إيران والإخوان وتسييس الحج.. تاريخ قديم والأهداف مستمرة

إيران والإخوان وتسييس الحج.. تاريخ قديم والأهداف مستمرة

بدأت محاولات تسييس الحج تتبلور فعليا مع ظهور ما سمي بالصحوة الإسلامية التي بدأت في الظهور مع بداية السبعينات من القرن الماضي، ورأى فيها بعض المحللين أنها ردة فعل على هزيمة المشروع القومي العربي بعد نكسة 1967، في حين ردها آخرون إلى مشروع مخابراتي غربي -أميركي بالأساس- لاستعمال الدين كأحد الأسلحة المهمة في مواجهة القوى الشيوعية والاشتراكية على الصعيد العالمي وحلفائها من الأنظمة القومية في المنطقة العربية.

تونس – برزت تمظهرات الصحوة في انتشار ظاهرة الحجاب بالنسبة للنساء، وإقبال الشباب على المساجد بدوافع سياسية بالأساس، واتساع ظاهرة رواج الكتب والمجلات الدينية المدعومة، وتدشين المصارف الإسلامية في عدد من العواصم والمدن العربية، وتشكيل حركات وجمعيات سياسية تحت غطاء ديني سواء في السر أو العلن، وغير ذلك من المظاهر التي استغلتها قوى الإسلام السياسي وعلى رأسها جماعة الإخوان في احتلال المواقع واختراق المؤسسات وتأسيس الفروع وجمع الثروات، وصولا إلى تسييس الحج باعتباره الملتقى العالمي الأبرز للمسلمين.

ويرى الباحث والكاتب السعودي عبدالله بن بجاد العتيبي أن “وتيرة محاولات تسييس الحج ارتفعت مع نجاح الثورة الإسلامية في إيران 1979، حيث سعت إيران تحت شعار «تصدير الثورة» إلى استغلال مواسم الحج للإعلان عن مواقف سياسية كانت تتبناها وتعتقد أن من حقها أن تسيء لعبادة الحج، وتؤذي حجاج بيت الله بتظاهرات وشعارات سياسية لا تليق بموسم ديني كموسم الحج، وهو أمر لم تسمح به السعودية أبدا، ووصلت ذروة التصعيد الإيراني في تظاهرات حج عام 1987”.

ويؤكد العتيبي أن “بعض الحجاج المؤدلجين يقودهم أفراد مدربون نظموا تظاهرات سياسية وأيديولوجية استباحوا فيها الدم الحرام في الشهر الحرام في البيت الحرام، فقتلوا عددا من الحجاج وروعوا الآمنين وأرادوا إثارة الفتنة بكل أشكالها وقد تصدّت لهم قوات الأمن السعودية بكل حزم وقوة ومنعتهم من أن يعيثوا فسادا في موسم مقدس للطمأنينة والعبادة، فكان ذلك درسا لم ينسوه في ما بعده من المواسم، ولكنهم على الرغم من ذلك لم ييأسوا وحاولوا تجربة طريق آخر، فقاموا بتجنيد خلية مجرمة من إحدى دول الخليج، وهي الكويت قامت بتهريب متفجرات، وبالفعل نفذوا العدوان الآثم على حجاج بيت الله الحرام في موسم عام 1990 في تفجيرات نفق المعيصم المشؤومة وقد تمكنت السلطات السعودية من القبض على المجرمين ومحاكمتهم، وتنفيذ الأحكام الصارمة تجاههم، وهو ما منع تكرار ذات الجريمة مرة أخرى”.

