من أين تستمد السلطة السياسية قوتها وشرعيتها المقدسة، هو مبحث فكري تناوله الكثير من المفكرين العرب والمسلمين، بالبحث والنبش في دلالات مفهومي الثواب والعقاب، فهل هما حكر على الله أم أنه بإمكانهما أن يتجسّدا على الأرض بأشكال مختلفة قد يمثلها الحاكم أو السلطان؟ كل هذا الحفر في معاني السلطة يتطلب وفق العديد من الباحثين ومن بينهم الباحثة والأكاديمية التونسية زينب التوجاني في كتابها “الثواب والعقاب في كتب تفسير القرآن” بالضرورة إنسانا جديدا وثورة على السُنّة الثقافية العربية الإسلامية، يتم عبرها تقديم قراءات وتفسيرات للتراث الديني من خلال كتب التفسير وأثرها في التشريع الإسلامي.
القاهرة – كتاب “الثواب والعقاب في كتب تفسير القرآن” للباحثة والأكاديمية المتخصصة في الحضارة الإسلامية د.زينب التوجاني هو محاولة لتقديم أنموذج لتفسير التراث الديني من خلال كتب التفسير وأثرها في التشريع الإسلامي، وقد حرّك البحثَ سؤالٌ ملح: بأيّ معنى نفهم أن الدّيني له منطق يجب تفكيكه؟
من هنا جاءت محاولة الباحثة التونسية سعيا للكشف عن المنطق الذي عبّرت عنه السنّة الثقافية الإسلامية من خلال المتخيّل الخاص بالجزاء تعبيرا بليغا اشتركت فيه مع باقي الإنسانية في ثوابت أنثروبولوجية وإن اختلفت في تأويلها.
سلطة متعالية
تبين قراءة الكتاب أوجها لهذا الاشتراك والاختلاف، ومن ثم فك الارتباط بالتأويل الأنطولوجي القديم وتأسيس أنطولوجيا لا تقوم إلا على الوعي بوجوب عقد يختاره الإنسان بإرادته الحرّة، ويكون قادرا حينئذ على تأسيس القوانين باعتباره فردا حرا مسؤولا عن حياته ومصيره.
وقالت التوجاني إن التفسير أسهم في إرساء مفهوم خاصّ للسلطة يتمثّل في أنّها لا تكون إلا متعالية وفوق الجميع. وأوضحت ذلك طول الكتاب ومن خلال كلّ القصص التي حللتها. فالثّواب والعقاب، وهما ليسا سوى وجهي هذه السّلطة المتعالية، لا يكونان إلا من عند الله. وضمن هذا المفهوم الإلهي للسّلطة نجد الحدود والأحكام.
فالثّواب والعقاب الإلهيّان ليسا، فحسب، في قصص الأوّلين وحكايات القرى البائدة بالقوارع، وعن طريق جبريل، وإنّما تجد الحدود تقام باسم الطّاعة للأمر الإلهي، وتجد الحروب تقام على أساس أنّها واجبة للرب دونها عقاب الجحيم، وتجد الأيدي تقطّع والرؤوس تطير على الأساس نفسه.
وإضافة إلى ما في القصص من ترسيخ لمفهوم السّلطة ذات الوجهين: الثّواب والعقاب، نجد التصورات الأخرويّة تلعب اللّعبة نفسها، وترسّخ هذين الوجهين بوضوح أكبر وتفصيل أشدّ، والأمر كلّه متعلّق ببناء سلطة مفارقة للإنسان، ومتعالية عليه، وأقوى منه، وفي السّماء.
هذه السّلطة تقدّم في التّفسير على أساس أنّها الحكم الإلهي، وأنّها فوق الجميع، بمن فيهم الأنبياء والصّالحون والعلماء والحكّام والأطفال والمجانين. يعني أنّه لا أحد يفلت من قبضتها ومن محاسبتها الدنيوية، ولكن الأهمّ هو تلك المحاسبة الأخروية، وهي أهمّ لسبب بسيط أنّه فيها تتحقّق العدالة المطلقة التي لا يمكن إثباتها على الأرض.
