في اطار مسلسل الرسائل السرية التي تعودت الولايات المتحدة ارسالها إلى إيران عبر وسيط، بسبب انقطاع العلاقات الدبلوماسية بينهما منذ عام 1979 بعد احتجاز رهائن في مقر السفارة الاميركية في طهران لـ 444 يوما، كشف عضو الهيئة الرئاسية في مجلس الشورى الإيراني “مهرداد بذرباش” عن رسالة خامسة وجهها الرئيس الأمريكي باراك أوباما، إلى القيادة الإيرانية عشية المهلة المحددة للتوصل إلى اتفاق حول الملف النووي الإيراني.
وليس جديدا القول إن الإدارة الامريكية تبدي توقا كبيرا للوصول إلى اتفاق مع الايرانيين، إذ قدم صعود “الدولة الاسلامية” للولايات المتحدة وايران فرصة للاتفاق حول عدو مشترك، على الأقل من الناحية التكتيكية، وهو ما يزيد من حوافز كلا الجانبين لتجنب المواجهة بشأن القضية النووية طالما انهما ذاهبان معا في محاولة هزيمة التنظيم في العراق. وللتدليل على ما تقدم لم تمنع قائمة العقوبات الطويلة الدولية والأميركية والأوروبية المفروضة على قاسم سليماني ومنها القرار الصادر عن مجلس الأمن رقم 1747 الصادر عام 2007، ولائحة العقوبات الأميركية في 18 مايو/ايار 2011، ولائحة العقوبات الأوروبية الصادرة في 24 يونيو/حزيران 2011 من أن يعمل الأميركيون معه، حيث يتحرك سليماني بحريّة تامة بعلم الادارة الأميركية، وبالتنسيق معها، ويقود عمليات عسكرية برّية وجوية في عمق العراق وسوريا.
ويستوقفنا هنا، ما تناوله الرسالة في البحث عن تعاون محتمل لمحاربة تنظيم “الدولة الاسلامية” شرط التوصل الى اتفاق نووي، وبالتالي فان القنوات السرية تلغي كل القواعد القديمة للعبة، وتدفع باتجاه الشروع بتشكيل مقاربة حركية وسياسية جديدة. ما يعني أن إدارة أوباما تريد تمهيد الطريق بأي وسيلة للتوقيع على الاتفاق النهائي، وتوصيل رسالة إلى جميع الأطراف التي تعارض الاتفاق بأن لدى الولايات المتحدة خيارا وحيدا وهو المفاوضات.
وفي وسع إيران، الدولة التي بلغت العتبة النووية، ان تعيد ترتيب التوازنات الاقليمية، فنجاح الاتفاق، يعزز من صورة إيران بوصفها دولة براغماتية ومنطقية وعقلانية، تدير شؤونها حسب مصالح سياسية واقتصادية وليس حسب مواقف خلاصية دينية، ما يعمل على تغيير مكانتنها في المجتمع الدولي.
وعلى الارجح فان طهران وضعت هذا الامر في الحسبان فمنطقة الشرق الأوسط تبدو تحت قبضتها، وتفتقر كلا من سوريا والعراق ولبنان للسيادة الحقيقية . فبشّار الأسد، يُسيطر على 25 % من مساحة الدولة السوريّة، أما في لبنان فإن “حزب الله” هو الذي يُسير الأوضاع، ولديه ترسانة عسكرية تتكون من مائة ألف صاروخ وقذائف من أنواع مختلفة، وفي العراق فان الحكومة تابعة لطهران، وقد عزلت نفسها عن محيطها العربي استجابة للرغبة الإيرانية، لتكون جزءا من محور ايرات الممتد الى شرقي المتوسط.
وفي ذات المعنى، فان الوساطة التي قام بها العبادي تعكس ثمرات الهيمنة الايرانية في العراق، وتعبر عن رغبة حكومية قوامها تقريب وجهات النظر بين الطرفين الإيراني والامريكي، ما يعود على رئيس الوزراء مكسبا عمليا يخفف من غلواء معارضيه اللذين تحركهم طهران، للتوجه الى مرحلة التي يتم فيها انهاك مسلحي التنظيم وتشتيته واضعاف معنوياته ودفعه للانسحاب من بعض المناطق التي سيطر عليها.
وواضح أيضاً ان الرئيس اوباما يريد ان ينهي رئاسته بمجد شخصي، يقربه من الحصول على جائزة نوبل للسلام، في حال توقيعه على الاتفاق النووي، بعد اطول مباحثات عرفها التاريخ المعاصر، وجرّت إلى مواجهات بمستويات متعددة وحروب بالوكالة، رافقها انقسام المشرق العربي على نحو طائفي.
ولعل هذه الرسائل السرية، تثير مناخا مقلقا بالنسبة لحلفاء الولايات المتحدة الامريكية التقليدين في منطقة الشرق الاوسط مثل المملكة السعودية ودول الخليج العربي الاخرى واسرائيل، لجهة تهميشهم والسعي لتوقيع اتفاق مع إيران، دون الاخذ بالاعتبار هواجسهم الامنية ومصالحهم العليا. ويبدو في نظر الكثيرين ان المرحلة المقبلة تؤشر إلى الاتجاه نحو معركة الإقليم وحدود الأدوار فيه، هذا يشمل اليمن والعراق وسوريا ولبنان ومسارح أخرى، لرسم حدود للدور الإيراني، وإقامة توازن ردع يسمح بتشكل نظام إقليمي جديد.
