كان لافتاً للنظر، صياغة عنوان الحوار الذي أجرته مجلة «ديرشبيجل» الألمانية مع هنري كيسنجر، وهو – «هل نحن أوجدنا نظاماً عالمياً عن طريق الفوضى؟».
والعنوان، بالإضافة إلى شرح كيسنجر لما يقصده، لابد وأن يدفع العقل لاستدعاء نظرية الفوضى، أو تحديداً الفوضى الخلاقة، التي أسهبت كثيراً من الدراسات والبحوث في الولايات المتحدة، في كشف حقيقتها، ودورها في السياسة الخارجية، وأن البداية لها جاءت مع الصياغة التي وضعها مايكل لادين، أحد أبرز خبراء الاستراتيجية في معهد «أمريكان إنتربرايز»، وهو المؤسسة التي كان الرئيس جورج بوش يلجأ إليها لاستلهام رؤيته الاستراتيجية تجاه العالم العربي، وفي قضايا الحروب والنزاعات، والتغيير الإقليمي، كما أن لادين كان قد كلف بوضع خطة مدتها عشر سنوات، هدفها تغيير هوية الدول العربية، من داخلها سياسياً، واقتصادياً، واجتماعياً، وثقافياً.
هذه النظرية نسبت خطأ إلى كوندوليزا رايس، التي ارتبطت باسمها لمجرد ترديدها لها في أكثر من مناسبة.
وهي النظرية التي وضعت موضع التطبيق في العالم العربي، في سياق أحداث عام 2011.
لم تكن أهمية الحوار مع كيسنجر، لمجرد أنه كان وزيراً للخارجية، ومستشاراً للأمن القومي في عهود الرئيسين نيكسون، وجيرالد فورد، لكن لأنه لا يزال حتى اليوم يقدم نصائح لرؤساء، ووزراء خارجية الولايات المتحدة، كما أن كيسنجر هو الذي أعاد تشكيل مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض – والذي تأسس في عهد الرئيس هاري ترومان عام 1947 – لدرجة أن الخبراء الأمريكيين، وصفوا المجلس بعد تولي كيسنجر رئاسته، باللجنة التي تتحكم في شؤون العالم..
كان كيسنجر في حواره مع مجلة «شبيجل» يقول: إن العالم يعيش الآن وبدرجة كبيرة، حالة من اللانظام، عن أي وقت سابق، واللانظام يساوي الفوضى.
وقال: هناك فوضى تهددنا، نتيجة انتشار أسلحة الدمار الشامل، والإرهاب العابر للحدود، والذي لا توجد سيطرة حكومية عليه، مثلما شهدنا ما يجري الآن في ليبيا على سبيل المثال، وكيف أن هذا الوضع له تأثير ضار في حالة اللانظام في العالم، بعد أن صارت الدولة كوحدة سياسية، تحت الهجوم.
ويشرح كيسنجر كيف أن النظام العالمي المستقر، والمحكوم بقواعد محددة، كان قد تأسس بعد حرب الثلاثين عاماً، التي أنهتها معاهدة وستفاليا عام 1648، والتي أقرت مبدأ سيادة الدولة على أراضيها، وخلقت نظام توازن القوى، الذي يفتقده العالم اليوم.
عندئذ سأله المتحاورون على الفور: هل نحتاج إلى حرب أخرى، لإنشاء نظام عالمي جديد؟
كانت إجابته: هذا سؤال جيد.
ثم رد على سائليه، بسؤال من جانبه هو: وهل نحن حققنا نظاماً عالمياً عن طريق الفوضى؟
بالطبع لم يحدث ذلك.
ولابد أن نفكر في أن هناك ما يدعونا بقوة، لإيجاد أجندة مشتركة بيننا وبين الدول الأخرى، وأن نلتزم بالحكمة في تصرفاتنا، حتى لا تقوم حرب ثلاثين عاماً أخرى.
الملاحظ أن كيسنجر أقرّ بأن الفوضى هي المسؤولة عمّا أسماه بحالة اللانظام الدولي، السائدة حالياً،
وبأن أخطارها لا تتهدد أماكن إقليمية فقط، بل تهدد العالم أجمع..
لكن الفوضى كما اعترفت بذلك مراكز دراسات مهمة ومتخصصة في الولايات المتحدة، تعبر عن قصر نظر، وانجراف من ساسة ومفكرين، وراء أفكار تخيلوا أنها الضمان لعدم خروج دول إقليمية من قبضة يد القوى الكبرى.
وإنه لو حدث ذلك فإن القوى الكبرى يمكن أن تواجه منافساً إقليمياً ودولياً لها، نتيجة تحولات بدأت تظهر في النظام الدولي، وبروز قوى إقليمية تمتلك إمكانات المنافسة.
وكان تفسير مسألة قصر النظر هذه، أنها نتجت عن رغبة في الوقوف في وجه تيار تاريخي هادر، يجتاح العالم، وتلك هي سنة الحياة، وقاعدة الصعود والهبوط التاريخية للقوى الكبرى، مع كل حقبة زمنية.
لقد كان السؤال الافتراضي الذي طرحه كيسنجر نفسه، هو بمثابة ضوء كاشف، لما فعلته القوى الكبرى، صانعة الفوضى الخلاقة، حين قال: وهل نحن أوجدنا نظاماً عالمياً عن طريق الفوضى؟!.
عاطف الغمري
صحيفة الخليج