عندما ادعى أبو بكر البغدادي استعادة فكرة الخلافة الإسلامية في مثل هذا الشهر من العام الماضي، لم تسمع الدعوة إلى القتال من أجل دولته الإسلامية وبنائها في قلب الأرض العربية المنهارة وحسب، وإنما سمعت أيضاً في المجتمعات الإسلامية اليائسة، مثل تلك الموجودة في الصين والفلبين وأستراليا. ويعيش أكثر من نصف مسلمي العالم في آسيا. ولذلك، فإن صعود تيار عنيف من الجهاد الإسلامي الذي يعتمد التهديد والإكراه والواثق بنفسه سوف يسلم المنطقة للاضطراب لا محالة. وقد كسبت مجموعات الجهاديين الموجودة من قبل مزيداً من الجرأة بفعل نجاح “داعش” في تأسيس مناطق سيطرته في العراق وسورية والدفاع عنها. والآن، تشعر حكومات آسيوية بالقلق من حقيقة اتجاه بعض الشباب نحو التطرف بسبب دعاية “داعش”، ويتشجعون على السفر إلى مناطق “الخلافة” أو يستلهمونها لتنفيذ عمليات دموية في الوطن. ومن بين الآلاف من الآسيويين الذين قاتلوا مع “الدولة الإسلامية” ثمة العديد ممن سيعودون إلى الوطن، جالبين معهم الإيديولوجية والشبكات والمعرفة الخاصة بالإرهاب الإجرامي القاتل.
لعل الخطر يتمثل أكثر ما يكون في أفغانستان وباكستان؛ هذين البلدين الممزقين أصلاً بسبب الإرهاب والتمرد على حد سواء. لكن ثمة سبباً للشعور بالقلق أيضاً في الجمهوريات السوفياتية السابقة المتوترة في آسيا الوسطى؛ حيث يشكل الإسلام السياسي بديلاً عن الأنظمة السلطوية البغيضة، وحيث ثمة ما يقدر بألفين إلى أربعة آلاف شخص هم في عداد 20.000 مقاتل أجنبي انضموا إلى مجموعة “الدولة الإسلامية”. وكانت الصين قد كافحت في السنوات القليلة الماضية من أجل اجتثاث النزعة التطرفية من بين صفوف الأقلية الإيغورية ذات الأغلبية المسلمة في المنطقة الغربية مترامية الأطراف في تشينيانغ، وألقت باللوم على الجهاد العالمي. ويقدر أن 300 من الصينيين الأيغوريين قد سافروا إلى العراق وسورية. لكنه يبدو أن الإجراءات المضادة التي اتخذتها الصين عملت فقط على شحذ مشاعر الامتعاض مما يراه الإيغوريون قمعاً استعمارياً تمارسه عليهم الدولة الصينية والأغلبية الإثنية من “الهان”.
وحتى في جنوب شرق آسيا، حيث تبدو أعداد المجندين في “الدولة الإسلامية” متواضعة تماماً (حوالي 500 أندونيسي، و100 فلبيني و50 ماليزياً وحفنة من السنغافوريين)، فإن السؤال حول كيفية الرد على “الدولة الإسلامية” ينطوي على تداعيات سياسية. ففي الفلبين، على سبيل المثال، يتعرض السلام القائم بين الحكومة والثوار المسلمين على جزيرة مينديناو للتهديد من جانب المجموعات المتطرفة التي أعلنت عن ولائها لمجموعة “الدولة الإسلامية”. وحتى في ماليزيا الديمقراطية، فإن مجرد طرح مشروع تشريع جديد معاد للإرهاب في نيسان (أبريل) الماضي، والذي يشتمل على نصوص تبيح الاعتقال من دون محاكمة، لم يثر غضب الإسلاميين وحسب، وإنما أيضاً طائفة من الساسة المعارضين. ويرى العديدون فيه ذريعة لاستعادة السلطات التي كان قد منحها قانون الأمن الداخلي في الحقبة الكولونيالية، والذي أسيء استخدامه في أوقات معينة لغايات سياسية وتم إلغاؤه في العام 2012 فقط. والمعروف أن الحكومات في كل مكان تناضل مع حسبة مستحيلة: إذا أساءت تقدير التهديد، فإنها تعرض شعوبها للهجمات الإرهابية؛ وإذا بالغت في تقديره، فإن ردود أفعالها ثقيلة اليد قد تقوي قضية الإرهابيين أكثر.
