بعد فرز الأصوات النهائية للاقتراع الغيابي في الانتخابات الإسرائيلية، تُشير النتائج إلى أن بنيامين نتنياهو في طريقه نحو حشد الأغلبية المكوّنة من 61 مقعداً اللازمة لتشكيل ائتلاف حاكم جديد. وهذا من شأنه أن يمنح نتنياهو ولاية خامسة غير مسبوقة كرئيس وزراء إسرائيل.
وإذا شكّل نتنياهو حكومة، فسرعان ما سيتحوّل الاهتمام إلى خطة السلام للشرق الأوسط التي أعدتها إدارة ترامب التي طال انتظارها. ونظراً لأن الخطة الأمريكية كانت مبنية على مشاورات وثيقة مع نتنياهو، فقد افتُرض بأنّ العقبة الوحيدة أمام إطلاقها ستكون هزيمته واستبداله بزعيم جديد يتمتع بأفكار مختلفة حول العلاقات مع الفلسطينيين. إلّا أن النصر الواضح لنتنياهو يعني أن بدء تنفيذ خطة البيت الأبيض قد يكون وشيكاً. وهذا أمر كارثي.
قد يكون من الخطأ الجسيم أن يتخذ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المقترحات التي لا تزال سرية والتي وضعها صهره جاريد كوشنر وزملاؤه وأن يصدرها باسم الولايات المتحدة.
والمشكلة ليست ببساطة بأن الظروف مهيأة للفشل، بسبب الشرخ السياسي الحاد بين الإسرائيليين والفلسطينيين مجتمعين، وعجز إدارة ترامب عن أن تكون صديقاً لإسرائيل ووسيطاً صادقاً للسلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وثمة احتمال كبير أيضاً أن تؤدي خطة كوشنر إلى إعاقة المصالح الأمريكية في ثلاثة مجالات بالغة الأهمية: قد تؤدي إلى ضم الضفة الغربية، وقد تمنح الحكومة السعودية نفوذاً على الولايات المتحدة لا تتمتع به في الوقت الراهن، وقد تصرف الانتباه عن إنجاز ترامب البارز، وهو ممارسة ضغط حقيقي على الحكومة الإيرانية.
إنّ اعتماد خطة كوشنر يمكن أن يتسبب في إثارة سلسلة من الأحداث التي من شأنها أن تدفع نتنياهو إلى اتخاذ قرار بضم أجزاء من الضفة الغربية المتنازع عليها، وهي خطوة رفضت اتخاذها حتى الحكومات الإسرائيلية الأكثر محافظة وقومية خلال نصف القرن الماضي. فالضم – أو، كما يفضل الكثير من الإسرائيليين القول بكلمات ملطّفة، “توسيع القانون المدني الإسرائيلي ليشمل المناطق الخاضعة للحكم العسكري” – هو بالفعل برنامج الأحزاب الرئيسية التي يحتاجها نتنياهو لتشكيل ائتلاف حاكم. وفضلاً عن ذلك، تؤيد أغلبية كبيرة من الوفد البرلماني لحزبه “الليكود” هذه الفكرة.
في الساعات الأخيرة من الحملة الانتخابية، أيّد نتنياهو شخصياً فكرة ضم أجزاء من المناطق [التي تسيطر عليها إسرائيل في الضفة الغربية] كمناورة لضمان عدم خسارة “الليكود” للناخبين أمام الأحزاب الأكثر يميناً منه. وعلى الرغم من أن خطوته الأخيرة كانت مثيرة للجدل، إلاّ أنّ فوز “الليكود” يشير إلى أنها كانت ذكية. ومع ذلك، من المرجح أن يفضّل نتنياهو الداهية وغير المجازف إيجاد طريقة للإبقاء على الوضع الراهن الغامض، والذي تحتفظ فيه إسرائيل بالسيطرة الأمنية على الضفة الغربية بأكملها، وتوجّه الدعم نحو العديد من المستوطنات الإسرائيلية القائمة، مع التمسك بالاحتمالية الضئيلة للتوصل إلى حل دبلوماسي مع السلطة الفلسطينية في رام الله.
