لماذا تعطل قطار التحول الديمقراطي عند بوابات وطننا العربي؟ سؤال يحيل إلى مناقشة مفهوم الديمقراطية ذاته، وشروط تحققها. من وجهة نظرنا، ليس بالإمكان قبول المفهوم السائد للديمقراطية، على أنها حكم الشعب. بل الصحيح أنها ربما تكون أفضل ما لدينا من رؤية فلسفية، لإشراك عدد أكبر من الجمهور في صناعة القرار. لكنها لا تعني بالضرورة أن يحكم الشعب نفسه بنفسه، رغم أن ذلك هو ما تنص عليه دساتير البلدان التي تتبنى الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية.
الديمقراطية، في أساسها هي حاصل تسويات بين قوى ليس بمقدور أي منها حسم الصراع لمصلحته. وإن قوانين الضرورة، تلح على بقاء وحيوية هذه القوى. ويمكن اختزال هذه القوى في طبقتين: الطبقة الرأسمالية والطبقة المتوسطة.
ومادامت هاتان القوتان غير قادرتين على تصفية حساباتهما، وحسم الصراع لمصلحة إحداهما. ولأن وجود كلتيهما أمر تفرضه الضرورات الاقتصادية والاجتماعية، أمسى اللجوء إلى القسمة بينهما أمراً محتماً، فجاء تدشين هذه المؤسسات، التي تعبر في مجملها عن النظام الديمقراطي، لتمثل تسوية تاريخية بين الطبقتين.
لقد سبق هذا التحول التاريخي، مرحلة تبشير طويلة، مرت بها أوروبا شهدت ثورات إصلاح دينية في إنجلترا قادها مارتن لوثر، وفي فرنسا قادها كالفن. كما شهدت تحولات في الأفكار مثلها كتاب «العقد الاجتماعي» لجان جاك روسو، و«روح القانون» لمونتيسكيو و«اتفاقيتان» لجان لوك، والأخلاق البروتستانتية. كما شهدت مرحلة التبشير تغيرات فلسفية، وبروز مذاهب فنية وأدبية، وليست الرومانسية والتجريدية والسريالية، سوى تجليات مرحلة التبشير هذه.
توجت مرحلة التبشير وحركة الإصلاح الديني بقيام ثورتين اجتماعيتين، أسهمتا في تغير خريطة البشرية، هما الثورة الفرنسية والثورة الإنجليزية. وكانتا ثورتي أفكار بالدرجة الأولى. كان اليعاقبة في فرنسا وخطيبهم المفوه روبسبير في مقدمة الركب، وفي إنجلترا قاد المتطهرون، بقيادة كرومويل ومساندة كتاب عظام مثل جان ميلتون هذه الثورة. وكانت في أحد تعبيراتها، قد عنت هزيمة الإقطاع، وانتصار أرباب الصناعات، وتغير موازين القوى الاجتماعية.
في الوطن العربي، وتحديداً في الجزء الشرقي منه، هبت هذه الرياح خجولة إلى منطقتنا. وبدأ عصر تنوير جديد. لكن كل الظروف والمعطيات كانت تحول دون استمراريته. فالصراع في منطقتنا لم يكن بين قوى آفلة وقوى مستقبلية. ذلك أن الإقطاع الذي ساد في أوروبا لم يجد له ما يعادله في منطقتنا. ونظام الحق الإلهي الذي توج الكنيسة في أعلى موقع لصنع القرار في أوروبا لم يجد له نظيراً أيضاً في منطقتنا العربية.
واجهنا احتلالاً عثمانياً، في النصف الأخير من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ودخل زعماء اليقظة العربية، في تحالف مع بريطانيا وفرنسا للإجهاز على تركة الرجل المريض في الآستانة، وانتهت الحرب العالمية الأولى، ولم يكن الأتراك ضحاياها فحسب، بل كنا نحن الذين سلمنا قيادنا للقوى الفتية العالمية الصاعدة ضحايا أيضاً.