لا يمكن الحديث عن استغلال الحج سياسيا دون التوقف عند العلاقة بين مراجع الشيعة والإخوان، وهي علاقة سابقة لثورة الخميني تحدث عنها مطولا الكاتب في شؤون الأزهر، راينر برونر، في كتابه “الأزهر والشيعة: التقريب الإسلامي في القرن العشرين”، حيث نقل لقاء حسن البنا وآية الله الكاشاني في موسم الحج، فقال “وقد بلغت أنشطة حسن البنا في مجال التقريب ذروتها في الفترة القصيرة السابقة على اغتياله في 12 فبراير 1949، وذلك في رحلة حج عام 1367هـ (أكتوبر 1948) عندما التقى آية الله أبوالقاسم الكاشاني في مكة وناقش معه تحسين العلاقات بين السنة والشيعة، وقد كان الكاشاني وقتذاك ناشطا سياسيا وحركيا وكان له تأثير كبير على التكوين السياسي للخميني، وهو يرى أن عملية التقريب لا يمكن أن تؤتي ثمارها عن طريق النقاش الفقهي أو العقدي وحده بل يتطلب بدلا من ذلك تعاونا راسخا ذا توجه سياسي مع الطرف الآخر”.

وقد كان الكاشاني الشخص المناسب تماما للحوار مع البنا بسبب الصلات التي يتمتع بها مع حركة فدائيي إسلام بقيادة نواب صفوي، وهي تنظيم عنيف لم يتورع عن محاولة اغتيال خصومه.

وتعتبر حركة فدائيي إسلام الوجه الشيعي لعنف الإخوان، وقد أسسها مجتبى نواب صفوي عام 1941 و اشتهرت بتنفيذ الكثير من الاغتيالات السياسية في إيران، ومن ذلك اغتيال المؤرخ والكاتب الإيراني أحمد كسروي في عام 1945، ووزير البلاط عبدالحسين حازر في عام 1949، ثم اغتالت رئيس الوزراء حاجي علي رزم آرا في عام 1951، وهي العملية التي تلقى على إثرها صفوي من مرشد الإخوان حسن الهضيبي رسالة تهنئة بمناسبة “القضاء على عميل الكفر”، ثم وفي العام 1954 أدى صفوي زيارة إلى القاهرة حظي فيها بترحيب الإخوان، وكان له لقاء في مقر الجماعة مع حسن الهضيبي وسيد قطب.

كما عمل التنظيم في محاولة فاشلة على اغتيال الإمبراطور الإيراني محمد رضا بهلوي ووزيري خارجيته على التوالي حسين فاطمي وحسين علاء، وبعد محاولة اغتيال الأخير في عام 1954 ألقي القبض عليه وأعدم في 1956، وقد كان الكثير من الموالين لمؤسس النظام الإيراني آية الله الخميني، والمرشد الأعلى علي خامنئي، ينتمون إلى هذا التنظيم الذي كان على علاقات وطيدة بالإخوان المسلمين منذ تأسيسه.

وقد روى رجل الدين الشيعي والسياسي الإيراني هادي خسرو شاهي الذي شغل وظائف دبلوماسية عدة منها سفير بلاده في الفاتيكان، أن الكاشاني اتفق مع البنّا خلال لقائهما في موسم الحج على عقد مؤتمر إسلامي في طهران تدعى إليه شخصيات من الدول الإسلامية، وهو ما يؤكد عمق العلاقات بين الرجلين، مردفا “كان نشاط حسن البنا ونهضته في المبادئ ومفاهيمها المطروحة في الواقع، مكمِّلا للتيار الإسلامي السابق له، والذي كان قد بدأه جمال الدين الحسيني المعروف بالأفغاني في أواخر القرن التاسع عشر”.

ويقول القيادي المنشق عن جماعة الإخوان ثروت الخرباوي “هل هناك أكثر من ذلك؟! نعم، فآية الله الكاشاني كان هو أكبر المرشحين بعد مقتل حسن البنا كي يكون مرشدا للإخوان المسلمين، وقد جرى بشأنه سجال كبير داخل الجماعة إلا أن كفة المستشار حسن الهضيبى رجحت أخيرا فأصبح هو المرشد، و هذا يدل على أن الإخوان يعتبرون أن منهجهم يتفق مع منهج الشيعة”.

