هل هي صدفة أم عمل سياسي مدبّر أن يتزامن تقدم الجيش الوطني الليبي للسيطرة على طرابلس، مع الإعلان عن تنحية عمر حسن البشير عن رئاسة السودان، وتكوين مجلس عسكري انتقالي يدير البلاد. في الحالتين هناك مقدمات لضربة موجعة توجّه للتيار الإسلامي في المنطقة العربية.
تستهدف العملية التي بدأها الجيش الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، في 4 أبريل الحالي، تنظيف الجيوب المتمردة وكسر شوكة الجماعات الإسلامية والكتائب المسلحة، والتي جعلت العاصمة رهينة لإرادتها السياسية، وعطّلت المبادرات الرامية إلى تسوية حقيقية تقود البلاد إلى استعادة الهدوء والاستقرار من خلال الاعتماد على مؤسسة عسكرية نظامية.
نجح هذا التحرك في استهداف مراكز الميليشيات المسلحة، بما يفقد القوى الراعية لها توازنها. ويعني أن الأغراض التي عولوا عليها من وراء عقد الملتقى الجامع خلال الفترة من 14 – 16 أبريل الجاري، ذهبت أدراج الرياح، ما جعل غسان سلامة المبعوث الأممي إلى ليبيا يعلن عن تأجيل الملتقى لأجل غير مسمّى، ويترك التيار الإسلامي يبحث عن الخطوة التالية بعد الخسارة الأمنية والسياسية التي مُني بها.
جاءت تطورات السودان المتلاحقة لتوحي بالميل نحو تقليص نفوذ الحركة الإسلامية هناك. وكان توجه المحتجين نحو مقرها هدفا رمزيا لقطاع كبير منهم، وانشغلوا بضرورة عدم وجود دور خفي لها في التحرك الذي قام به الجيش السوداني، في إشارة توحي برفض احتفاظها بمكانة كبيرة في المرحلة التالية لتنحي البشير عن السلطة، والذي منحها دورا مؤثرا في السر والعلن، أثار غضب المواطنين، وفرض عدم الاعتماد على كوادرها في حزب المؤتمر الوطني الحاكم.
مهما كان خط سير الأحداث في السودان وتعرجاته سيواجه التيار الإسلامي بأطيافه المختلفة مأزقا جديدا، فتوجهات القوى الحزبية والمهنية تجد في عزل البشير فرصة للتخلص من الحركة وروافدها في الحياة العامة.
ولن تنطلي مناورات إعادة إنتاجها بأشكال أخرى، تذكر الناس بما جرى في 30 يونيو 1989، عندما تقدم البشير على رأس ما يسمى بثورة “الإنقاذ” ووضع رموز الحركة الإسلامية في سجن كوبر، باعتبار أنها حركة جادة قامت بها المؤسسة العسكرية لإصلاح الأمور المختلة آنذاك، ثم فوجئ الشعب بأنها انقلاب قامت به كوادر إسلامية مدربة في الجيش، وأفرجت عن رموزها (حسن الترابي ورفاقه) بعد مضي ستة أشهر التقطت فيها قدرا من أنفاسها السياسية.
لن تكون الليلة شبيهة بالبارحة في ليبيا أو السودان بالنسبة للتيار الإسلامي. وإذا كان رموزه في الأولى حققوا مكاسب عقب سقوط نظام العقيد معمر القذافي، منذ حوالي ثمانية أعوام، فإن تحركات الجيش الوطني تعيد تصحيح الأوضاع حاليا. وإذا كان رموزه في الثانية (السودان) مكثوا في السلطة لنحو ثلاثة عقود فلن يُقبل باستمرارهم في المستقبل.
في حالة ليبيا، كانت هناك أمنيات ورهانات على منح التيار الإسلامي فرصة للحكم وجدت آذانا صاغية لها في دوائر متعددة. ودخلت على الخط قوى خارجية وأحزاب داخلية مؤيدة جهلا أو عرفانا، اعتبرت هذه المعركة فاصلة في حياة التيار الإسلامي.
