في فترة التسعينيات وبداية الألفية الجديدة، كان عدد من الباحثين الغربيين ممن يعملون في حقل العلوم الإنسانية يحاولون رصد مآلات ومصير الطبقة الوسطى في عدد من الدول العربية (سوريا ومصر والمغرب). إذ عرفت هذه الدول في هذه الفترة إعادة تكييف سياساتها الاقتصادية لتتلاءم مع رؤية أخرى تقول بضرورة «إعطاء حصة أكبر للسوق وأقل للدولة»، وهو ما بدا في حالة مصر بشكل أكثر ظهوراً، مقارنة بحالة سوريا، حيث طُبِّقت مجموعة من التدابير كتفكيك القيود التجارية لفتح السوق أمام الاستثمار الأجنبي، وتعديل أسعار الصرف، وخصخصة الشركات العامة، وخفض النفقات العامة. وقد عنت إعادة الهيكلة الدرامية نهاية دولة الرعاية وخسارة كثيفة لعدد من المهن التي كان يُنظر إلى حامليها بوصفهم رواد المشروع الوطني والطبقة الوسطى، وأيضاً ازدياد نسب الفقر بين أفرادها. إذ ستلاحظ، مثلاً، الفرنسية اليزابيث لونغنيس في كتابها «أزمة الطبقة الوسطى في المشرق العربي» أن تدهور مكانة الطبقة الوسطى وتأثيرها سيبدو جلياً من خلال تحولات سوق العمل وولادة لاعبين جدد داخله. فبعد أن كان المهندس (بطل الطبقة الوسطى) في فترة السبعينيات والثمانينيات مصدراً للمكانة الاجتماعية ولدور هذه الطبقة، سيغدو في فترة التسعينيات رأس الحربة في الاحتجاج الإسلامي في ظل اختزال دوره من نخب تحمل هم المشروع الوطني، إلى مجرد وريث لطبقة متأزمة، خاضعة لعملية انحدار مستمرة. وفي ظل هذا الانحدار، وإعادة التكيف الاقتصادي، سيظهر المحاسب وخبير التقنية، كرموز جديدة للمشروع الدولتي النيوليبرالي.
لن تقتصر ولادة ظاهرة المهنيين الحضريين الجدد على ظهور هؤلاء المحاسبين والشركات وحسب، وإنما ستعبر عن نفسها أيضاً بأسلوب رمزي وبأشكال ثقافية مختلفة.
ولن تقتصر ولادة ظاهرة المهنيين الحضريين الجدد على ظهور هؤلاء المحاسبين والشركات وحسب، وإنما ستعبر عن نفسها أيضاً بأسلوب رمزي وبأشكال ثقافية مختلفة. فبدلاً من النظر لبعض التعبيرات الثقافية، بوصفها منتوجاً جانبياً لإعادة الإنتاج الاجتماعي، سيحاول عدد من الأنثروبولوجيين السير على خطى بيير بورديو في فهم دور هذه التمثلات والتعبيرات في خلق صراع أو انشقاق طبقي، ليس شرطاً بين الطبقات أو عبر الطبقات، وإنما داخل الطبقة ذاتها. وفي حالتنا، الطبقة الوسطى العربية، سترصد الأنثروبولوجية الهولندية أندي كونينغ حالة الشقاق داخل أوساط الطبقة الوسطى في شوارع القاهرة، من خلال بعض المظاهر المتعلقة بالطعام واللباس وأسلوب الحديث، وحتى طريقة تناول الشائعات. ففي دراستها «كافيه لاتيه وسلطة القيصر في مقاهي القاهرة الراقية»، ستلاحظ كونينغ كيف لعبت المقاهي الجديدة في القاهرة دوراً تمييزاً بين الطبقات في المدينة، وبصفة خاصة بين الطبقة الوسطى العليا والطبقة الوسطى السفلى. فمذاق الكابتشينو لم يعد يعبّر عن نمط جديد من القهوة، وإنما دليل على ولادة طبقة وسطى عليا أخذت تحاول إقصاء الأغلبية الساحقة من سكان القاهرة، من خلال تقسيم الطبقة الوسطى المتعلمة إلى أولئك «الذين يملكون ناصية اللغة الإنكليزية، ويرتادون مقاهي الستاربكس» والذين لا يمتلكونها، ويرتادون في الأغلب محال الفول.
