كيف يمكننا قياس الديمقراطية؟

كيف يمكننا قياس الديمقراطية؟

a1

واحدة من التحديات الكبيرة التي تواجه واضعي السياسات هي اتخاذ مفاهيم مجردة مثل “القوة” أو “الديمقراطية” واستخدامها لقياس سياسات ملموسة. في كل عام، على سبيل المثال، تنفق الولايات المتحدة مليارات الدولارات على تعزيز الديمقراطية، وسيكون من الرائع لنا جميعًا أن نعرف ما إذا كانت هذه الأموال تساعد فعلًا على دفع الدول نحو الديمقراطية.

تكمن المشكلة في معرفة ما تعنيه كلمة الديمقراطية. في مكان ما في الفضاء الشاسع بين النرويج وكوريا الشمالية توجد منطقة رمادية تتكوّن من الدول التي ليست ديمقراطيات كاملة ولا ديكتاتوريات شاملة، وأحيانًا يكون من الصعب للغاية قياس جودة الحكومات في تلك الدول.

قصة دولتين بعد انهيار الاتحاد السوفيتي يمكن أن توضح مدى صعوبة هذا الأمر. انظر إلى الرسم البياني أدناه الذي يوضح أنّ الدولتين قد بدأتا في نفس المستوى من الديمقراطية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. ولكن واحدة منهما شهدت صعود رأسمالية المحسوبية، وتزايد القيود المفروضة على حرية الإعلام، وزيادة مركزية السُلطة الرئاسية، والأخرى خفضت معدل الفساد، والعلاقات الاقتصادية القائمة مع الغرب، وامتلكت برلمانًا ووقف بنجاح ضد اختيار الرئيس لرئيس وزراء لا يحظى بشعبية كبيرة. وبحلول مطلع القرن الحالي، كما يظهر في الرسم البياني، انحرفت مستوياتهما الديمقراطية بشكل كبير:

كيف يمكننا قياس الديمقراطية؟

أي تخمينات عن هوية هذين البلدين؟ لعل واحدة منهما من دول البلطيق والأخرى هي روسيا البيضاء؟

ما يُظهره الرسم البياني، في الواقع، هي إجراءات الديمقراطية في دولة واحدة: روسيا. الخط الثابت هو مقياس الديمقراطية الروسية من قِبل مؤشر نظام الحكم الرابع (Polity IV index). والخط الثاني وهو السيناريو الأقل تفاؤلًا يشير إلى نفس الإجراء الذي قامت به مؤسسة فريدوم هاوس لقياس الديمقراطية.

وكلاهما مؤشرات مستخدمة لقياس نفس الظاهرة. (في البحث العلمي من جوجل، تم استخدامهما حوالي 15 ألف مرة و47 ألف مرة على التوالي). إذن؛ كيف أنتجت كلا المؤسستين مثل هذا التصوير المختلف إلى حد كبير عن الديمقراطية الروسية؟ في كلتا الحالتين، يمكن بناء سردية معقولة لشرح النتائج ولكن أي واحدة منهما أقرب إلى الواقع؟

ينبغي أن يشعر أي شخص سبق وأن استخدم مقياس الديمقراطية في أبحاثه بالخوف من هذا الرسم البياني. ولمن حاول معرفة ما الذي يجعل الدول أكثر أو أقل ديمقراطية يجب أن يكون قلقًا. كيف يمكننا أن نبدأ في الإجابة عن الأسئلة الأساسية حول أسباب الديمقراطية إذا كنا لا نستطيع حتى الاتفاق على ماهية الديمقراطية؟

والمشكلة هي أنّ الديمقراطية تعني أشياء مختلفة لأشخاص مختلفين. تهتم مؤسسة “بوليتي” بالقيود المفروضة على النخب ومدى تقييد البرلمان لسُلطات الرئيس. في عام 1998، رفض مجلس الدوما الروسي ترشيح يلتسين فيكتور تشيرنوميردين رئيسًا للوزراء (حصل تشيرنوميردين الذي لا يحظى بشعبية كبيرة على 94 صوتًا من أصل 450 صوتًا). أدى هذا الرفض إلى الاستقلال التشريعي، وبما أنّ القيد التنفيذي هو المكوّن الفرعي الأهم بالنسبة لمؤسسة “بوليتي”، فإنّ الزيادة المفترضة في قوة مجلس الدوما أدت إلى زيادة كبيرة في تقييمه للبلاد.

على الجانب الآخر، تهتم فريدوم هاوس بالحقوق الفردية والحريات الشخصية. من خلال هذا القياس، ترى أنّ روسيا دولة سيئة جدًا، وتضعها في نفس التصنيف مع الأماكن التي تسمح بإعدام النساء اللاتي يرتكبن جريمة الزنا. ونتيجة لذلك؛ تم اتهامها بأنّها منحازة ضد روسيا، وهو اتهام تنفيه المؤسسة باستمرار.

خلافات مثل هذه لا تهتم كثيرًا بالقياس الصحيح ولكن بالمناظرة الفلسفية حول ما يمكن وصفه بالديمقراطية، باعتبارها فكرةً معقدة بطبيعتها ومتنازعًا عليها. وهنا تكمن المشكلة؛ لأنها توحي بعدم وجود حلول سهلة. أنتجت صحيفة الإيكونوميست، على سبيل المثال، مقياسًا للديمقراطية يرى أنّ التصويت الإلزامي سيئ للديمقراطية لأنه يتعدى على الحقوق الفردية؛ فإذا كنتُ أرغب في البقاء في المنزل ومشاهدة مباراة لكرة القدم في يوم الانتخابات، فهذا من حقي.

في الوقت نفسه، فإنّ التصويت الإلزامي يزيد إقبال الناخبين بشكل واضح، وخاصة الفقراء، الذين لديهم مستويات قليلة من النفوذ السياسي ويميلون إلى البقاء في المنزل عند التصويت الطوعي. يمكن القول، إذن، إنّ التصويت الإلزامي يحسّن نوعية التمثيل الديمقراطي. قياس فانهانين للديمقراطية، على سبيل المثال، يقوم في جزء منه على قياس النسبة المئوية للسكّان الذين يصوتون في الانتخابات. ولذلك؛ فإنّ البلدان التي تطبق التصويت الإلزامي تحصل على أعلى درجة في مؤشر فانهانين وعلى درجة أقل في مؤشر الإيكونوميست. وهنا، يُعاقب التصويت الإلزامي أو يكافأ على أساس ما إذا كنت تعتقد أنّ المشاركة الجماعية أو الحرية الفردية هي السمة الحقيقية للديمقراطية. يعكس هذا الخلاف مفاضلة أساسية حول الطبيعة الجوهرية للديمقراطية؛ بما هي اختيار فلسفي وليس منهجيًا. القول بأنّ مقياسًا واحدًا هو أكثر دقة من الآخر هو قول خاطئ؛ لأنّ كل مقياس يمثل رؤى مختلفة لظاهرة معقدة للغاية.

هذا قد يمثل مشكلة كبيرة. كما أوضحت في بعض أبحاثي الأخيرة أنّ مقاييس الديمقراطية في فضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي يختلف حول بلدان معينة، وأحيانًا تستخلص استنتاجات متناقضة من مراقبة الحدث نفسه. تُعدّ المقاييس الجيدة ذات أهمية خاصة لتقييم الأنظمة المختلطة، حيث يمكن للمساعدات الخارجية أن تُحدث الفارق، وحيث يحتاج صنّاع القرار إلى تقييم دقيق عن أثر المساعدات الخارجية. لكنّ تلك الدول هي التي سجلت أسوأ النتائج وفقًا لقياسنا، ووفرت فرصًا لسياسات خاطئة وجهود ضائعة.

إذن، ما الذي يجب عمله؟ هذه المشاكل لا تعني أن علينا التخلص من مقاييس الديمقراطية تمامًا، ولكن تعني أننا يجب أن نكون حذرين للغاية في استخدامها. أولًا، عندما يتم اختيار مقياس معين، يجب توضيح التحيزات الكامنة عند محاولة معرفة ما الذي يسبب الديمقراطية في بلد ما. ثانيًا، يجب أن يكون اختيار المقياس مبررًا فيما يتعلق بحقيقة ما يجري فحصه. لا يجب استخدام مؤسسة فريدوم هاوس كأداة لتقييم العلاقة بين الديمقراطية والفساد أو المساواة الاقتصادية، على سبيل المثال؛ لأن هذه العناصر موجودة بالفعل داخل المقياس نفسه. قد يكون مؤشر نظام الحكم الرابع (Polity IV) هو المقياس المناسب للأبحاث التي تدرس القيود المفروضة على النخب الحاكمة، ولكن ليس لدراسة توسع الاقتراع خلال القرن التاسع عشر؛ فالمؤسسة لا تهتم كثيرًا بمن يحق له التصويت.

ويمكن أن تكون مقاييس الديمقراطية مضللة بقدر ما هي كاشفة، مثلما يوضح الشكل أعلاه. وهذه مشكلة ليس فقط للأكاديميين، ولكن لصانعي السياسات ولمن يهتم بالديمقراطية بشكل عام. وعلى الرغم من اتباع نهج أكثر حذرًا تجاه هذه المقاييس وليس هو الحل السحري؛ إلّا أنّ معرفة السلبيات والافتراضات لمقياس معين يمكن أن تؤدي إلى تحسين فهمنا عن الديمقراطية. إنّ تسليط الضوء على القيود المفروضة على مقياس الديمقراطية يمكن أن يكشف عن نقاط قوته.

التقرير