وكان حسن البنا قد ارتبط ارتباطا وثيقا بالمرجع الشيعي محمد تقي القمي، الذي شاركه في تأسيس دار التقريب بالقاهرة، لكن اللافت في ما ذكره الكاتب والباحث الإيراني محمد علي أذرشب، حيث قال إن: القمي اعترف باستخدام حسن البنا في نشر أفكاره بين الحجاج، وهو يقول في ذلك “ولا بأس أن نذكر أن الشيخ كان مهتما أن ينشر في صحيفته ما يقرب بين أهل السنّة والشيعة، وكان يتعاون مع دار التقريب في إيصال صوتها إلى السعودية التي حظرت هذا الصوت آنذاك، ولا بأس أن أذكر إحدى ذكريات الشيخ القمي في هذا المجال، بعد حادثة إعدام السيد أبوطالب اليزدي في الحجاز في العام 1943؛ انقطع سفر الإيرانيين إلى الحج لسنوات، ثم عاد حج الإيرانيين، وعمدت دار التقريب إلى نشر مناسك الحج على المذاهب الخمسة أي مذاهب أهل السنة الأربعة ومذهب الشيعة الإمامية، من أجل إزالة ما علق في الأذهان تجاه الشيعة إثر التشويش الذي حدث بعد إعدام السيد الإيراني، وخلال سنوات انقطاع الإيرانيين عن الحج، هذه المناسك توضح أن السنة والشيعة متفقان في معظم مناسك الحج إن لم يكن كلها، وما كان بالإمكان إدخال هذه المناسك إلى السعودية لتوزيعها في موسم الحج، لأن التعليمات هناك لم تسمح بذلك آنئذ، ولكن الشيخ حسن البنا وجد الطريق إلى ذلك، فطبع كل هذه المناسك في صحيفته، وأدخلها في موسم الحج إلى السعودية، وتوزعت بين الحجاج وكان لها أثر بين المسلمين”.

وئام خدم مصالح إيران
بعد اغتيال البنا، تواصلت العلاقة بين الإخوان والملالي، حتى أن المرشد الحالي علي خامنئي ترجم عام 1966 كتاب “المستقبل لهذا الدين” الذي ألفه سيد قطب، أبرز منظري جماعة الإخوان المسلمين، وأطلق على النسخة الفارسية عنوان “بيان ضد الحضارة الغربية”، واصفا في مقدمتها سيد قطب بـ”المفكر المجاهد”، مشيرا إلى أن كتبه تشكل خطوة على طريق توضيح معالم الرسالة الإسلامية.

ثم عاد خامنئي وترجم جزءا من كتاب “في ظلال القرآن” الذي تم نشره في إيران، وفي باكستان موطن منظر الحاكمية أبي الأعلى المودودي، وفي يونيو 2019 طرحت في الأسواق ترجمة خامنئي لکتاب سيد قطب “في ظلال القرآن” ونشرته مؤسسة الثورة الإسلامية للثقافة والأبحاث.

وبدأ المرشد الإيراني بترجمة هذا الكتاب في عام 1969 عندما كان عمره آنذاك 30 عاما وترجم بعض أجزاء الكتاب أثناء سجنه، وبعد الانتهاء من الجزء الأول من ترجمة الكتاب بلغت أسماعه أن الدكتور أحمد آرام يقوم بترجمة الكتاب لذلك توقف عن مواصلة الترجمة.

لم تنقطع العلاقة بين الإخوان والملالي إلى أن تمت الإطاحة بنظام الشاه في فبراير 1979، وفي هذا السياق، يقول الباحث المصري والقيادي الإخواني المنشق عن الجماعة ثروت الخرباوي أن العلاقة بين الإخوان والشيعة ظلت تظللها الروابط الوشيجة، وظل الود متصلا من الناحية الفكرية فضلا عن الإعجاب المتبادل، حتى أن الإخوان شكلوا وفدا تقابل مع الخميني في باريس قبل الثورة وكان ذلك في غضون عام 1978 وفقا لما قاله يوسف ندا في برنامج “شاهد على العصر” في قناة الجزيرة، وبعد وصول الخميني إلى السلطة في إيران عام 1979 كانت من أوائل الطائرات التي وصلت إلى مطار طهران واحدة تحمل وفدا يمثل قيادة التنظيم الدولي للإخوان المسلمين.

