يبدو واضحا أن حجم وخطورة الأحداث المتصاعدة التي تعصف بمنطقة الشرق الأوسط، في ظل تطور الأزمة الأمريكية ـ الإيرانية من جهة، واتساع رقعة الصراع الإيراني ـ السعودي في العراق واليمن من جهة أخرى، قد تخلط الأوراق وتؤثر على طبيعة التكوين السياسي والاجتماعي للمجتمعات العربية. وهذا ما قد يدفع شعوب المنطقة، إلى إعادة الحسابات في ترتيب الولاءات، بما يخدم العقيدة والطائفة، ما قد ينذر باحتمال توجه الدول العظمى نحو إعادة رسم بعض الحدود وفقا لمصالحها الحيوية.
وعلى الرغم من أن عملية إعادة رسم الحدود، لم تقرر علناً، بيد أن مسلسل الأحداث المحتملة المقبلة، وقابلية اتساع رقعة خطوطها المترابطة والمتداخلة إثنيا وقومياً، قد تطال إيران والمملكة العربية السعودية على حد سواء في المستقبل، إذا أخذنا بعين الاعتبار مدى جدية النظام الثيوقراطي الإيراني، القومية الهادفة إلى تغيير الأنظمة العربية عن طريق المشروع الطائفي، واحتمالات سقوطه في حال تطور الأزمة الأمريكية ـ الإيرانية واتساعها لتتحول إلى صراع سعودي ـ إيراني عسكري ينتهي لصالح القوة الأمريكية العسكرية الأولى في العالم، إلا أن نتائجه قد تفرض على الجميع واقعاً جديداً، وتحدياً خطيرا لتركيب إيران الاجتماعي المتعدد القوميات من جهة، وعلى الوضع الداخلي للمملكة العربية السعودية وبعض دول الخليج العربي، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار جدية التهديدات الرسمية الإيرانية بالتعرض لحلفاء واشنطن، في حالة تدخل إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عسكريا. وهذا ما قد يذهب بنا اعتباطا أو جدلاً، مع سيناريو إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط الجديد، على أساس قومي أو إثني أو طائفي، خصوصاً أن عوامل تنفيذها في سوريا والعراق أضحت جاهزة وقابلة للتنفيذ.
وانطلاقا من هذه المعطيات، وعلاوة على ذلك، أثبتت فترة ما بعد عملية غزو العراق، عدم قدرة العالم العربي على معالجة الأزمات الإقليمية العربية، بعد مسلسل المشاكل الداخلية والخارجية التي واجهت مصر، العراق، سوريا. من هنا يبدو أن السمات الجديدة لخريطة الأحداث التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط، في عام 2019، أصبحت تُشكل وضعاً جديدًا ومختلفًا عما كان موجودًا في فترة ما قبل احتلال العراق في 2003، سواء كان نتيجة تغير الوضع العراقي من بلد مؤثر إلى كيان مهترئ وضعيف، في خدمة مخططات وأهداف القوى الإقليمية المجاورة والمؤثرة على تفاعلاته، أو من حيث احتمال قرب زوال علاقته المؤقتة مع طهران، في حال أن قررت الولايات المتحدة شن الحرب على إيران، وبغياب أو ضعف علاقته مع الحاضنة العربية، التي لم تعد لها القدرة على مجابهة خطر التحول من الانتماء العربي إلى الانتساب الطائفي للعديد من مواطنيها، عن طريق الإسلام السياسي الطائفي، الذي جاءت به إيران، وبعد أن قللت الولايات المتحدة وحلفاؤها في الغرب من حجم خطورته، فبالإضافة لمشروع الدولة الكردية التي يسعى الغرب لتنفيذه في إقليم كردستان، ومشروع العرب السنة في شمال غرب العراق، يبدو من خلال الأحداث التي نعيشها اليوم وهذا التحليل في (صيغة الشرط)، أن مستقبل الشيعة العرب، سيرتبط مع ما ستؤول إليه التداعيات المحتملة التي سيفرزها الصراع السعودي ـ الإيراني إن وقع، والذي قد يتحول إلى صراع مذهبي سني ـ شيعي إقليمي، لتشكّيل نواة لقيام كيان شيعي ـ عربي مصطنع يضم الشيعة العرب في إيران، امتدادا من منطقة الأحواز، وصولا إلى الجزء الشرقي من المملكة العربية السعودية، الذي يضم العدد الأكبر من العرب الشيعة. وهذا ما يعني إمكانية تأثر المناطق السعودية الشرقية والشمالية المحاذية للحدود مع العراق، بالحالة الطائفية السائدة، بوجود المليشيات في جنوب بلاد الرافدين، نتيجة للتداخل السكاني للقبائل العربية عبر الحدود من جهة أخرى.