ولفتت التوجاني في كتابها الصادر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود إلى أن هذه السّلطة لا يمكن رؤيتها لفرط تعاليها، ولكن يمكن رؤية ثوابها وعقابها. وليس نعيم القبر سوى ثوابها، وليس العذاب سوى عقابها. وليست الجنّة سوى ثوابها وليس الجحيم سوى عقابها.
واستبطان الرغبة في ثوابها والخوف من عقابها لا يعني إلا استبطانها هي. فالسّلطة لا وجود لها إلا في داخل الإنسان، فكلّ شيء يدور بالفعل في داخل الإنسان وليس خارجا عنه، ولنسمّها كما يشاء النّاس: الوازع الديني، الوازع النفسي، الضمير، الاعتقاد، فكلّ ذلك ليس سوى تسمية لمسمى واحد هو السلطة.
ونقف حينها على حقيقة الثواب والعقاب، إنّهما وجهان لسلطة مطلقة ومجرّدة يحتاج إليها الإنسان في الأصل لينظّم بها معاشه، ويحمي بها الضعيف. ولأنّ هذه السّلطة متعالية فإن الجميع يجد نفسه فيها، ويقبل بها لأنّها تبدو عادلة ومُنصفة.
إلا أنّ الإنسان قد يستغلّ تلك السّلطة التي انغرست في باطن الأفراد عبر التمثّلات والشّعائر حين لا يكون مُراقبا مُراقبة حقيقيّة وناجعة. نعني بذلك عدم تطوير أي نظام يراقب ويعاقب السلطان والعالم، والاكتفاء بمقولة أنّهما يُحاسبان في الآخرة، فلماذا على الأفراد أن يُحاسبوا اليوم وغداً وعلى أربابهم أن يحاسبوا في الآخرة فقط؟
وأضافت التوجاني يمكن أن نجيب عن ذلك حين نعرض وجهي هذه السّلطة، فنجد الثواب على الله والعقاب على السلطان، ألا يعني ذلك أن الله يتكامل مع السّلطان؟ فالله وجه والسّلطان وجه، لكنّهما وجهان لسلطة واحدة. هذه السّلطة الواحدة ارتفع ثوابها ولينها إلى فضاء المنشود غير المتحقّق الآن، واقترب غضبها وعقابها وحزمها إلى الفضاء الإنساني الحقيقيّ، فأصبح السّلطان حضورا للربّ لكنّه ليس حضورا كاملا، فهو لا يمثّل الرب إلا في القسم المرتبط بالعقاب لا غير.
وهكذا يتأكّد لنا أنّ الإنسان أخذ من يد الإله الحديد والنّار، وبدأ يُمارس العقاب عوضا عنه. وترك له الثواب والأجر. وكلّ ذلك مستمدّ من الكتاب الذي فيه توضّحت وظيفة السّلطان باعتباره خليفة يقيم الحدود ووظيفة الجنّة باعتبارها تعويضا وثوابا إلهيّا، ووظيفة الحدود باعتبارها كفّارات عن عقاب الجحيم.
وعندها يتبين ما آل إليه أمر الثواب والعقاب الإلهيين من ترسيخ لسيادة السّلطة السياسيّة لا غير. فعلى المسلم أن يرغب ويخاف في ثواب وعقاب إلهيين، فإذا استبطن ذلك خضع للمؤسّسة وارتاح وأراح غيره وأجره في السّماء. وإذا عصى عاقبته المؤسسة على أساس أنها تنجيه من عقاب الرب.
وهكذا نلاحظ أن السّلطة توزّعت بين السماء والأرض، وفصلَ الثواب عن العقاب، وولدت الدّولة من ذلك الفصل بين الثواب والعقاب، أي ابتعد الثواب في السّماء وحل العقاب في الأرض، ولا يمكن أن يلتقيا ثانية إلا في القبر وما بعده.