سردية نهضة الطبقة الوسطى:
حاول الإيراني حميد دباشي في مقاله المنشور في صحيفة «الأهرام ويكلي»، 2009، تحت عنوان «البحث في الأماكن الخاطئة»، التطرّق لقراءة بعض المثقفين اليساريين/العرب والغربيين لمآلات وأسباب ما عُرِف بـ«الاحتجاجات الخضراء» في إيران، التي اندلعت في شوارع طهران إثر إعلان فشل مرشح قوى المعارضة مير حسين موسوي في الانتخابات الرئاسية عام 2009. ما لفت اهتمام دباشي أو أثار حفيظته هي السردية التي رددها هؤلاء الباحثون حول علاقة هذه الاحتجاجات بـ«الطبقة الوسطى» التي تُعدُّ، وفقاً لهذه السردية، «أكثر اتصالاً مع بقية العالم، مقارنة بأبناء الطبقات الفقيرة الذين انحازوا لأحمدي نجاد». يومها حاول دباشي القول بأن هذه الاحتجاجات تفرض علينا أن نستجمع شجاعتنا وخيالنا لمواجهة وقراءة الأمور بشكل آخر، بدلاً من التقهقر مجدداً إلى التحليل البنيوي الوظيفي، عبر الافتراض بأن انصار موسوي أو كروبي، أو تلك الجماهير التي تعدُّ بالملايين، من الناس الذين تدفقوا في شوارع طهران وغيرها من المدن يأتون من الطبقة الوسطى فقط.
وسيعود دباشي مرة ثانية في عام 2012 وبُعيد اندلاع الانتفاضات العربية ليرصد ما دعاه بحروب السرديات التي عاشتها وسائل الإعلام الأوروبية حيال قراءة هذا المشهد. ففي مقال نشرته «الإيكونومست»، حاولت الصحيفة دمج هذا الحراك في إطار الصعود العالمي للطبقة الوسطى التي باتت تعطي باستمرار وزناً أكبر لحرية التعبير والانتخابات النزيهة أكثر من الفقراء. وهكذا، بالنتيجة، فإن الشعب إما أن يكون فقيراً وإسلامياً (وبالتالي عرضة للعنف الطائفي) أو من الطبقة الوسطى الجديدة الداعية للديمقراطية على النمط الأمريكي، وفق ما وصل إليه الإيراني ولي نصر في كتابه المنشور سنة 2009 «صعود قوى الثروة: الطبقة الوسطى في العالم الإسلامي».
رغم هذا التمايز والانشقاق داخل الطبقة الوسطى، الذي يبدو أنه استمرار لفترة ما قبل الربيع العربي، مع ذلك يؤكد الباحثان على أن بعض المقولات حول تلاشي أو تدهور هذه الطبقة قد تحمل شيئاً من الصحة.
ربما ما غاب عن تحليل دباشي هنا، والذي بقي مولعاً كباقي المهتمين بحقل ما بعد الاستعمار، بتفكيك هذا الخطاب بدون الإحاطة الكافية بالواقع، هو أن هذه الطبقة الوسطى لم تكن كتلة متجانسة قبيل الربيع العربي، بل كانت تعاني من انشقاق عمودي كان يزداد اتساعاً مع مرور الأيام (كما بيّنت كونينغ ولونغيس في القراءة السابقة). بيد أنه وخلافاً لهذه الجزئية، يُحسب لدباشي تلميحه في وقت مبكر إلى عدم نجاعة التفسير الذي يقول بأن الطبقة الوسطى هي من قادت هذا الحراك، قبل أن تؤدي الانتكاسة لاحقاً إلى الوصول لنتيجة مفادها، أن الربيع العربي قاد إلى الإعلان عن تلاشي دور هذه الطبقة الوسطى لصالح الطبقتين الفقيرة والغنية.