على النخبة الوطنية أن تتحمل مسؤوليتها والبدء بتصحيح أخطائها وتحالفاتها مع الخارج، لإعادة بناء المشروع العراقي الوطني
وهنا لابد من التركيز على أن بوادر تقسيم العراق الفعلية من خلال «الدولة الكردية»، قد تم البدء في تنفيذه، بعد الاستفتاء على الانفصال، وتشكيل دولة كردية في شمال العراق، والتي كما يراها كل من له بصيرة وطنية على أنه بمثابة «حجر الأساس» لمشروع «الدولة الكردية الكبرى في العراق وسوريا وإيران وتركيا. من خلال «استغلال الفرصة التاريخية التي لاحت للولايات المتحدة غداة غزوها للعراق، وتقسيمه إلى ثلاثة مكونات متناحرة على السلطة والثروات، وكما نراه الآن في صراع الشيعة والكرد على نفط العراق في مدينة كركوك. لقد أصبح من الصعب تجاوز النتائج والتداعيات التي ارتكبها الآخرون بحق العراق، ولهذا على النخبة الوطنية العراقية أن تتحمل مسؤوليتها والبدء بتصحيح أخطائها وتحالفاتها مع الخارج، لإيجاد الحلول اللازمة لإعادة بناء المشروع العراقي الوطني، من خلال الدخول في حوار مع القوى والأحزاب العراقية الوطنية العابرة للطوائف، بعد أن أثبتت الأحداث عجز إيران والمملكة العربية السعودية عن الدفاع عن استراتيجيتها وأحزابها في العراق من التداعيات القادمة، وهي التي لم تعد قادرة على حماية نفسها من دوامة الطائفية والتقسيم، التي أشعلتها فتوات الدين السياسي المتطرف، التي جاءت بـ»داعش» والمليشيات في العراق.
وبغياب رؤية وطنية للنظام العراقي الحاكم، أصبح من الضرورة إبعاد الإنسان العراقي عن مشاكل القوى الإقليمية المتصارعة، التي لا ترتبط أهدافها بطبيعة وأهداف العراق واستقلاله وسيادته بين دول المنطقة، حيث لم تعد الدولة المركزية هي الفاعل المؤثر في تفاعلات المنطقة، فيما أصبح تأثير من يقف وراء تنظيم «داعش» ومليشيات إيران، أكثر وضوحا في رسم خطوط الدمار والقضاء على استقرار البلد، وبات شيئا لا يمكن تجاهله، خاصة بعد أن تبينت قدرة هذه التنظيـمات على فرض رؤيتها الفئوية الخاصة على الدولة المركزية.
من جهة أخرى، وهذا ما يؤكد على عدم قدرة المشروع العربي في الوقت الحاضر من إعادة ترتيب التحالفات الداخلية في العراق، إذا أخذنا بعين الاهتمام الدعم الكبير الذي حظيت به الأحزاب الفئوية إقليميا ودوليا، من خلال القبول باستمرار النظام الحالي بشكله الطائفي، وجاهزية الوضع العراقي المُنقسم إلى ثلاثة أجزاء والذي قد لا يتحمل في أن يحكم جزء من هذه المكونات بلدهم العراق وعلى حسب المكونات الأخرى. وهنا لابد من الإشارة إلى خطورة الوضع الكردي وأهمية إيجاد الحلول اللازمة لإرضاء الكُرد للحفاظ على وحدة العراق، التي لا يمكن معالجتها بالمشروع الطائفي أو القومي العربي، وإنما بالمشروع الوطني الذي يكفل حقوقهم المشروعة ويضمن للعراق سيادته ووحدته. ان أهمية الرجوع إلى المشروع العراقي الوطني بامتداداته التاريخية، تكمن في أصالته واستقلاليته، وفي أنه لم يكن مشروعا آنياً يتعامل بمنطق رد الفعل مع الظروف المحيطة، وكما أنه لم يلد من لوبي التخندق السعودي الخليجي ـ الإيراني وإنما من أهمية عودة السيادة للعراق بدولته الوطنية المستقلة عن الجميع.
القدس العربي