العقوبات تنهك إيران لكن الفساد يقصم ظهرها

العقوبات تنهك إيران لكن الفساد يقصم ظهرها

في ظل انهيار الاقتصاد الإيراني، انخفضت العملة الوطنية بحوالي 70 بالمئة مقابل الدولار وتضاعفت بذلك معدلات الفقر في إيران مسجلة أرقاما قياسية. ويجد المسؤولون الإيرانيون في الانسحاب الأميركي من الصفقة النووية وتصعيد العقوبات حجة لتبرير هذا الوضع، إلا أن المتابعة الدقيقة للوضع في الداخل الإيراني تكشف أن هشاشة الأرض الإيرانية سببها في الأساس سياسات النظام وإنفاقه العسكري الخارجي مصحوبة بفساد حكومي متجذّر تصعب معالجته لأن رؤوس النظام متورطة فيه.

قد تثبت الأيام أن الحصار الاقتصادي، الذي فرضته الولايات المتحدة على إيران، هو القشة التي ستقسم ظهر الملالي، لكنه حتما ليس الأساس في الأزمة التي تعاني منها إيران. الأزمة الحقيقية أقدم، وهي صناعة محلية مئة بالمئة.

قبل انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع طهران، مايو 2018، وعودة العقوبات الأميركية تدريجيا ضدها، كانت قد رفعت بعد اتفاق نووي تم التوصل إليه عام 2015، شهدت إيران احتجاجات شعبية واسعة، اندلعت في 28 ديسمبر 2017، انطلقت من مدينة مشهد، واتسعت رقعتها لتشمل أكثر من ثمانين مدينة، طالب خلالها المحتجون بتنحية المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي.

يومها لم يكن الحصار هو السبب، وإنما الفساد، الذي أدى إلى تبخر مدخرات الآلاف من الإيرانيين، وعرض النظام المصرفي الإيراني برمته للخطر.

القصة بدأت مع بنك كاسبيان في طهران، وكان يدفع للزبائن نسبة 25 بالمئة فائدة على مدخرات التوفير، وهي نسبة أغرت مئات الآلاف من الإيرانيين لإيداع مدّخراتهم في هذه المؤسسة المالية، بعضهم أودع كل ما يملك. ليقرر البنك لاحقا إيقاف سحب الودائع ودفع الفوائد، ويشهر في نهاية المطاف إفلاسه ويغلق أبوابه. الحادثة فضحت ما تعانيه المؤسسات المالية والمصرفية الإيرانية من فساد كبير. خرجت على إثرها احتجاجات على نطاق واسع، امتدت إلى العاصمة طهران. ورافق الاحتجاجات قيام السلطات باعتقال العشرات، وتعرض بعض المحتجين للقتل، الأمر الذي أدى إلى تنديد على المستوى الدولي.

وبدلا من توجيه اللوم إلى القائمين على تلك البنوك، حمل مسؤولون إيرانيون الضحايا مسؤولية الفشل، بدعوى عدم توخي الحذر، و”وضعهم جميع البيض في سلة واحدة”.

وكانت السلطات الإيرانية تغاضت عن قيام مؤسسات مالية، بما فيها تلك التي اندمجت في 2016 لتشكيل بنك كاسبيان، بالمراهنة بودائع المودعين، اعتمادا على “محفظة بونزي” الاحتيالية، نسبة إلى المحتال الشهير تشارلز بونزي، وتتم عملية الاحتيال عن طريق دفع فوائد للمستثمرين الأقدم من أموال المدخرين الجدد. وإيهام المدخرين أنها أرباح وفوائد أموالهم.

يعيش أربعون مليون إيراني تحت خط الفقر بينما ينفق نظام طهران المليارات على مغامراته العسكرية ودعم الميليشيات وتطوير برامج نووية مثيرة للجدل

سماح السلطات الإيرانية لهذه المؤسسات بالقيام بهذه العمليات لم يكن بالأمر المستغرب، فهي مملوكة من النخب الدينية والحرس الثوري الإيراني، والانهيار الذي لحق بها لم يكن نتاج ممارسات مصرفية محفوفة بالمخاطر فقط، بل هو أيضا نتاج للفساد الرسمي المتفشي في البلاد.

العقوبات الأميركية، أجبرت المرشد الأعلى للثورة علي خامنئي، على تبني ما بات يعرف بسياسة “المقاومة الاقتصادية”، وأهم بنودها مكافحة الفساد. ليعلن عن إنشاء محكمة خاصة بهذا الشأن، قامت بمحاكمة أكثر من 270 مشتبها به، وكان من بين الذين حوكموا كبار المسؤولين التنفيذيين في بنك سرمايه. وقد حكم على رئيس تنفيذي سابق للبنك بالسجن 20 عاما، وحكم على مسؤولين كبار آخرين بالسجن مددا طويلة، لكن هذا ليس سوى قطرة في كأس، مقارنة بعمق الأزمة واستفحالها.