الدين والدولة
أكدت التوجاني أن استبطان الوازع الديني يسهّل مهمّة الدولة، ويعفيها من أن تظهر بمظهر المتجبّرة والظالمة، وقد لعب التفسير دورا مهما في ذلك، وسهّل على الفقه والقضاء المهمّة حين هيّأ النّفوس لتقبّل الحدود والأحكام باعتبارها تكفيرا عن الذنوب وخيرا للإنسان وللمجموعة.
وسهّل على الإنسان أن يتقبّل عقابه على أساس أنّه عادل فيقدر من بعد على تجاوزه والتعلّم منه، فينجو من التأثيم الدائم، ويعود كمن لم يرتكب إثما.
وقالت إن الفقيه لا يهتم بأن يبرّر للإنسان غايات الحكم أو العقاب، وإنّما أقصى ما يفعله بيان السّبيل الذي سلكه ليتوصّل إلى حكم ما، فعلاقة الفقيه ليست مع المحكوم عليه بل مع الحاكم يوفّر له الأحكام عن طريق آليات مشروعة أجمع عليها الناس، واتفقوا في شأنها، وعدّوا أن ما تنتجه يرضي الرب ويحقق العدل، فيأتي المفسّر ليقنع المسلم بوجوب الاستسلام للعلماء والقادة؛ لأن في ذلك صلاح الدنيا والدين والنجاة من عقاب الاستئصال وعقاب الجحيم. إنهم يزرعون في داخل كل ذات حارسا قيّما على مراقبة النّفس ومحاسبتها. فالثواب هو الرضا والسّكينة، والعقاب هو الشّعور بالذنب والنّدم والخوف. ويسمي التفسير ذلك هلاكا.
ويعدّ بعضهم أن المذنب إذا لم يتب مخافة ألا يسامحه ربه على ذنبه يكون قد كفر بالله، فهم يطلبون من المسلم أن يفهم أن المحرّمات تؤدي إلى الجحيم إذا لم يكفّر عنها، وفي الوقت نفسه يريدون من كل عاص ألا يفقد أمله بالرّحمة الإلهية، فعليه أن يتوب وأن يبدأ من جديد والرب حينئذ غفور رحيم. إن تلك الحراسة التي تلعب دورا جزائيّا نفسيّا تردع الذّات وتُجبرها على أن تكون ملتزمة بخطة الخلاص الفرديّة والجماعيّة. إنّها ذات مهيّأة لتتقبّل أن تكون في مؤسّسة تقودها لأنها ثُقّفت، وحان الوقت لجني ثمار تثقيفها عبر إخضاعها لسلطة الدولة.
وأوضحت التوجاني أن أقصى ما يطلبه السّلطان أن يتمّ الاعتراف بسيادته وكفى؛ لأنّ الاعتراف يعني الخضوع لحُكمه وأحكامه. والنّاس يعترفون بالسلطان لأنهم يحتاجون إلى وازع خارجي، فهم يدركون أنّهم لا يقدرون على مقاومة الشر وحدهم، وإن قدر بعضهم على ذلك عجز البعض الآخر، فالإنسان كائن خطاء لا يمكن أن يكون معصوما، وقصّة هاروت وماروت خير دليل على ذلك، فهما ملكان ومع ذلك سقطا ضحيّة الإغراء حين وضعت فيهما الغريزة البشرية؛ لذلك كان الشعور بالذنب أكثر ما يجعل الإنسان قابلا لأن ينقاد.
وتؤكد أنه لو كان الإنسان معتزا بكماله لما خضع إلى أحد، ويسمى ذلك في التفسير الطاغوت. ويتمثّل في تجبّر إنسان واعتبار نفسه فوق الجميع، وعدم خوفه من ثواب الرب وعقابه. وأكبر تعبير عن ذلك قصة فرعون، التي تمثّل نموذج ذات لا تعترف بالخوف، ولا تخضع لأحد، ولا تحاسب نفسها، ولا تزعها عن فعل أي رغبة تعنّ لها. فتلك ذات ينقصها في رأي التفسير ما يكبحها ويذلّها ويجعلها تخاف وتندم.
