كان العراقيون، خلال العقود بل القرون السابقة، أي قبل الصحوة والحملة الإيمانية، يوازنون موازنة دقيقة بين الدِّين والدُّنيا، ليس هناك مِن نزاع بين الآباء والأبناء أو لنقل بين الأجيال، في الموقف من الدِّين، فبشكل عام مارس العراقيون دينهم على أنه قضية شخصية أولا، واجتماعية ثانياً، مِن دون صدام مع الحداثة ومقدمات التَّنوير، التي شرعت بالدخول إلى العراق والتأثير فيه، منذ تأسيس الدَّولة العراقية الحديثة.
على سبيل المثال، عندما ثار الجدل ببغداد عن الحجاب والسُّفور، ظل بحدود الصحافة والكتابة والأدب والشِّعر، ولم يحصل أن برز رجل دين يُكفر خصومه، ولم يحصل أن يلجأ رجل دين ويدفع بالعشائر أو الأتباع ضد خصومه، وانتهت معركة الردود باستمرار أهل القناعات المختلفة على قناعاتهم، وأخذ يتزايد عدد السافرات أو حاسرات الرأس، بل إنّ وزير المعارف نفسه، وهو محسوب على التيار الديني، وكان صحاب عِمامة ومِن مدينة دينية، اشترك لصالح الحجابيين، ولكنه بعد توسع المدنية ببغداد أخذ يتصدر الحفلات الطُلابية التي تظهر فيها المعلمات والطالبات بلا أحجبة.
لم يحصل أن وقف رجال دين أو متشددين دينياً ضد الدولة العراقية بفتحها لدور السينما، والتي بدأ افتتاحها منذ العشرينات من القرن الماضي، ثم تزايد العدد بشكل لافت، حتى غدت بغداد لا يغيب عن شاشات قاعاتها أحدث الأفلام العربية والأجنبية، وظل قطاع السينما خاصا، ثم دخل القطاع العام بامتلاك صالات سينمائية، تُعرض فيها الأفلام ذات المغزى الثقافي والاجتماعي.
ظلت بغداد، والبصرة ومراكز بقية المدن العراقية تعجّ بقاعات وصالات السينما والنوادي الاجتماعية، التي تُقدّم المشروبات الروحية، من دون دعوات دينية ضدها، ولا احتجاجات تؤجج العوام وتدفعهم للتمرد، فمعلوم أن بغداد العباسية جمع شاطئ نهرها بين المساجد والنوادي، بين مدارس الفن والمدارس الدينية، من دون جدل على من هو الحق ومَن هو الباطل؟ هكذا كان الحال، فالبيئة، وهي بيئة غنية تتمكن مِن امتصاص الكوارث الطبيعية والملمات الاجتماعية، من طواعين وحروب، بسرعة، فليس هناك مجال كي يفترس الناس اليأس، ويطلقوا الدنيا والتوجه إلى الآخرة، وهذا يتطلب، بطبيعة الحال، اللجوء إلى التدين بأسفل مستوياته.
ما بين الإيمان والإلحاد فجوة كبيرة، بينها القوى الدينية ليست الأحزاب فقط، بل المرجعيات الدينية، وسدنة الوقفين الشيعي والسني
لم تظهر بالعراق سُلطات دينية، إلا في فترات قليلة جداً، فُرضت فيها شروط التدين، ضد غير المسلمين وضد المسلمين غير المتدينين. لقد استغرب الشيخ علي طنطاوي، مِن تدين أهل العراق، وهو إخواني معروف، عاش ببغداد في الثلاثينات من القرن الماضي، وكان يعمل مدرساً، وكذلك زارها بالتنسيق مع رفاقه الإخوان العراقيين عدة مرات، أستغرب لأنه يرى بين ركاب الباص العراقيين مَن يُدخن في رمضان، ويُطلق ألفاظ تمس الدين، وبهذا حكم على العراقيين بعدم التدين، جاء ذلك في كتابه “بغداد”، غير أن هذا الإخواني يريد التدين على مقاس جماعته، الذين بدأوا يعملون من أجل إظهار الصحوة الدينية عن طريق العمل السياسي والاجتماعي.
نشط التدين بتأثير الأحزاب الدينية منذ السبعينات، تبنّاه الإخوان المسلمون والقوى الشيعة ومنها حزب الدعوة الإسلامية، الذي تأسس في العام 1959، وعملت هذه القوى على غرس التدين بصفته السياسية والحزبية، وبدأ العمل بالبنوك اللاربوية، على البنوك الرسمية ربوية، وبدأ النزاع في المجتمع وداخل الأُسر، بين أخ متدين منتم إلى تلك القوى وآخر غير متدين، حتى وصل الحال أن أبناء يتخلون عن أبيهم لأنهم اعتنقوا مبادئ حزب الدعوة أو الإخوان المسلمين، وبدأت كراهية لغير المسلمين وغير المتدينين، تطفو على السطح، وهذا ما يمكن أن يُطلق عليه بزمن الصحوة الدينية، والتي اشتدت بتأثير الثورة الإيرانية وحرب أفغانستان، وكذلك الحروب التي خاضها العراق، والحملة الإيمانية التي أقيمت بعد حرب الخليج الثانية، ثم الحصار المدمر، فتوجه المجتمع إلى الدين، وتعاظم دوره.
