في الجلسة الختامية لدورة 2019 للندوة الفضائية في كولورادو سبرينغس، تحدّث مسؤول بالقوات الجوية ومدير وكالة الاستخبارات الوطنية للتصوير والمسح الجغرافي التنفيذي عن التطورات التكنولوجية في المجال العسكري. ولم يقدم المسؤولان الأميركيان تفاصيل كثيرة إلا أن بعض المعلومات والتلميحات التي صدرت عنهما كانت كافية لتثير التساؤلات عن برنامج أطلق منذ سنة 2010، وكانت هناك بعض التسريبات بخصوص قدرته الخارقة على جمع البيانات من مصادر غير محدودة وتحليلها بكل دقة.
واشنطن – تعمل وكالات الاستخبارات الأميركية على تطوير دماغ عسكري ذكي يتوقع أن يغيّر طرق القتال والحروب في المستقبل. ويمكن لهذا النظام الذكي تنسيق مواقع الأقمار الاصطناعية وقد يصبح قادرا على إدارة القوات المشاركة في العمليات العسكرية.
رغم أن هذا البرنامج يجري العمل عليه منذ سنوات إلا أن تفاصيله تبقى طي الكتمان، ولم تعرف عنه إلا بعض التفاصيل المرتبطة بقدرته على تتبع المعلومات وجمع البيانات وتحليلها.
ومؤخرا، كشف موقع “ذو فارج”، الأميركي المختص في صحافة التكنولوجيا، عن بعض تفاصيل هذا البرنامج الذي يطلق عليه اسم “سينتينت”، وتعني القادر على الإدراك والشعور بالأشياء.
نظام تفكير
يعدّ نظام “سينتينت” أحد مشاريع مكتب الاستطلاع الوطني، الذي يهدف إلى أن يطوره ليتحول إلى آلية تحليل قادرة على فك شفرة البيانات بجميع أنواعها، وفهم الماضي والحاضر وتوقع المستقبل، وتوجيه الأقمار الاصطناعية نحو الموقع الذي تحدد أنه سيكون مهمّا في مستقبل العمليات التي تدرسها. وقد يصبح النظام الذكي قادرا على إدارة القوات المشاركة في العمليات العسكرية.
وتكشف وثائق “ذو فارج” أن الأبحاث على هذا البرنامج بدأت منذ أكتوبر 2010. ويقال إن البرنامج نجح في تحقيق أول هدف سنة 2013، لكن التفاصيل المتعلقة بطبيعة الهدف كانت غامضة.
وتضمنت جلسة استماع عقدتها لجنة القوات المسلحة بشأن الأمن القومي سنة 2016 ملخصا سريعا لهذه المشاريع التي تعتمد على البيانات، لكن الاجتماعات العامة لم تتطرّق إليها منذ ذلك الحين، وما زال تاريخ إطلاق المشروع طي الكتمان، فيما يمكن أن تعني تلك السرية أن البرنامج يمكن أن يدخل حيز التنفيذ دون أن يعرف الناس.
وقالت كارين فورغرسون، وهي نائبة مدير الشؤون العامة في مكتب الاستطلاع الوطني، في رسالة إلكترونية “لم يفصح مكتب الاستطلاع الوطني الكثير عن المشروع لأنه برنامج سري”.
لكنها أشارت إلى أن البرنامج “يستوعب كميات كبيرة من البيانات ويعالجها، حيث يعمل على تصنيف الأنماط العادية، والكشف عن الحالات غير المألوفة، مما يساعد على التنبؤ بمسارات عمل العدو المحتملة”.
وتتراوح المصادر والمعلومات التي يمكن للبرنامج أن يجمعها بين تقارير توضّح تفاصيل العمليات العسكرية القائمة وصور الأقمار الاصطناعية ورسائل نصية ومكالمات هاتفية يتم اعتراضها، بالإضافة إلى كل ما ينشر على منصات التواصل الاجتماعي.
وذهب المحلل المتقاعد في وكالة الاستخبارات المركزية ألن تومسون إلى أبعد من ذلك، أين قال إن البيانات يمكن أن تشمل كل شيء، حتى المستجدات المالية ومعلومات الطقس وإحصائيات الشحن ومعلومات من عمليات البحث على محرك غوغل وسجلات مشتريات الأدوية وغيرها.
دماغ عسكري
يتركز عمل هذا الدماغ العسكري الاصطناعي أساسا في المجال العسكري. وتصفه فورغرسون بأنه “نظام تفكير”. ويمكن لسينتينت أن يحول تركيز الأقمار الاصطناعية إلى المكان المناسب في الوقت المناسب لمراقبة تحركات العدو (أو أي شيء آخر يريد رؤيته).
ومن خلال تحليل التقارير الميدانية والبيانات المجمّعة من الأقمار الاصطناعية، قد يستطيع الدماغ الاصطناعي توجيه القوات أثناء المعارك لاتباع أنجح استراتيجية ممكنة. ويمكن لمركز عسكري رئيسي يشمل أجهزة الكمبيوتر العملاقة وغيرها من تقنيات الذكاء الاصطناعي أن يحلل البيانات ويجمع كمية من البيانات لمعرفة وجهة قوات العدو قبل أن تصل إليها، وبالتالي يتخذ قرارات سريعة بشأن أفضل مسار للعمل، أو تنبيه القوات الأميركية عندما يستنتج أن العدو قد يهاجم قريبا.