تنامت المخاوف إزاء تصاعد نفوذ “داعش” حتى البلدان المسالمة البعيدة عن جبهات المعارك الرئيسية. وفي مؤتمر إقليمي حول “التصدي للتطرف العنيف”، والذي عقد في سيدني هذا الشهر، شجب رئيس الوزراء الأسترالي، توني أبوت “سعي (المجموعة) الغريب إلى الهيمنة العالمية”، ونعى كون “مجسات ثقافة الموت هذه امتدت حتى إلى هنا”، مستحضراً عملية الحصار الدموي لدارة مقهى في سيدني في كانون الثاني (يناير) الماضي، والتي نفذها ما بدا أنه شخص مختل عقلياً ومتعاطف مع مجموعة “الدولة الإسلامية”. كما ذكر أن عشرات عدة من الأستراليين قد انضموا إلى “الدولة الإسلامية” أو “جبهة النصرة”؛ المنافس السوري لـ”داعش” والتابع لتنظيم القاعدة. ومما يثير الجدل أن أستراليا تخطط لتجريد المواطنين الذين يتوافرون على جنسية مزدوجة والذين يعرف أنهم “إرهابيون معروفون” من جوازات سفرهم الأسترالية.
قبل أيام قليلة من حديث السيد أبوت، كان رئيس وزراء سينغافورة، لي هسين لونغ، قد خصص جزءاً من كلمته الرئيسية أمام “حوار شانغري-لا”، المنتدى الأمني السنوي، للحديث عن مشكلة “الدولة الإسلامية”. وقد تركز الحديث العام على تمدد الصين في بحر الصين الجنوبي، لكن كثيراً من حديث القاعات الخلفية كان يدور حول التهديد الجهادي المتجمع. وكان أكثر ما يبعث على الصدمة هو تقييم السيد لي المنطقي، والذي قدر أن هذا الكفاح سيستمر لأجيال. وبالنظر إلى الأمام 50 عاماً، اقترح أن الاستراتيجية الجهادية ستؤول إلى الفشل، أو على الأقل “ستضعف قبضتها على خيال الأرواح المتعبة”. لكنه لاحظ أن الشيوعية السوفياتية “وهي تاريخ آخر شهد نهاية مغلقة” قد استدام 70 عاماً قبل انهياره. ولم تكن الشيوعية، رغم كل ادعاءاتها بامتلاك الحقيقة المطلقة، عقيدة متجذرة في أحد الأديان.
في سنغافورة المريحة التي تعيش حياة رغدة، يعد المسلمون الملاويون أقلية مندمجة جيداً إلى حد كبير. لكن البلد كان مع ذلك هدفاً لمجموعة “الجماعة الإسلامية”؛ المجموعة الجهادية الإقليمية التي تعهد زعيمها الروحي، أبو بكر بصير، الذي كان مرتبطاً ذات مرة مع تنظيم القاعدة، بالولاء لتنظيم “الدولة الإسلامية”. وقد خططت الجماعة الإسلامية، المدانة بارتكاب أعمال إرهابية في أندونيسيا، بالتخطيط لتفجيرات في سنغافورة بعد قليل وحسب من هجمات 11 أيلول (سبتمبر) في أميركا.
وحتى في سنغافورة، يفرز الإنترنت متشددين، فقد اعتقلت السلطات هناك فتى يبلغ من العمر 17 عاماً، والذي تحول إلى متطرف بواسطة الإنترنت. كما اعتقلت طالباً يبلغ من العمر 19 عاماً كان يخطط للانضمام إلى “الدولة الإسلامية” أو إذا فشل في ذلك، القيام باغتيال قادة حكوميين في الوطن. وتدرك سنغافورة أنها بلد ثري مليء بالأهداف الجذابة للإرهابيين، وأنها “نقطة حمراء صغيرة” محاطة بأندونيسيا وماليزيا اللتين تضمان مسلمين في الجزء الضخم منهما. وكان “داعش” قد قال إنه يريد تأسيس ولاية تابعة للخلافة في جنوب شرق آسيا. وعلق السيد لي على ذلك بسخرية، فقال: “فطيرة في السماء”. لكنه أعرب عن قلقه من إمكانية إقامة “داعش” قاعدة لنفسه في فضاء ما غير خاضع للحكم في المنطقة.
ما الذي يرونه في “داعش”؟
إن الصعوبة عالمية: في كل مكان، تجعل الجهود المبذولة لقتال التطرف من الحكومات التي تقف وراء هذه الجهود هدفاً بشكل متزايد. وتسهم كل من أستراليا وسنغافورة في الائتلاف الذي يقاتل “داعش” في الشرق الأوسط. كما أصبحت الحكومات في كل العالم أكثر توجساً في الوطن حيث أخذت في تصعيد إجراءات “نزع التطرف” عبر العمل مع المسلمين المعتدلين للتصدي للدعاية الجهادية. لكن تلك ليست مهمة سهلة مع ذلك. فالدعاية -وخاصة الاستخدام الذكي والمخادع للإنترنت ووسائل الإعلام الاجتماعي- هي موطن قوة “داعش”. وكما قال كل من السيد لي والسيد أبوت، فإن القبول الذي يلقاه “داعش” لدى “الأرواح المتعبة” يبقى أمراً غير قابل للفهم عند قادة الدول المزدهرة الحديثة. وسوف يكون من الصعوبة بمكان جمع حجج جيدة ضد وجهة نظر لا يشرع المرء في فهمها من الأساس.
ترجمة:عبدالرحمن الحسيني
صحيفة الغد الأردنية