادل عبد المهدي، في تشربن الأول – أكتوبر من العام الماضي بتشكيل الحكومة الجديدة ، ليخلف رئيس الوزراء السابق، حيدر العبادي ، يُدرك بأن حكم دولة كالعراق تعاني من أزمات حادة وعلى مستويات مختلفة حادة ، فمهمته ليست سهلة ، وإنما صعبة للغاية ، فعادل عبد المهدي “رجل التوازنات” قَبِل تحمل هذه المسؤولية الشاقة من منطلق وطني خدمة للدولة والشعب العراقي من أجل عودة التماسك الاجتماعي العراقي الذي عانى الكثير في مرحلة ما بعد عام 2003م، ومن أجل أيضًا عودة العراق إلى الخارطة العربية والإقليمية والدولية، فالعراق مركز تقاطع للأمم الثلاث “العربية، والفارسية، والتركية”، واهتمام دولي، فتماسكه يعني تماسكاً لأمم الشرق الأوسط الثلاث، وتفكّكه يعني بالضرورة إعادة رسم للجغرافيا السياسية للمنطقة برمتها ، فتقسيمه ممنوع، وبقاؤه دولة قلقة غير ممكن، فأنموذج دولة التوازن هو الخيار الأفضل له وللمنطقة بأسرها ، فالعراق ومنذ تأسيس الدولة العراقية في التاريخ المعاصر لم يكن ذات يوم دولة هامشية وإنما دولة لها دور مؤثر في بيئة الشرق الأوسط ، وهذا ما يسعى إليه عادل عبد المهدي بكل جدية وإخلاص في استعادة العراق هذا الدور.
قبل أشهر من تكليفه تشكيل الحكومة العراقية، كتب رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي مقالاً في جريدة «العدالة»، التي يشرف عليها ويطرح من خلالها آراؤه ورؤاه لكيفية بناء الدولة، مقالاً حمل عنواناً مثيراً، وهو «أشكركم فالشروط غير متوفرة». ، وضح وبيّن فيه الخطر الحقيقي على أية عملية إصلاح اقتصادية وسياسية في العراق ، وقد يلاحظ الكثيرين مهارة الرجل في إدراكه لهذه المشاكل وقدرته على تشخيصها بشكل حقيقي ، فقد بدأ هذه النقاط بتشخيص المشكلة الريعية للاقتصاد العراقي وما تشكله من عائق ، أما باقي قطاعات الإنتاج ، كما أشار الى معارضة القوى السياسية لنهج الإصلاح الاقتصادي لما اعتادوا عليه من عقلية الدولة الريعية كما وصفهم ، وتناول قضية الفصل بين السلطات وقيام المؤسسات الدستورية، ومشكلة الفساد الإداري، ودعم التشكيلات العسكرية الساندة، كما أشار الى العلاقات الدولية المبنية على أسس المنطق لا على أساس التبعية.
فبعد أن طوى العراق في عهد حيدر العبادي رئيس الوزراء العراقي السابق، بشكل كبير صفحة تنظيم داعش الإرهابي، تنتظره الآن وفي عهد عادل عبد المهدي رئيس الوزراء الحالي ، معركة شرسة لا تقل أهمية عن المعارك ضد تنظيم داعش الإرهابي، وهي معركة تحرير العراق من الفساد في كافة أشكاله ، فقد تعهد رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي بمكافحة الفساد هذا العام والتعامل مع الفاسدين بوصفهم لا يقلون خطرا عن تنظيم داعش ، وقال عبد المهدي خلال الاجتماع الأول للمجلس الأعلى لمكافحة الفساد الذي أعيد تشكيله “إن الهدف من تشكيل المجلس الأعلى لمكافحة الفساد هو تمكينه من اتخاذ الإجراءات الرادعة ، وتوحيد جهود الجهات الرقابية في سياق عمل جديد قادر على التصدي لأية جهة أو شخص مهما كان موقعه ، وأن نتصرف كدولة في كشف الفساد وحماية المجتمع والمواطنين والمال العام على حد سواء”.