أكدت تطورات كثيرة أن ثمة رغبة للسيطرة على مقاليد الأمور في المنطقة العربية من خلال ضخ الدماء في عروق العناصر الإسلامية النشطة والدول الراعية لها. وعندما أجهضت هذه المحاولة في مصر بعد قيام ثورة 30 يونيو 2013، أصيب هذا السيناريو بنكسة كبيرة، خلفت وراءها ردود أفعال كبيرة، اضطرت البعض إلى التحلي بمرونة ظاهرة لتسويق قناعاته. في المحصلة تغيرت النظرة الكلية لتيار الإسلام السياسي، وسقطت حكومات عديدة كانت تقف خلفه. وتم تقويض طموحات عريضة والتي حملها مشروعه. وبقيت ليبيا والسودان على أنهما فرسا رهان لإعادة إحيائه مرة أخرى، وتعويض الخسارة التي أصابت أصحابه في القاهرة.
إذا سيطر إسلاميو ليبيا على الحكم سيكون من الصعوبة اقتلاعهم تماما من المنطقة برمتها. هكذا تحدث مصدر سياسي رفيع لـ”العرب”، مؤكدا أن “الملتقى الجامع الذي هندسه المبعوث الأممي كان يرمي إلى تمكين التيار الإسلامي، ولو تأخر تحرك المشير حفتر نحو طرابلس كانت ستظهر أجسام سياسية من خلال اتفاق جديد يطيح بالرموز القديمة”.
وكشف المصدر، الذي طلب عدم الكشف عن هويته، أن الدول المنزعجة من نمو التيار الإسلامي وما يحمله من مخزون كبير للعنف والإرهاب تحركت خلال الفترة الماضية على أكثر من مستوى لقطع الطريق عما يجري ترتيبه في ليبيا، وتوصلت إلى تفاهمات مع قوى دولية رئيسية، في مقدمتها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، على إجهاض هذا المخطط، ومنع الانزلاق إلى فوضى جديدة معبأة بالإرهاب والهجرة غير الشرعية.
وقال لـ”العرب”، إن تفاهمات حدثت وكانت على درجة عالية من السرية، واستخدمت فيها مناورات سياسية عدة، كي لا يتم التعرف على ملامحها من قبل الدول الداعمة للإسلاميين، فعنصر المفاجأة والتوقيت مهمان في هذه الحالة.
يبدو أن التحركات لم تتجاهل السودان، ووجدت في اتساع نطاق التظاهرات فرصة للتخلص من إرث الحركة الإسلامية وعدم الممانعة في التضحية بالبشير، والذي بذل جهودا مضنية للبقاء في السلطة، ووعد بتقليص عناصر الحركة في الحكم، وقام بالفعل بخطوات إيجابية في هذا المسار، لكنه ظل خاضعا لإرادة الحركة، وتيقّن أن الاستمرار بعيدا عنها أخطر من الارتماء في حضنها. لذلك عاد يوم الاثنين الماضي لحضن حزب المؤتمر الوطني بكل ما يحمله ذلك من حنين للحركة الإسلامية الأم.
تريد فئة كبيرة من السودانيين قطع أوصال هذه الحلقة، وترى أن الفرصة مواتية حاليا. وإذا لم يتم استثمارها بصورة جيّدة والحصول على ضمانات واضحة من المجلس العسكري يمكن أن تتم إعادة إنتاج الحركة الإسلامية عبر أذرعها المتغوّلة في الجيش.
يواجه التيار الإسلامي موقفا فاصلا في الموجة الثانية من انكساره (الموجة الأولى بعد 30 يونيو 2011)، ومرجح أن تتوالى إخفاقاته في دول أخرى، لأن عدوى الضعف تنتقل مثل القوة بالضبط، وحلقات هذا التيار تشد بعضها بعضا إلى أعلى أو تجذبها إلى أسفل.
لعل الصمت الذي يخيم على الدول التي عرفت بدعمها للتيار الإسلامي يحمل مضامين تتجاوز حدود عدم القدرة على توفير الدعم، وتصل إلى أنها سوف تواجه مصيرا غامضا، والقوى التي منحتها غطاء سياسيا للتمدد قررت رفعه ومحاصرتها، وهو ما يشير إلى أننا أمام إرهاصات تشير إلى خريف الإسلاميين في ليبيا والسودان، وربما تصل محطته إلى الجزائر وتونس والمغرب وغزة، ناهيك عن تركيا، والتي يقوم جزء معتبر من مشروعها السياسي على أكتافهم.
العرب