وخضع المشرق العربي في معظمه للاحتلالين البريطاني والفرنسي. وكانت معضلة عصر التنوير، أنه يحمل الصبوات والمبادئ نفسها التي تسود في بلد الاحتلال. فكان التناقض بين عداء للمستعمر، وتبنٍ لنمط حكمه. ولم يكن التوازن في مصلحتنا بالمطلق.
فالمحتل استثمر جل قدراته العلمية، واكتشافاته الجغرافية، ليحجب عنا الشمس، ويمنع عنا الهواء. اكتشف طريق رأس الرجاء الصالح، فقطع طرق المواصلات البحرية، التي تمخر بحارنا، وأسهم في تدمير موانئنا باللاذقية وبيروت والاسكندرية، وجرى تدمير منظم لصناعاتنا الحرفية في مصر وبلاد الشام، التي لم تستطع أن تصمد أمام تقنيات مصانع لانكشاير، ولا غيرها من مصانع الدول الأوروبية المتقدمة.
فكان الصراع غير متكافئ بيننا وبين القوى التي تحمل قيم الديمقراطية، بما غيب الظروف التي تحققت فيها الديمقراطية في الغرب، فلا مرحلة تبشير ولا إصلاح ديني، ولا قوى اقتصادية صاعدة، ولا وجود لطبقة أرباب الصناعة، والطبقة المتوسطة، فجل ما تواجد في منطقتنا، طبقة تجارية وسيطة بين المستهلكين من الناس العاديين، وملاك الصناعات المتقدمة، من خارج المكان. وصنفت هذه الطبقة الجديدة في العلوم السياسية بالطبقة الكمبرادورية. بمعنى الطبقة الوسيطة، غير المصنعة. وحين لا يكون هناك إنتاج لا تكون هناك ضرائب. وتصبح علاقة المواطن بالدولة علاقة من طرف واحد، تفتقر إلى التبادلية. وخير ما يصدق عليها التعبير الأمريكي السائد no tax no democracy لا ضرائب = لا ديمقراطية.
ولذلك فحين طرحت الديمقراطية في الوطن العربي، بعد الحرب العالمية الثانية، وتشكلت برلمانات في عدد من البلدان العربية، جاء التشكيل مشوهاً وعاجزاً عن قيادة المرحلة، وكان استنساخاً واهناً لتجارب أخذت مكانها، ونجحت في بيئة مختلفة تماماً عن واقعنا.
لقد استبدلت طبقة أرباب الصناعة، بتشكيل بطريركي، قبلي وعشائري، عاجز عن التماهي مع العصر، والتعامل بلغته. ولم يكن له أن يكون غير ذلك. فالديمقراطية، في أساسها تشكل بنيوي، وتغير في الخريطة الاجتماعية، وتنافس في موازين القوى، وصفقات وتسويات.
وكان البديل الذي حل منذ منتصف الخمسينات هم الشباب اليافعون، في المؤسسة العسكرية، الذين قادوا انقلابات أوصلتهم لسدة الحكم. ومرة أخرى، كان الشعار في واد، وإمكانية تطبيقه في واد آخر. فهؤلاء الشباب في أغلبيتهم، في مصر والعراق وسوريا والسودان، جاءوا من بيئة ريفية، حملوا أفكارها وتقاليدها، وحدث لديهم انفصام بين السلوك والمبادئ التي يحملونها، وكان النصر في النهاية حليف تكوينهم البنيوي الاجتماعي وليس مبادئهم. ولم يكن في ظل هذا الخلل البنيوي فرصة لأي تراكم ديمقراطي.
وسيبقى الأمر كذلك، ما لم تتحرك القوى الذاتية المحركة ويجري تفعيلها، وتنقل اقتصاداتنا من طابعها الريعي إلى الطابع المنتج. وذلك ما لا يلوح أفقه في ظل واقعنا الراهن، المسكون بتغول قوى التطرف والإرهاب، وغياب مشاريع التنمية الحقيقية، بما يسهم في خلق بنية أكثر مواءمة للتحول الاجتماعي المنشود.
د.يوسف مكي
صحيفة الخليج