إنّ هذا الموقف الغريب، حيث يوجد توتّر في الروابط السياسية بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية ولكنهما تحافظان على تعاون أمني فعّال، أثبت مرونة مذهلة. فقلّة هم الأشخاص الذين يحبذون الوضع الراهن، إلاّ أنه ليس مرفوضاً لدرجة أن يتخلى عنه نتنياهو أو الزعيم الفلسطيني محمود عباس. وربما لم يؤدي إلى التوصل إلى أي اتفاق سلام نهائي، لكنه حافظ على السلطة الفلسطينية ككيان حاكم يعمل بشكل جيد – وفق المعايير الإقليمية – وحمى الضفة الغربية من التحوّل إلى منصة للهجمات الصاروخية والإرهابية ضد إسرائيل.
إن واقع صمود الوضع الإسرائيلي-الفلسطيني الراهن أمام نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وإغلاق قنصلية أمريكية منفصلة كانت تخدم الفلسطينيين تقليدياً، والتخفيضات الحادة في المساعدات الأمريكية المقدمة للضفة الغربية، وإغلاق المكتب التمثيلي التابع لـ”منظمة التحرير الفلسطينية” في واشنطن – وهي تدابير تبدو مجتمعة بالنسبة للفلسطينيين كإجراءات عقابية – هي خير دليل على متانة الوضع الراهن.
وقد ينهار أخيراً هذا الوضع الهش الصامد حتى الآن بشكل مدهش إذا رفض عباس خطة كوشنر، وهو ما يعتزم فعله وفقاً لكل المؤشرات التي أبداها. وبدورهم، سوف ينتهز اليمينيون الإسرائيليون “رفض” عباس للقول بأن إسرائيل ليس لديها أي شريك تفاوضي، وبذلك تكون قد نزعت الأساس المنطقي الرئيسي الذي يحافظ على الوضع الراهن.
وبدلاً من ذلك، سيجادل السياسيون اليمينيون أنه من خلال انعدام شريك، يجب على إسرائيل ببساطة بسط سيادتها على أجزاء رئيسية من الضفة الغربية (أي ضمها)، تماماً كما فعلت قبل 38 عاماً مع هضبة الجولان – وسيشيرون إلى أن قرار ترامب الأخير فيما يتعلق بالاعتراف بشرعية ضم الجولان يُعد تلميحاً قوياً بأن البيت الأبيض سيعطي الضوء الأخضر لضم الضفة الغربية أيضاً.
ولاستمالة هذه الأحزاب اليمينية من يمين حزب “الليكود” وضمها إلى ائتلافه، قد يجد نتنياهو نفسه مضطراً للموافقة على هذا المطلب، لا سيّما إذا كان الأمر يتعلق بتحفيزهم من أجل تلقي دعمهم للتشريع الجديد الذي يحمي رؤساء الوزراء الحاليين من المقاضاة الجنائية – مما سيسمح له بالبقاء في منصبه على الرغم من مواجهة دعوى جنائية معلّقة بتهم الفساد.
وفي الصباح التالي ليوم إطلاق خطة السلام للشرق الأوسط باسم ترامب، سيواجه الرئيس الأمريكي عدداً كبيراً من المشاكل التي لا يتعين عليه التعامل معها حالياً.
إنّ ضم إسرائيل لأجزاء من الضفة الغربية، إذا حصل ذلك خارج إطار اتفاق مع الفلسطينيين، سيدفع العواصم العربية والأوروبية إلى توجيه اتهامات مفادها أن إسرائيل قد انتهكت التزاماتها القانونية بموجب قرارات الأمم المتحدة والاتفاقات الإسرائيلية – الفلسطينية الحالية، ومن المرجح أن تتخذ خطوات لمعاقبة إسرائيل دولياً.