العلاقة بين الفساد الحكومي والإنفاق العسكري الهائل من جهة، وبين اتساع ظاهرة الفقر في إيران من جهة أخرى، باتت معروفة للجميع. وكانت مؤسسة “بورغن”، التي تعنى بمكافحة الفقر حول العالم، كشفت أن نسبة الفقر في إيران وصلت إلى مستويات قياسية، في ظل استشراء الفساد الحكومي وهيمنة الملالي على ثروات البلاد.

وحسب جهات رسمية يعيش أربعون مليون إيراني تحت خط الفقر، أي نصف مجموع السكان البالغ عددهم ثمانين مليونا، بينما ينفق نظام طهران المليارات على مغامراته العسكرية ودعم الإرهاب والميليشيات وتطوير برامج نووية وصاروخية مثيرة للجدل.

وبحسب نفس المؤسسة، يستحوذ خمسة بالمئة فقط من سكان البلاد على مصادر الثروة وهم من الفئة الحاكمة، بدءا من المرشد وحاشيته وحتى كبار المسؤولين وأفراد أسرهم، في حين يعيش باقي السكان في الفقر. وتقدر “بورغن” ثروة المرشد بـ95 مليار دولار أميركي.

الإفقار ليس النتيجة الوحيدة للفساد، وإن كان أبرزها، حيث يعاني الإيرانيون، أيضا، من تدهور قطاع الخدمات، خاصة الصحية والتعليمية. وهو ما أكّدته تصريحات وزير الصحة الإيراني سعيد نمكي، الذي قال إن “ما يقارب مليار دولار ونصف المليار مخصصة لاستيراد المعدات الطبية اختفت ولا أحد يعلم من وراء ذلك”. ويدعي الوزير أن خسائر القطاع الطبي بسبب الفساد تجاوزت 2.3 مليار دولار.

وبنفس الطريقة، اختفى مبلغ 3.5 مليار دولار من صندوق مدخرات موظفي وزارة التعليم، الذي يدفع للآلاف من المعلمين والموظفين الآخرين معاشاتهم التقاعدية، ومثلما هو متوقع لم يتم الكشف عن الأشخاص الذين يقفون وراء اختفاء هذه الأموال.

وكان الرئيس الإيراني حسن روحاني اتهم قادة الحرس الثوري، الذين يسيطرون على معظم القطاعات الاقتصادية، بإلحاق أضرار جسيمة بالاقتصاد وإفشال برامج الإصلاح التي خطط للقيام بها.

وعندما حاول روحاني الاستعانة بخامنئي في معركته ضد الاحتكارات والشركات التابعة للحرس الثوري، وصل إلى طريق مسدود، فخامنئي، ومعه المئات من الموظفين الذين يعملون تحت إمرته، يمتلكون ويديرون أموالا سرية تقدّر قيمتها بنحو 200 مليار دولار.

ولم يسلم الرئيس الإيراني نفسه من شبهة الفساد، حيث أصدرت محكمة إيرانية، في خلال شهر مايو هذا العام، حكما ابتدائيا بالسجن على حسين فريدون، شقيق روحاني ومستشاره، في مخالفات مالية.

وحمل باقر قاليباف، عضو مجلس تشخيص مصلحة النظام الإيراني، حكومة روحاني مسؤولية الفساد المتفشي في البلاد، معتبرا أن العقوبات الأميركية ليست السبب الوحيد وراء كل هذه الأوضاع الاقتصادية المتردية.

وكان مركز أبحاث البرلمان الإيراني قد أصدر دراسة مطولة حول الفساد في إيران، على مدار الثلاثين عاما الماضية قام من خلالها باستقصاء وتصنيف حوالي 300 من الأبحاث. وخلصت الدراسة إلى أن أهم مسببات الفساد هي: سطوة الاحتكارات، وعدم كفاءة الحكومة، والافتقار إلى الحرية السياسية، وفشل الرقابة وقبول المسؤولية. ولم يتجرأ معدو الدراسة على توجيه الاتهام إلى قادة البلاد وكبار المسؤولين.

وفي إجراء مسرحي يهدف إلى امتصاص غضب الشارع، قام القضاء الإيراني بتدشين محاكم اقتصادية خاصة، وعرض محاكمات على الهواء مباشرة. إلا أن هذا لا يعدو كونه نقطة في بحر، خاصة بعد أن صنفت إيران واحدة من أكثر دول العالم فسادا.

قد تكون العقوبات، التي فرضها ترامب على إيران، أشد عقوبات تفرضها الولايات المتحدة على الإطلاق، وقد تساهم فعليا في انهيار حكم الملالي، ولكنها حتما ليست السبب الوحيد للانهيار.

لن يضطر ترامب إلى الانتظار طويلا ليرى ماذا سيحدث، الحرس الثوري الإيراني، ومعه المرشد الأعلى، فعلوا كل ما يجب فعله. ولن يحتاج ترامب للمنجمين والعرافين ليؤكد لنا أن: إيران لن تكون بخير.

العرب