وأضاف عادل عبد المهدي “ان هذا الإجراء يأتي تنفيذا لما تعهدنا به في منهاجنا الحكومي الذي صادق عليه مجلس النواب وأصبح واجب التنفيذ”، مبينا أنه «أمام ذلك يجب أن يتمتع المجلس الأعلى لمكافحة الفساد بالصلاحيات الإدارية والقانونية الكافية للسيطرة على ملف الفساد ومعرفة مواطنه ومكامن الخلل في المتابعة والتنفيذ».
كما أكد على ضرورة «المضي بمسار واحد من أجل تحقيق مخرجات واضحة ومنع الضرر الفادح الذي أصبح يهز صورة الدولة والمجتمع وسمعة المواطنين بشكل عام، ولا بد من وضع حد لهذا التداعي ، واعتبار الفساد عدوا مثل كعصابة داعش الإرهابية».
لا شك أن مواجهة الفساد من قبل عادل عبد المهدي ستكون مواجهة في غاية الصعوبة ، لأن هذا الفساد مرتبط باللوبيات التي تسيطر على مفاصل الدولة العراقية، والمرتبطة بأحزاب ومليشيات متنفذة، بالإضافة إلى عقبة “الدولة العميقة” المتمثل بحزب ما والمتحالفين معه الذين قد يعمل بعضهم على إفشاله وعدم التجاوب معه، فهي مواجهة مركبة مع دولة عميقة وفساد مستشري واقتصاد هش.
وما أدل على حرص عادل عبد المهدي في مواجهة الفساد والتقصير والاهمال في أداء واجب المسؤولية، طلبه من مجلس النواب، إقالة محافظ نينوى نوفل العاكوب، على خلفية كارثة العبارة النهرية التي غرقت الخميس الماضي، وأودت بحياة العشرات، معظمهم من النساء والأطفال.
وقال عبد المهدي، في رسالة وجهها إلى رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي، إنه “نظراً للإهمال والتقصير الواضحين في أداء الواجب والمسؤولية، ووجود ما يدل من تحقيقات تثبت التسبب بالهدر بالمال العام، واستغلال المنصب الوظيفي، نقترح عليكم إقالة المحافظ ونائبيه”.
وعليه صوّت مجلس النواب العراقي، يوم الأحد الفائت، على إقالة محافظ نينوى نوفل العاكوب، ونائبيه عبد القادر سنجاري وحسن العلاف، على خلفية فساد مالي وإداري، وإحالتهم إلى القضاء.
ونظرًا لأهمية ترتيب البيت الداخلي في العراق، فإن عادل عبد المهدي اعتذر عن قيامه بزيارات رسمية إلى دول عربية قبل اتمام برنامجه الحكومي، وهذا ما وضحه بالتالي: “يعلم شعبي الكريم بأنني تعهدت بعدم مغادرة البلاد قبل إنهاء المستلزمات الضرورية لتنفيذ البرنامج الحكومي، وبالفعل انتهينا من اقرار البرنامج وانجاز المهام التي كان من المطلوب انجازها خلال الأشهر الاولى من عمر الحكومة، ولقد أجلت سفرة عمل مهمة الى الشقيقة الكبرى مصر مرات عديدة بدعوة من الرئيس السيسي، ومنذ اكثر من شهرين والعمل جار على وضع الترتيبات الكاملة لإنجاز الزيارة في يومي ٢٣-٢٤ من الشهر الجاري، ليس لعقد اللقاء الثنائي مع الرئيس المصري فقط ، بل لعقد لقاء ثلاثي سيشترك فيه العاهل الأردني ايضا، أشعر بحرج كبير على تركي البلاد في هذه الظروف خصوصا بعد حادثة العبارة في الموصل العزيزة ، وإعلان حالة الحداد لمدة ثلاثة أيام، لكن طبيعة الزيارة باعتبارها “زيارة عمل” هدفها الأول خدمة العراق والعراقيين ولأهمية اللقاءات المرتقبة وما تحققه من مكاسب للوطن والمنطقة، ولصعوبة تأجيل الزيارة مرة أخرى بعد الاعدادات المعقدة والطويلة لا يسعني إلا المضي قدما في هذه الزيارة وسأعود الى البلاد غدا ان شاء الله، هذا وسأبقى متابعا لكافة الاوضاع سواء في نينوى او في البلاد بالتوكل على الله سبحانه وتعالى وبمعونة اخواني وشعبي الكريم العظيم.