ونظرا لطبيعة المشروع السرّية، تقول سارة سكولس، محررة التحقيق في موقع “ذو فارج”، “لا نعرف الكثير عن تلك المشاكل المحتملة”. وتشير إلى أن المشروع سيملك قدرة هائلة على تحويل الأقمار الاصطناعية إلى آليات أكثر كفاءة وإنتاجية. كما يمكن أن يحرّر البشر من عناء التحليل العميق. لكنه قد يحمل جملة من التحيّزات التي قد توصله إلى استنتاجات مشكوك فيها، مما يثير مخاوف بشأن الحريات المدنية.
وتشير سكولس إلى برنامج سينتينت وبرنامج بلاك سكاي، مُؤكدة أن بلاك سكاي يستخدم الأقمار الاصطناعية لتغذية نظام يشبه سينتينت. وتقول “بعد حوالي ستة عقود من تأسيس مكتب الاستطلاع الوطني، أصبحت السماء مزدحمة بالأقمار الاصطناعية، وتمتلك شركات استخبارات خاصة البعض منها”.
وبلاك سكاي عبارة عن كوكبة من الأقمار الاصطناعية تضم حوالي 60 قمرا للتصوير الفضائي تبلغ حمولتها حوالي 50 كيلوغراما.
وتتلقى بلاك سكاي بيانات من 25 قمرا صناعيا وأكثر من 40 ألف مصدر أخبار و100 مليون جهاز محمول و70 ألف سفينة وطائرة و8 منصات تواصل اجتماعية و5 آلاف جهاز استشعار بيئيا وآلاف أجهزة التابعة لجيل الإنترنت الجديد. في المستقبل، تخطط بلاك سكاي للحصول على ما يصل إلى 60 قمرا صناعيا لمراقبة الأرض.
وتوزع بلاك سكاي كل المعلومات المجمعة إلى خطوط معالجة مختلفة بناء على نوعها. من قصة إخبارية، قد تستخرج بلاك سكاي أسماء الأشخاص والأماكن والمؤسسات والكلمات الرئيسية. من صورة، قد تستطيع تحديد المباني التي تبدو تالفة بعد وقوع زلزال.
تبقى كل هذه البيانات المجموعة متباينة، وتحوّل بذلك نحو ما يسميه مدير التكنولوجيا التنفيذي في بلاك سكاي، سكوت هيرمان، «محرك دمج تحليلي عملاق». يحاول المحرك تكوين صورة متناسقة اعتمادا على البيانات التي غذّته ليخبر الأقمار الصناعية بما يجب فعله حيال ذلك، كما يمكن أن ينبه المحللين البشر إذا لبّت الأحداث معايير محددة في برمجيته.
وتوضح سكولس طريقة عمل هذه الشبكة من خلال مثال الهجوم على ناقلتين نفطيتين في مضيق هرمز في 13 يونيو. فعند وقوع الهجوم، أرسل برنامج بلاك سكاي الأقمار الاصطناعية لالتقاط صور للحادث بينما كان الدخان الناجم عن الانفجارات يتصاعد في اتجاه السماء، إذ لمّحت إشارات السفن المنبعثة وتقارير الأخبار المحلية إلى أن هناك خطبا ما، مما دفع بلاك سكاي إلى تحويل انتباه الأقمار إلى خط الشحن المزدحم المار بالقرب من إيران.
ويصف المطلعون على هذه العملية بأنها تستخدم البلاغات والبيانات من مصدر ما لتوجيه القمر الاصطناعي للتصوير في مكان معين.
وبعبارات تبسّط هذه العملية، يمتص النظام الآلي جميع أنواع البيانات ويجمعها لتكوين صورة معقولة، ويبعث بإشارة إلى الأقمار الاصطناعية لتوجيهها، ثم يعيد دمج البيانات التي جمعتها الأقمار الاصطناعية في حلقة التحليل، ويصوغ استنتاجا أقوى، ويتواصل مع الأقمار الاصطناعية أو أجهزة استشعار أخرى مرة أخرى، ويكرر العملية.
ويمكّن هذا الشركات (أو وكالات الاستخبارات) من بناء سجل من المعلومات والأحداث الماضية، وفهم الوقائع الحالية أسرع من منافسيها، وربما تصل قدراتها إلى حد التنبؤ بالمستقبل يوما ما. لكن كيف يمكن للدماغ الاصطناعي تكوين صورة واضحة عما يجري من مجموعة مختلقة من البيانات؟
تجيب سكولس على هذا التساؤل قائلة “إن الوثائق المتوفرة حاليا لا توضح أنواع البيانات التي قد يجمعها هذا الدماغ، ولكن البرنامج يبدو قادرا على تحليل جميع أنواع المعلومات”.
وقال مدير مشروع اتحاد العلماء الأميركيين، ستيفن أفترغود “يمكن أن تشمل البيانات اعتراضات الاتصالات الدولية وحتى ما ينشره المستخدمون على الإنترنت”، فيما شبّه هاري بيتيت، الصحافي في “ذو صان”، هذه التكنولوجيا بتقنية “سكاي نات” المرعبة التي تحولت في النهاية إلى قوة تهدف إلى محاربة الإنسانية في فيلم “ذا تيرميناتور”.
ويقلق الكثير من الناس من التطورات الحاصلة في مجال الذكاء الاصطناعي ويعتبرون أن التكنولوجيا ستتسبب في كارثة تضع نهاية لحياة البشر على هذا الكوكب.
وكان بيل غيتس اعتبر أن التهديد الذي تشكله تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي على البشرية يشبه تهديد الأسلحة النووية. وقال إن الآلات الذكية تستطيع إنقاذ البشر وتدميرهم إن أرادت ذلك.
العرب