ظهر الإخوان المسلمون يوزعون الأحجبة ونسخ القرآن على طالبات الجامعات، وعلى غير المحجبات في الدوائر، وكثرت البرامج الدينية، وأغلق الكثير من النوادي. كانت ظاهرة صلاة الجمعة بالكوفة وبثها عن طريق أشرطة ظاهرة جديدة في المجتمع، فتعاظم دور رجل الدين محمد محمد صادق الصدر، وتعاظم أتباعه من الشباب الذين ينتمون إلى المناطق الريفية، وهو يرتدي الكفن كإشارة للتحدي، وأخذ يتحدث عن مرجعية ساكتة ومرجعية ناطقة، على أنه يُمثّل الناطقة.
بعد سقوط النظام (عام 2003) وجدت الأحزاب الدينية الأجواء متهيئة لها، فحافظت على كل قوانين وإجراءات الحملة الإيمانية السابقة، فظهر التدين الشعوبي، ممثلاً في المواكب الحسينية، وتوزعت الحوزات الدينية على المدن والأرياف، بعد دخول العامل الإيراني في نشر هذه الظاهرة. فالأتباع الذين صلّوا وراء الصدر، وبعضهم جعل منه رجلا مقدّسا، التفوا حول ولده مقتدى الصدر، ليتكون التيار الصدري وجيش المهدي، ومن العمائم التي تخرج أصحابها على يد الصدر الأب، انشقوا وشكلوا أحزاباً وجماعات، وميليشيات، مثل “عصائب أهل الحق”، و”حزب الفضيلة” وغيرهما.
ماذا الذي يدفع شاب عمره ستة عشر عاماً، ومن المنخرطين في العمل الديني الذي تغطيه المرجعية الدينية نفسها، إلى أن ينقلب إلى الكفر بالمرجعية ثم الكفر بالدين نفسه؟
لكن مع قوة الحضور الديني، وضعف الحضور المدني، لم تخل الساحة العراقية من وجود معارضين ومعترضين على طريقة الأحزاب الدينية في الأداء الحكومي، فبدأ الجدار الديني يتصدع، بانسحاب أصحاب عمائم من المجال الديني، وتبنيهم للفكر المدني، ومنهم من تبنى علانية الإلحاد بعد الشك في الدين نفسه، وهذا ما حصل أيضاً بإيران، حيث أن متعصبين لولاية الفقيه بدأ شكهم في الولاية نفسها، ثم تدرج إلى الشك بالدين نفسه، وقد تأسست لضبط هذا الأمر محكمة تسمّى بمحكمة رجال الدين بإيران، وما زالت فاعلة.
كذلك تصاعد عدد الشباب، من الذكور ممن قاطعوا الحسينيات والمساجد، والإناث ممن خلعن الحجاب، وقد بدأ إلحادهم بالأحزاب الدينية، فتطور إلى الإلحاد بالدين نفسه. فمن المعلوم أن كل تشدد يسفر عن ضده، آجلاً أم عاجلاً، فمن يتابع صفحات التواصل الاجتماعي يجد عدداً من الشباب، من الذين لم يخرجوا من العراق، بل ومن المناطق البعيدة عن بغداد ومن بغداد قصبات المدن الأخرى، يتحاورون في هذه القضية، ويُثار جدل كبير بين الملحدين والمؤمنين. لهذا يمكن اعتبار أداء الأحزاب الدينية السيء سبباً مهماً في وجود هذه الظاهرة، يُضاف إليها التطور العلمي والتواصل الاجتماعي السريع جدا.
فالسؤال ماذا الذي يدفع شاب عمره ستة عشر عاماً، ومن المنخرطين في العمل الديني الذي تغطيه المرجعية الدينية نفسها، إلى أن ينقلب إلى الكفر بالمرجعية ثم الكفر بالدين نفسه؟ وماذا يدفع قيادي دعوي أن يقوده الكفر بحزب الدعوة إلى الخروج عن الدين نفسه، وكان قد اعتمر العمامة بتأثر ثقافي من الحزب نفسه.
يغلب على الظن، أن ما بين الإيمان والإلحاد فجوة كبيرة، بينها القوى الدينية، ليست الأحزاب فقط، بل المرجعيات الدينية، وسدنة الوقفين الشيعي والسُّني، وسدنة المراقد الدينية، فالمتدينون أصبحوا طبقة رأسمالية مصلحية، انقضوا على ذلك التدين المتوازن، وانهوا الوسط بين الإلحاد والإيمان.
العرب