لذا يرى المتابعين للشأن العراقي أن عادل عبد المهدي قادر على مواجهة التحديات التي تنتظره من خبرةٍ سياسية طويلة، ومن علاقات حسنة تربطه بأغلب المكونات السياسية العراقية، ومن كونه رجل تسويات، لا رجل مواجهات، ما يضعه خارج الاستقطابات المحلية والإقليمية والدولية، إضافة إلى تمتعه بعلاقات جيدة بأكثر القوى السياسية السُنية، تربط عبد المهدي علاقات تاريخية بالساسة الكرد، ما قد يسهم في تحسين العلاقة بين بغداد وإقليم كردستان، التي شابها توتر واضح خلال حقبتَي المالكي والعبادي، لا تتحمل بغداد وحدها – بكل تأكيد – مسؤوليتها، ولا سيما بعد أزمة الاستفتاء في استقلال كردستان، وما تلاه من تداعيات، مثل إعادة انتشار الجيش العراقي في كركوك والمناطق المتنازع عليها (أيلول/ سبتمبر – تشرين الأول/ أكتوبر 2017).
أمّا على المستوى الإقليمي، فيُعدّ عادل عبد المهدي شخصاً توافقياً، كما هو الشأن على المستوى الداخلي، وليس مصادفة أن يُطرح اسمه ثانيةً لرئاسة الوزراء، إذ سبق أن طُرح إبان أزمة 2010، بعد فوز القائمة العراقية بقيادة علاوي بالمرتبة الأولى، لكن المالكي تولى رئاسة الوزراء على الرغم من ذلك، بدفع من إيران التي ضغطت لإنشاء ائتلاف أوسع مكن هذا الأخير من تشكيل الحكومة، وفي سياق التنافسات والصراعات الإقليمية الحادة في المنطقة، لا يُعرَف أنّ طرفاً إقليمياً محدداً يعارضه، فهو غير محسوب على الخط الإيراني، وفي الوقت نفسه لا ينتهج سياسات معارضة للتوجهات الإيرانية، كما أنه مقبول أميركياً، وإن لم يكن مرشح الولايات المتحدة لمنصب رئيس الوزراء، وفضلاً عن ذلك، فإن لعبد المهدي صلات قوية بالمنظمات الدولية، أنشأها عندما تولى حقيبتَي المالية والنفط، وفي عام 2004 أدار ملف العراق في نادي باريس لإعادة جدولة ديونه، ما يعني أنه ربما يكون الخيار الأمثل لرئاسة الحكومة في هذه المرحلة التي يُتوقع أن تشهد تصاعداً في الصراع الأميركي – الإيراني، خاصة في العراق.
ولحرص عادل عبد المهدي على إعادة العراق إلى بيئته العربية، اجتمع يوم الأحد الفائت بالقاهرة، مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، والعاهل الأردني الملك عبدالله الثاني ، في أول لقاء قمة ثلاثية بين قادة الدول الثلاث منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي، فهذا الاجتماع العربي سبيل في تعزيز العلاقات بين هذه الدول على الصعيد الدبلوماسي والاقتصادي والأمني والعسكري.
خلاصة القول، عراق اليوم بأمس الحاجة إلى جهود عادل عبد المهدي لإعادة ترتيب وضع العراق وإعادته إلى وضعه الطبيعي ، ومن أجل ذلك سيحتاج عادل عبد المهدي إلى مستشارين متمرسين في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية والثقافة والاقتصاد والمال والخدمات ، كي يتمكن من إحداث التغيير المطلوب في القضاء على الفساد وتوفير الخدمات الأساسية والأمن والوظائف ، ويعيد للعراق استقراره، فهو بمثابة الفرصة الأخيرة لعراق مستقر ومزدهر.
وحدة الدراسات العراقية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية