لأسباب موضوعية عديدة، سيطرت النخب المدينية السنية (الأفندية) على الدولة العراقية التي اعلنت رسميا في العام 1921، وكان الكرد المستعربون حاضرين بقوة في هذا السياق. ولم يكن الغياب الشيعي الواضح ناتجا بشكل مباشر موقف علماء الدين الشيعة من الاحتلال او طبيعة الدولة الناشئة، بل كان نتاجا مباشرا لغياب النخب الشيعية المدينية. فالنخب المدينية كانوا نتاجا مباشرا لطبيعة الدولة العثمانية التي كانت تحكم العراق، وحضور المذهب بشكل صريح في صياغة العلاقة معها.
فبعد الاحتلال البريطاني لبغداد في 11 آذار/ مارس 1917 (أنزل البريطانيون قواتهم في الفاو أقصى جنوب العراق في 6 تشرين الثاني/ نوفمبر 1914)، تم تشكيل اول حكومة عراقية برئاسة نقيب الأشراف عبد الرحمن الكيلاني في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 1920، ومراجعة سريعة لأسماء الوزراء في هذه الحكومة تكشف عن سيطرة النخب المدينية السنية على معظم الوزارات (6 وزارات من مجموع 8 مقابل وزارة لليهودي ساسون حزقيل ووزارة شاغرة)، لاحقا تم استبدال إحدى الوزارات، وهي تحديدا وزارة المعارف والصحة العمومية لتتولاها شخصية شيعية (السيد محمد مهدي بحر العلوم في 22 شباط/ فبراير 1922)! كما ضمت الحكومة وزراء من دون حقاب وزارية توزعت بين النخب المدينية فضلا شيوخ العشائر الكبرى، وكانت للترضية أكثر منها مناصب حقيقية!
بعد تولي الملك فيصل الاول لحكم العراق (تم تتويجه ملكا للعراق في 23 آب/ أغسطس 1921)، بعد طرده الفرنسيين له من حكم سوريا (تم تتويجه ملكا على سوريا في 8 آذار/ مارس 1918 وطرده الفرنسيون منها بعد دخولهم دمشق 24 تموز/ يوليو 1920 بعد واقعة ميسلون الشهيرة). تكرست هيمنة النخب المدينية السنية، سواء من خلال الضباط العرب (السنة) الذين كانوا ضمن الجيوش العثمانية ثم انشقوا، بشكل رئيس بعد أسرهم، ليقاتلوا مع الأمير فيصل فيما يطلق عليه الثورة العربية الكبرى التي أعلنها الشريف الحسين بن علي في 10 حزيران/ يونيو 1916 ضد الانحراف الذي حصل في دولة الخلافة العثمانية، او من النخب المدينية السنية التي عملت معه في دمشق خلال سني حكمه هناك. فقد شكل هؤلاء عماد الدولة الناشئة.
هكذا تشكلت أول وزارة في عهد الملك الجديد، برئاسة عبد الرحمن الكيلاني نفسه في 12 أيلول/ سبتمبر 1921 لتضم 9 وزراء سنة، ووزيرين شيعيين، ووزيرين يهودي ومسيحي!
خلال سنوات 1958 ـ 1963 شهدنا تحولات حقيقية في طبيعة النخب السنية التي بدأت تزيح بشكل واضح وصريح النخبة السياسية المدينية السنية التقليدية لصالح نخب سنية أخرى قادمة من خارج الحواضر المدينية الرئيسية
وهكذا بقيت الدولة العراقية، طوال العهد الملكي، تعتمد على النخب المدينية السنية، في إدارة الدولة، مع مشاركة محدودة للنخب الدينية والعشائرية الشيعية. وانعكس هذا الأمر على المجالس النيابية التي تم اعتمادها بعد دستور العام 1925، هكذا وجدنا هيمنة واضحة للنخب المدينية السنية التي كانت تحصل على مقاعدها كممثلين لمناطق ذات غالبية شيعية!
وعلى الرغم التحولات الكبيرة التي شكلت تحديا حقيقيا للنخب المدينية التقليدية؛ بداية من التغيير الديمغرافي الكبير الذي حصل في المدن العراقية بفعل النزوح الكثيف اليها، وانتشار التعليم، وتوالي البعثات الدراسية التي كانت ممثلة للجميع، والاهم سياسات الحكومات العراقية المتتالية التي حاولت ايجاد معالجات لهذا الاختلال الاجتماعي والسياسي، فان التمثيل السياسي السني ظل مهيمنا بشكل واضح على بنية الدولة العراقية، وظل السؤال الطائفي مسكوتا عنه، خاصة فيما المتعلق بالأغلبية والأقلية، او المتعلق ببنية الدولة وهويتها!
وهذا ما دفع رجل الدين الشيعي محمد حسين كاشف الغطاء في العام 1935 إلى إطلاق ما يعرف في الادبيات الشيعية ب «مطالب الشيعة». والتي تضمنت 12 مادة، جاء في المادة الأولى منها: «لقد تبنت الحكومة العراقية، منذ تأسيسها حتى اليوم، على سياسة خرقاء لا تتفق مع مصالح الشَّعب، واتخذت سياسة التفرقة الطائفية أساساً للحُكم؛ فتمثَّلت أكثرية الشَّعب بوزير واحد أو وزيرين، ممَّن يسايرون السُّلطة في سياساتها، على الأكثر، وعلى مثل هذا الأساس تمشَّت الحكومة في سياسة التوظيف، فظهر التحيُّز صريحاً في انتقاء الموظفين، فظهر التحيُّز صريحاً في انتقاء الموظفين وأعضاء مجلس الأمة، بينما القانون الأساسي لم يفرِّق بين أبناء البلاد، كما نصَّت «المادّة السادسة» من «القانون الأساسي»، فلإيجاد الاستقرار والطمأنينة في نفوس الشعب، ورفع التفرقة بين أبناء الأمة، يجب أن يساهم الجميع في «مجلس الوزراء» وفي «مجلس الأمة»، وفي سائر وظائف الدولة، كما يساهم في الجندية والضرائب.
بعد ثورة/ انقلاب الضباط الاحرار ضد الحكم الملكي بقيادة عبد الكريم قاسم وعبد الرحمن عارف في14 تموز/ يوليو 1958، وعلى الرغم من محاولات الإجابة الشكلية على السؤال الطائفي في العراق من خلال تشكيل مجلس السيادة الذي ضم ثلاثة أشخاص (سني وشيعي وكردي)! حولت الديكتاتورية المطلقة التي اعتمدها رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم مجلس السادة الثلاثي إلى مجرد ديكور لا قيمة حقيقية له. وخلال سنوات 1958 ـ 1963 شهدنا تحولات حقيقية في طبيعة النخب السنية التي بدأت تزيح بشكل واضح وصريح النخبة السياسية المدينية السنية التقليدية لصالح نخب سنية أخرى قادمة من خارج الحواضر المدينية الرئيسية! حيث ستفرض هذه النخب الجديدة هيمنتها المطلقة على الحياة السياسية في العراق في المراحل اللاحقة.
القدس العربي