وعندما ننظر إلى تغير الوسيط اليوم، نجد ان سلطنة عمان لعبت خلال السنوات الأخيرة دورا مهما في توفير قناة للحوار بين إيران والولايات المتحدة الامريكية، منذ بداية المحادثات السرية التي انطلقت عام 2012، والتي كان لها دور في انطلاق المفاوضات العلنية الحالية، ووفقا لتريتا بارسي، رئيس المجلس الوطني الإيراني الأمريكي فإن “عُمان هي واحدة من الدول العربية القليلة، في دول مجلس التعاون الخليجي، التي تربطها علاقات تاريخية طيبة جدا مع إيران”. ولكن التساؤل الذي يثار هنا لماذا جرى استبدال العمانين بالعراقيين؟ وهل الامر يتعلق بما وصلت اليه العلاقات العراقية الايرانية من مستوى متقدم حتى ان الرئيس اوباما اشار في لقاءه بالعبادي ان كلا البلدين يربطهما المذهب الشيعي، ويجمعهما تاريخا مشتركا؟
اختيار العبادي لتبليغ القادة الايرانيين رسالة اوباما انما يعبر عن ادراك امريكي، باحتمال حدوث صدام، بين الجنود الأميركيين في العراق والميليشيات الشيعية المدعومة من إيران، إذ يتقاسم الطرفان حيزاً جغرافياً واحداً، ويشترك الاثنان في التمركز في قاعدة عسكرية واحدة، ما يتطلب تدخل إيراني يحول دون انفلات الاوضاع الى حد المواجهة بينهما. علما بان الجنود الاميركيين والميليشيات الشيعية تستخدمان قاعدة “التقدم” العسكرية في الأنبار، التي تستقبل المدربين الامريكيين للمساعدة في تدريب القوات العراقية لقتال تنظيم “داعش”.
ويخشى بعض المسؤولين في إدارة أوباما، أن يعرض هذا التقاسم في القاعدة الجنود الاميركيين للخطر، وبحسب معلومات حصل عليها مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية، فان تحسبا ابدته أجهزة الاستخبارات الأميركية من قيام بعض مقاتلي الميليشيات الأكثر تطرفاً، بالتجسس على العمليات العسكرية في قاعدة “التقدم”، ويمكن أن يؤدي ذلك إلى وقوع صدام، إذا تضررت العلاقة الهشة بين الجيش الأميركي والميليشيات الشيعية، وقررت الأخيرة استهداف الولايات المتحدة مجددا.
ومن جهة اخرى فان رئيس الوزراء العراقي طرح على طهران إمكانة التنسيق بين المستشارين الإيرانيين الذين يعملون مع مليشيات “الحشد الشعبي” والمستشارين الأميركيين، الذين يسعون إلى تدريب وتسليح العشائر السنية تمهيدا لمقاتلة تنظيم “الدولة الإسلامية”، الامر الذي حمل العبادي الذي يرأس القيادة العامة للقوات المسلحة على وضع القادة الإيرانيين في إطار المشاورات التي أجراها مع قادة الدول الصناعية الست، والجهود التي يبذلها لتحقيق المصالحة مع السنّة وإخراج هيئة الحشد الشعبي من إطارها الطائفي لاحتواء العشائر، استعدادا لمعركة الرمادي التي تعتبر المحك للجيش والحكومة.
وبينما الوضع في العراق لايزال على نفس الدرجة من التعقيد، ما يجعل إدارة أوباما على ما يبدو غافلة أو معارضة للاعتراف به. ولا يزال الكثير من استراتيجية الولايات المتحدة معتمد على أمنية صعبة المنال على نحو متزايد: عراق موحَّد ،حتى لو كان فيدراليا، تحت سيطرة بغداد. وفي الوقت ذاته، تم تعزيز قدرة “الدولة الإسلامية” عن طريق تقوية قواتها العسكرية على الابتكار والتكيف بشكل أسرع على الأرض من معارضيها الأقل قدرة على ذلك.
وبالتالي، ما تخشاه الولايات المتحدة هو عدم وجود قيادة وسيطرة حقيقية من الحكومة المركزية على هذه الميليشيات، لذا فان ما نقله العبادي يدور حول تطمين امريكي يرى أن للإيرانيين استراتيجية، وليسوا متهورين، ويملكون رؤية عالمية، ينظرون إلى مصالحهم بعقلانية، ويستجيبون لعوامل التكلفة والفائدة. ولا تملكون رغبة انتحارية، بل انهم الاكثر استجابة للحوافز.
رئيس الوزراء العراقي نقل الرسالة لحلفائه الإيرانيين، مفادها؛ بالامكان الاعتماد على سياسات أوباما، والركون إلى ما يقوله ويعد به، لانه يريد ان يصنع فرقا في تاريخ الرئاسة الأميركية، وهو ما يمكن أن يكون مقبولا لإيران فالصفقة لن تقتصر على الملف النووي.
الشراكة الاميركية – الإيرانية في العراق ضد “داعش”، تستدعي وسيطا يقننها، والاتفاق النووي يعني تسليم المنطقة للولي الفقيه من خلال المزيد من الأنشطة الإقليمية العدوانية.
د.هدى النعيمي
مركز الروابط للبحوث والدراسات الإستراتيجية