علاوة على ذلك، فإن الضمّ ربما سيحكم بالموت الزؤام على التعاون الأمني الإسرائيلي-الفلسطيني وربما على السلطة الفلسطينية نفسها، الأمر الذي يقدّم مكاسب جوهرية ودعاية غير مرتقبة لأعداء السلام. وخلافاً لنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، الذي أعلن عنه الكونغرس الأمريكي بشكلٍ رسمي وحظي بدعم قوي من كلا الحزبين [الجمهوري والديمقراطي] لأكثر من عقدين من الزمن، سيهدد الضم بتقسيم الرأي العام الأمريكي حول دعم إسرائيل، مما سيؤثر على شريحة أكبر بكثير من الطيف السياسي وليس فقط على الجناح التقدمي للحزب الديمقراطي المعادي لإسرائيل بشكل متزايد.
وحتى لو كان كوشنر قد أخذ في الاعتبار فعلاً كل هذه التداعيات السلبية لإقناع والد زوجته بإطلاق خطة السلام، ربما ما زال من الممكن أن ينجح من خلال الافتراض أن التغيير الجذري للوضع الراهن هو وحده قادر على هزّ الأطراف ودفعها لإعادة النظر في مواقفها التقليدية وفتح إمكانيات جديدة. ومن المرجح أنه يفترض بأنّ الدول العربية الرئيسية – بقيادة المملكة العربية السعودية – مستعدة لمباركة خطته، ممّا يعطيها دعماً حيوياً من شأنه أن يرغم عباس على عدم رفضها فوراً.
ولكن هناك مشكلتان فيما يتعلق بهذا الافتراض. أولاً، من غير المرجح أن يقدم السعوديون تأييداً فاتراً لخطة السلام دون دعم مماثل من مصر والأردن، الدولتان العربيتان اللتان لهما اتفاقيات سلام مع إسرائيل. ففي الأسبوع الماضي ، أفادت التقارير بأن الأردن رفض عرضاً أمريكياً للتوسط في مسألة أضيق نطاقاً – تتمثل بنزاع محتدم مع إسرائيل حول جبل الهيكل/ الحرم الشريف بالقدس – لأنه يتهم واشنطن بالتحيز في الأمور المتعلقة بالقدس. أمّا مصر، فتشكل جزءاً ثابتاً من الإجماع العربي الذي رفض علناً قرار إدارة ترامب بالاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان، وهي خطوة قلصت بشدة من حيز التصرف المتاح للعرب بشأن خطة سلام مستقبلية.
وعلى الرغم من الصداقة التي تجمع عائلة ترامب بآل سعود، فقد أظهرت كل من الأردن ومصر قوتها في السنوات الأخيرة في مقاومة الضغوط السعودية فيما يتعلق باتخاذ خطوات تعتبرها مخالفة لمصالحها الوطنية. وبالطبع، فإنّ تأييد خطة تحظى برفض فلسطيني، سيكون هدفاً صعب المنال.
أمّا المشكلة الثانية في سيناريو تأييد السعوديين فهي أن القيادة السعودية ليست غبية. وإذا كان مصير خطة كوشنر في يد الملك سلمان وولي العهد الأمير محمد بن سلمان، فإن ذلك يوفر لهما نفوذاً حاسماً في وقت تواجه فيه العلاقات الأمريكية-السعودية الأوسع نطاقاً أسوأ أشكال التوترات منذ هجمات 11 أيلول/سبتمبر.
من وجهة نظر الرياض، فإن الانتقادات المستفحلة التي يصدرها الحزبان [الديمقراطي والجمهوري] في الولايات المتحدة تجاه السعودية – والتي تجلت في أصوات الكونغرس المتكررة التي تدين الرياض على الحرب في اليمن، واحتجازها لنشطاء في مجال حقوق الإنسان وملاحقتهم، وبالطبع اغتيال الصحفي المنشق جمال خاشقجي – مثيرة للغضب بلا شك. وفي حين أن النظرة شبه العالمية في دوائر السياسة الأمريكية تشير إلى أن حل هذه المشكلة يبدأ بتحمّل ولي العهد السعودي قدراً من المسؤولية عن الأعمال الشنيعة التي يقوم بها مرؤوسوه، فإن النفوذ الذي توفره خطة كوشنر سيمنح الرياض القدرة على قلب الطاولة على البيت الأبيض.
