لعل قلّة ممّن انتخبوا دونالد ترامب في 2016 سوف يعيدون النظر في أمر التصويت له مجدداً خلال انتخابات 2020، وقد يصحّ الافتراض بأنّ شعبيته قبل ثلاث سنوات ليست على الحال ذاتها اليوم، وأنّ القاعدة الجماهيرية العامة والمختلطة التي أتت به إلى البيت الأبيض قد تآكلت بهذا القدر أو ذاك. في المقابل، كان من المتفق عليه عموماً أنّ نقطة قوّة ترامب، التي قد تبقيه في سدّة الرئاسة أربع سنوات أخرى بعد 2020، ليست دهماء أمريكا البيضاء والعنصرية والانعزالية؛ بل الاقتصاد الأمريكي الذي يواصل الاستقرار والنمو منذ عقد، ولا يكفّ عن تسجيل أرقام قياسية في الاستثمار، وانخفاض معدلات البطالة على نحو لم تشهد له أمريكا مثيلاً منذ نصف قرن.
ومع ذلك، مؤخراً فقط، في تموز (يوليو) الماضي، انقلب السحر على الساحر كما يمكن القول، فبات الاقتصاد ذاته هو كعب آخيل الذي قد لا يتكفل بإرسال ترامب خارج المكتب البيضاوي فقط، بل سيقذف به إلى سلّة مهملات التاريخ، مرّة وإلى الأبد. الكلمة السحرية في هذه الفرضية هي الركود، الذي أخذت سحبه تدلهمّ رويداً رويداً حين أخذت مؤشرات الأسهم الأمريكية تشهد تراجعات حادة منتظمة بلغت 3٪ دفعة واحدة، فدبّ القلق في «وول ستريت»، وتسارع تهاوي النقاط في مؤشر «داو جونز»… لم يعد على رؤساء الشركات العملاقة الخشية من عواقب الركود فقط، كتب فرهاد ماجو في صحيفة «نيويورك تايمز»، بل باتت مخاوفهم تتركز في احتمال لم يكن وارداً خلال أزمات الرأسمالية الماضية، في سنة 2000 أو 2008 مثلاً: احتمال الثورة، وليس بمعنى خروج الجماهير إلى شوارع أمريكا، بل في مستوى التمرد على كامل منظومات الاقتصاد والتبادل والإنتاج، وبالتالي الانقلاب على النظام بأسره: «عدد الأمريكيين الذين يتلقون بطاقات إطعام هو اليوم أعلى بنسبة 40٪ مما كان عليه سنة 2008، ولكن عدد أصحاب المليارات تضاعف منذ عقد مضى».
زميل ماجو في «نيويورك تايمز»، نيل إروين، أدلى بدلوه أيضاً فنشر ما يشبه دليلاً مدرسياً إلى كيفية وقوع الركود المقبل؛ مبتدئاً من ثلاث ملاحظات صحيحة: أن الولايات المتحدة ليست اليوم في حالة ركود، وأنها يمكن أن تتجنب مثل هذا الاحتمال في المستقبل المنظور، ولكنّ فرص مسيرها نحو الركود تزايدت على نحو حادّ خلال الأسبوعين المنصرمين. براهينه بسيطة بقدر وضوحها: معدلات الفائدة طويلة الأجل هبطت منذ شهر تموز، وهذه نقلة تميل تاريخياً إلى التكهن ببطء النمو، وإلى تخفيض الاحتياطي الفدرالي للفوائد، وبالتالي إلى تعاظم مخاطر انزلاق الاقتصاد نحو الانكماش الصريح. هذا بالإضافة إلى النزاع المزمن بين رئيس استقطابي وكونغرس منقسم، وهذه حقيقة سوف تحول دون تكرار تجربة 2008 حين نجح الرئيس الأسبق جورج بوش في التفاهم مع الديمقراطيين حول سلّة حوافز للاقتصاد، وللمصارف عملياً، بلغت 152 مليار دولار. وبالإضافة، أيضاً، إلى استحالة توفير الدرجة المطلوبة من التنسيق الدولي مع الاقتصاد الأمريكي، خاصة من جانب مجموعة الـ20، في ضوء المعارك المختلفة التي يخوضها ترامب ضدّ اقتصاديات العالم، شرقاً وغرباً.
قد تكون أشباح الركود كفيلة بتقويض مطامح ترامب في رئاسة ثانية، وقد يشكّل هذا خبراً مفرحاً هنا وهناك في العالم، ولكن هل كان باراك أوباما أو جورج بوش الابن أو بيل كلنتون أرأف حالاً بالشعوب من ساكن البيت الأبيض الراهن؟
ومَن المسؤول الأوّل عن هذا، سوى ترامب وسلسلة سياساته في الاقتصاد والتجارة وحروب التبادل، خاصة مع الصين ودول أخرى؟ ثمّ، استطراداً، مَن سوى ترامب أيضاً سوف يتحمل عاقبة تباطؤ نموّ اقتصاد الصين، وأوروبا (ألمانيا بصفة خاصة، وبريطانيا إذا خرجت من الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق)؟ وفي استخلاص النتيجة الكبرى، كيف يمكن للمواطن الأمريكي (ثمّ رهط السادة مدراء الشركات العملاقة) أن ينزلوا العقاب بالمسؤول الأوّل عن هذه العواقب، سوى عن طريق قذفه خارج البيت الأبيض؟ وهكذا، لم تكن مصادفة محضة، في ضوء تكاثر المؤشرات على احتمال انزلاق أمريكا نحو الركود، أن يلجأ ترامب إلى وضع الانهيار الاقتصادي في كفة، وإعادة انتخابه في كفة أخرى، وليس أمام الشعب الأمريكي سوى القبول بالخيار الثاني. كذلك لم يتردد ترامب في تأجيل فرض حزمة جديدة من الرسوم الجمركية، كما تسربت أنباء تفيد بأنه يدرس خفض الضرائب على الأجور في محاولة لوقف التباطؤ المضطرد في الاقتصاد.