نفوذ الطبقة الوسطى بعيد الربيع العربي؟
في مقابل سردية تلاشي الطبقة الوسطى، التي كثر تكرارها في السنوات الأخيرة في عدد من التحليلات الاقتصادية والاجتماعية حول المدينة العربية. حاولت مؤخراً بعض الدراسات الميدانية، عدم الركون لهذه المقولة أو الاستسلام لها، من خلال البحث في مدى نفوذ هذه الطبقة بعد سنوات من الربيع العربي. ففي دراسة «الطبقة الوسطة: غياب الأمن والالتزام السياسي»، التي أعدتها مؤسسة فريدريش أيبرت بعد استطلاع شمل 9000 شاب في ثماني مدن عربية، وصدرت ترجمتها مؤخراً للعربية في كتاب «مأزق الشباب في الشرق الأوسط وشمال افريقيا»، يعود كلاً من يورغ غرتل/جامعة لايبزيغ الألمانية، ورشيد أوعيسى جامعة ماربورغ الألمانية، إلى مقاربة شبيهة بمقاربة الباحثة الهولندية كونينغ عن مقاهي الستاربكس في القاهرة.
وانطلاقاً من عبارة «قل لي ما تأكل، أقل لك من أنت»، واستنتاجات بورديو من أن الذوق يشكل في النتيجة عنصراً محدداً للطبقة، يرى الباحثان أنه يمكن من خلال هاتين المقولتين، رصد التمايزات داخل الطبقة الوسطى. إذ تبين بعض الجداول أن معظم أفراد الطبقة المتوسطة العليا ينفقون المال على الملابس والطعام والهواتف المحمولة، والخروج مع الأصدقاء، بيد أن هذه الميزات تتغير إلى حد ما لدى الطبقة الوسطى الدنيا، إذ ينفق معظم الشباب المال على الطعام، يليه الملابس والقمح والخبز والمياه والكهرباء. كما أن معظمهم يتبضع من محلات البقالة الصغيرة والجزارة والأسواق المجاورة لهم لتأمين احتياجاتهم. وعلى صعيد الأنشطة الترفيهية، تُظهِر استطلاعات الرأي مدى الأهمية التي تُخصص لهذه الأنشطة المختلفة. فأفراد الطبقة الوسطى العليا أكثر تمايزاً بكثير «فهم يستمعون للموسيقى بصورة أساسية»، ويزورون الجيران ويرتادون المقاهي ويقومون بشيء ما مع العائلة ويمارسون الرياضة، في حين أن الشباب من الطبقة الوسطى الدنيا لم يمتلكوا فرص القيام بكل هذه النشاطات.
رغم هذا التمايز والانشقاق داخل الطبقة الوسطى، الذي يبدو أنه استمرار لفترة ما قبل الربيع العربي، مع ذلك يؤكد الباحثان على أن بعض المقولات حول تلاشي أو تدهور هذه الطبقة قد تحمل شيئاً من الصحة. فمن خــــلال مــــقارنة بين أوضاع بعض العائلات داخل الطبقة الوسطى بين عامــي 2010 و2016، يُلاحظ مثلاً أن ربع العائلات (الطبقة الوسطى الدنيا) قد عرفت تداعياً اقتصادياً وانزياحاً باتجاه الطبقات الفقيرة، في حين شهد أقل من ثمن أبناء (الطبقة الوسطى العليا) 12٪ تحسناً في ثروتهم، وهو ما يؤكد تزعزعاً أكبر في مكانة وأفراد هذه الطبقة لصالح الطبقتين الغنية والفقيرة.
القدس العربي