ولن يكون من المستغرب لو طلب السعوديون من ترامب حل مشكلتهم في الكونغرس كثمن للدعم السعودي لخطة كوشنر.
ولن تؤدي أي جهود قد تضطلع بها الإدارة الأمريكية لمواجهة المنتقدين الجمهوريين للسياسة السعودية إلاّ إلى تفاقم الأزمة الأساسية في العلاقات الأمريكية -السعودية على حساب المصالح الأمنية الأمريكية في المنطقة الأوسع. كما سيكون ذلك أيضاً بسبب دعم الرئيس الأمريكي على نحو غير ضروري لخطة السلام الذي وضعها صهره.
وأخيراً، فبالإضافة إلى إطلاقها دوامة سلبية قد تطال العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية والإسرائيلية-الفلسطينية، والسعودية-الأمريكية، فإن المضي قدماً في خطة كوشنر من شأنه أن يصرف الانتباه عن الإنجاز الأساسي للرئيس الأمريكي في الشرق الأوسط ألا وهو التأثير الفعّال وبصورة غير متوقعة لما يسمى بـ “حملة الضغط الأقصى” على إيران.
عندما انسحب ترامب من الاتفاق النووي الإيراني وأعاد فرض العقوبات الأمريكية على إيران العام الماضي، كان هناك سبب وجيه للشك. لكنّ الإدارة الأمريكية أحرزت تقدماً ملحوظاً في جهودها الرامية إلى فرض تكلفة على إيران بسبب سلوكها المخالف. وحتى الآن، أرغمت الحملة الأمريكية ما يقرب من عشرين عميلاً يستوردون النفط الإيراني على تخفيض مشترياتهم إلى الصفر، مما زاد من حدة المشاكل الاقتصادية في إيران. وأفضل علامة واضحة على ذلك هي رؤية زعيم «حزب الله»، السيد حسن نصر الله، يستجدي أتباعه للحصول على التبرعات، كما فعل في خطاب ألقاه مؤخراً، مما يدل على أن طهران تعاني نقصاً في السيولة.
يجب على إدارة ترامب ألا تمنح إيران وحلفائها الإسلاميين نصراً سياسياً من خلال إطلاق خطة السلام للشرق الأوسط التي من المحتمل أن يرفضها الفلسطينيون بشكل سريع وأن تحظى بانتقاد قوي حتى من قبل الحلفاء القديمين للولايات المتحدة. فليس من المنطقي إعطاء المرشد الأعلى للثورة الإيرانية وشركائه الإقليميين حملة دعائية في الوقت الذي تنجح فيه حملة الضغط الأمريكية في جني ثمارها فعلياً. كما قد ترى طهران في ذلك فرصة وقد تجمع ما يكفي من المال – بالتعاون مع المتعاطفين معها من الإسلاميين في قطر وتركيا – لمساعدة حركتي «حماس» و «الجهاد الإسلامي في فلسطين» على الاستفادة من ضعف عباس من أجل محاولة كسب السلطة في الضفة الغربية.
إنّ إطلاق خطة السلام للشرق الأوسط في البيئة الراهنة هو اقتراح سيخسر فيه الجميع في كل الأحوال. فليس من السهل وضع اقتراح لسياسة أمريكية عامة قد يطلق العنان للقوى التي ستقضي على العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية بينما تدمّر السلطة الفلسطينية، مما قد يؤدي إلى تفاقم الأزمة الحادة بالفعل في العلاقات الأمريكية-السعودية، وقد يوفر دفعة قوية للملالي في إيران، إلاّ أنّ هناك فرصة غير بديهية بأن تؤدي خطة السلام التي وضعها كوشنر إلى التوصل إلى كل ذلك.
وفي الوقت الحالي، لا تزال الخطة خطّة كوشنر وليس ترامب. ومن أجل الحفاظ على المصالح الأمريكية الهامة في الشرق الأوسط، يجب على الرئيس الأمريكي التأكد من بقائها على هذا النحو.
معهد واشنطن