وبمعزل عن الكوابيس التي باتت تجوس ليالي ترامب وخططه لانتخابات 2020، فإنّ أشباح الركود هذه تنطوي على أخطار كبرى أبعد بكثير من مجرد نجاح أو فشل رئيس أمريكي في تجديد ولايته، لأنها أيضاً تمسّ البشرية جمعاء، وخاصة هوامشها النامية أو الفقيرة أو الجائعة. لا ينسى أبناء هذه الهوامش أن ما سُمّي بـ «فقاعات الإقراض» السكني، التي صنعتها المصارف الأمريكية، كانت السبب المباشر في تكريس ركود 2008؛ كما كانت الفتيل الذي فجّر الأزمة يومذاك، تماماً كما كانت فقاعات البورصة الأمريكية هي السبب في أزمة 2001. وهذه شعوب تدفع أبهظ أثمان ذلك التقاسم غير العادل للأدوار والثروات، وتلعب دور صنبور الطاقة ومنجم الموادّ الخام وسوق الاستهلاك في آن؛ ولا غنى عنها لكي تدور آلة الاقتصاد العالمي، ولكي يعرف الكبار أفضل طرائق استثمار موارد الأرض، وأفضل أَوجُه التنعّم بها.
والحيلة سوف تنطلي أكثر فأكثر، وبمعدّلات متضاعفة، إذا قرّرت مجموعات دول الجنوب أنه ليس من شأنها تقويض أنظمة داخلية كبرى صيغت لصالح الكبار وحدهم؛ في مؤسسات كبرى تنتهي أسماؤها دائماً بصِفة «الدولي»: مجلس الأمن الدولي، صندوق النقد الدولي، البنك الدولي. المسألة هنا لا تدور حول «الجنوب» في أيّ معنى موازٍ لـ «الشمال»، على نحو تناحري تناقضي عدائي صرف؛ بقدر ما تدور حول التمثيل السياسي الفعلي والفاعل لثُلثَي البشرية، الآن بالذات حين تكون الصين الشعبية عضواً غير منتسب في نادي الـ G-7، بالمعنى الاقتصادي أولاً، ثم بالمعنى الجيو ـ سياسي ثانياً. ولقد رأينا الدور الخجول الذي لعبته الصين الشعبية في خلخلة التوازنات الغربية داخل مجلس الأمن الدولي، في قضايا كثيرة بعضها حقّ وبعضها باطل؛ كما رأينا الدور المتواضع الذي لعبته وتلعبه في مؤتمرات الكبار، إذا وضع المرء جانباً سخونة البلاغة وحروب اللفظ.
وبالطبع، سوف تنطلي الحيلة ــ بنسبة فاضحة فاقعة هذه المرّة ــ إذا تناست دول الجنوب أنّ الاقتصاد الدولي معتلّ من الرأس مباشرة، ابتداء من أمريكا وروسيا والصين واليابان، إلى بريطانيا وألمانيا وفرنسا، قبل المكسيك والهند والبرازيل، وأنّ الكبار هنا تحديداً لا يريدون من الضحية أفضل من تقديم المزيد من القرابين. ما نملكه اليوم من إحصائيات صادرة عن «برنامج الأمم المتحدة للتنمية»، يسجّل نتيجة جوهرية كبرى مفادها أن البون بين الدول الغنية المصنّعة والدول النامية لم يعد شاسعاً فحسب، بل بات وحشياً كالعولمة ذاتها: «العالم اليوم مسرح استقطاب جلي حادّ على الصعيد الاقتصادي، سواء في المستوى الوطني أم العالمي (…) وإذا تواصلت الاتجاهات الراهنة فإن التباينات الاقتصادية بين الدول المصنعة والدول النامية لن تكون مجحفة فحسب، بل غير إنسانية أيضاً».
وهكذا، قد تكون أشباح الركود كفيلة بتقويض مطامح ترامب في رئاسة ثانية، وقد يشكّل هذا خبراً مفرحاً هنا وهناك في العالم، ولكن هل كان باراك أوباما أو جورج بوش الابن أو بيل كلنتون أرأف حالاً بالشعوب من ساكن البيت الأبيض الراهن؟ والهاجس الأصحّ، بالتالي، هو ذاك الذي لا يحرف النظر عن معضلة الاقتصاد الكوني الكبرى: الهوّة الفاغرة بين الشمال والجنوب.
القدس العربي