وقد طرح الوفد الإخواني على الخميني فكرة أن تبايعه الجماعة بكافة فروعها الدولية في كل العالم على أن يكون خليفة للمسلمين، ولكنها اشترطت على ذلك شرطا هو أن يصدر بيانا يقول فيه «إن الخلاف على الإمامة في زمن الصحابة مسألة سياسية وليست إيمانية»، ولكن الخميني لم يرد عليهم وقتها، وعندما صدر الدستور الإيراني كان الأمر بمثابة مفاجأة للإخوان وفق ما قال يوسف ندا إذ نص الدستور الإيراني على أن “المذهب الجعفري هو المذهب الرسمي للدولة وبولاية الفقيه نائبا عن الإمام الغائب”.

ويضيف الخرباوي “لم يتألم الإخوان من أجل إخوانهم من السنة، ولم يرمش لهم جفن للقمع الذي حدث لهم، بل إن مجلات الإخوان ونشراتهم ودعاتهم سكتوا عن هذا الأمر وساهموا في إلقائه داخل جب سحيق من النسيان وكأن الأمر لا يعنيهم».

نظر الإخوان إلى ثورة الخميني على أنها النموذج العملي الذي يطمحون إلى تحقيقه، بينما اعتبر الملالي الإخوان أقرب طائفة لهم، ففي ديسمبر 2012 قال الدكتور علي أكبر ولايتي، وزير الخارجية الإيراني الأسبق والمستشار الأعلى لمرشد النظام الإيراني علي خامنئي، إن الإخوان المسلمين هم الأقرب إلى طهران بين كافة المجموعات الإسلامية.

وجاء تصريح ولايتي في ندوة “الحوزة الدينية والصحوة الإسلامية”، وقد عقدت في جامعة العلوم الإسلامية بمدينة مشهد شمال شرق إيران ضمن عدد من الندوات التي كانت تنعقد للاحتفاء بما يسمى الربيع العربي، حيث ترى طهران أن الثورات العربية تستلهم أفكارها من ثورة إيران التي أسقطت محمد رضا بهلوي شاه إيران في عام 1979، إلا أن الجمهورية الإسلامية تستثني الثورة ضد الرئيس السوري بشار الأسد.

وقد تحدث ولايتي عن “دور ومكانة إيران في دعم الصحوة الإسلامية” أي الربيع العربي، قائلا “لا يوجد بلد واحد اليوم لا يستخدم «الألفباء» الإسلامية، واللغة الفارسية أصبحت اللغة الثانية في العالم الإسلامي” معتبرا النظام في بلاده حامي الحمى لكافة المسلمين في العالم، وقال “اليوم العالم الإسلامي ليس له إلا إيران، ولا توجد حكومة إسلامية أكثر استقرارا من الجمهورية الإسلامية الإيرانية” مردفا “نحن والإخوان أصدقاء، ونقوم بدعمهم، وهم الأقرب إلينا عقائديا بين كافة الجماعات الإسلامية”.

وسواء بعد الثورة الإيرانية أو ثورات الربيع، فإن استغلال موسم الحج كان هدفا مشتركا للملالي والإخوان، ومثلما دفع الإيرانيون بحجيجهم إلى رفع شعارات ثورتهم في البقاع المقدسة، دعا الإخوان أنصارهم في العام 2013 إلى رفع شعار رابعة فوق جبل عرفات، ثم انطلقت حملة الفتاوى الصادرة عن القيادات الإخوانية ومن بينها يوسف القرضاوي المقيم في قطر، ومفتي حكومة الوفاق الليبية الصادق الغرياني المقيم في تركيا.

وفي سبتمبر 2016 أكد العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز رفض بلاده أن تتحول شعيرة الحج إلى تحقيق أهداف سياسية، أو خلافات مذهبية، مشيرا إلى أن المملكة تؤكد حرصها الدائم على لمّ شمل المسلمين ومدّ يد العون لهم، والعمل على دعم الجهود الساعية لما فيه خير الأمة الإسلامية. وقال “إن الغلو والتطرف توجه مذموم وهو حين يدبّ في جسد الأمة الإسلامية يفسد تلاحمها ومستقبلها وصورتها أمام العالم”.

العرب