والمقارنة مع ذلك النّموذج تكشف لنا ما معنى أن الإنسان يُحاسب نفسه ويُثيبها بالرضا ويعاقبها بالنّدم والخوف. إن معنى ذلك أنّه يشعر بالذّنب؛ ولذلك يقبل أن يُقاد، وأن ينخرط في مؤسّسة تحميه وتحمي منه.
لذلك قال المفسّرون إنّ النّاس بحاجة إلى من يدفع أذى بعضهم عن بعض فيطبّق الأحكام والحدود، إذ لا بدّ من حارس خارجي، وتلك هي وظيفة الدّولة في كتب التفسير. فالسّلطان يختار الحدّ المناسب، ويتدخّل بين المرأة وزوجها، ويحكم بين النّاس بالعدل والميزان، ويقيم حدود الله. أما الثّواب والأجر فهما على الله. إذن مهمّة السلطان أن يراقب ويعاقب ويصلح حال الفرد والأمة، ويفعل كلّ ذلك في سبيل الخلاص من عقاب الاستئصال الدنيوي وعقاب الجحيم الأخروي.
ورأت التوجاني أن الأمّة المنشودة لا تحتاج إلى العقاب ولا الحدود ولا الجحيم، ويكون ذلك عندما تتحقّق وتتطهر هذه النفوس من الميل إلى الهوى، أي حين ينزع الغلّ من القلب.
وهكذا لا يمكن القول إن الإسلام دين محرّمات وأوامر ونواه فحسب، لأن المفسّرين عدّوه كلّا يحيط بالإنسان في سلوكه وفي مشاعره ورغباته، وبذلوا الجهد ليطهروا الإنسان عبر وعظه وتوعّده ووعده لتعليمه كيف يسمو بنفسه عن الشّهوات ويقاوم الزيغ. فليست الأحكام سوى ما ظهر، لكن الصّراع مع الذات صراع خفي مرّ وحادّ، وقد جعلت التفاسير توسّع أمره رغبة في أمّة طاهرة، وسعيا لجنة أرضية.
وختمت التوجاني مؤكدة أننا اليوم بحاجة إلى إنسان جديد، وإلى ثورة على السنّة الثقافيّة العربيّة الإسلاميّة التي قدّمت معنى للوجود، فصار بمقام السّلطان الأوحد، والإنسان الجديد هو الذي يثور ضدّ نفسه من أجل أن يجعلها أقرب صديق له.
وأكدت أننا نفهم تلك الثّورة بالمعنى الذي تحدّث عنه آينشتاين، فقد فسّر ذلك الرّجل الشّهير الذي غيّر وجه العالم بقانونه في النسبيّة، أنّ الأمور كلّها نسبيّة، وأنّ الأرض كرويّة الشّكل؛ لذلك لا معنى لأن نقسّمها شرقا وغربا، ولا معنى لأن نصنّفها وهي دائرة تدور، ونعني بذلك أنّ أوّل ما تتطلّبه ثورة الإنسان الجديد أن يحاول أن يضع نفسه فوق الثّقافة ذاتها ليكتشف داخله إنسان الطّبيعة.
إن السنّة الثّقافية تهب الإنسان الذي ينتمي إليها معنى يهتدي بظلّه في رحلة الوجود التي تبدو موحشة لو لم يكن لها معنى وقناع، فيستظلّ الإنسان بها، ويحتمي بمعناها من الخراب والوحشة والضّياع في التّاريخ والخوف من المجهول والعجز عن تقبّل الموت، فيطمئن القلب إلى تلك السنّة لأنّها تحميه من نفسه وتغطّيه، فلا يرى في كلّ ما يؤمن به ويفعله إلا الجانب الذي يريد له الظّهور، لكن تلك الطّمأنينة القلبيّة ليست بلا ثمن، بل لعلّ الإنسان يتحوّل في لحظة سجينا إلى ما تاق إليه قلبه الظَّمِئ إلى التحرّر في المطلق والسّكون في الأزل.
العرب