إذا أكدت الهيئة العليا للانتخابات في تونس النتائج الأولية التي أُعلنت بعد فرز حوالي 66 في المئة من أصوات المقترعين في الانتخابات الرئاسية التي شهدتها تونس مؤخراً، فإن صعود المرشحين قيس سعيّد (18.9٪) ونبيل القروي (15.4٪) إلى الدور الثاني والنهائي يشكل المعطى الأهم لهذه الانتخابات. نجاح هذين المرشحين تحديداً، من بين 24 مرشحاً بعد انسحاب اثنين من المرشحين في اللحظات الأخيرة، يحمل الكثير من الدلالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وربما الثقافية أيضاً.
فمن جانب أول، لم يكن سعيّد ابن تيار حزبي أو مؤسسة سياسية أو استثمارية أو إعلامية، بل عرفه الشارع الشعبي التونسي كأستاذ في القانون يظهر بين الحين والآخر على شاشات التلفزة لإبداء الرأي في هذه المشكلة الحقوقية أو تلك. وقد شدد على شخصيته العصامية، ورفض قبول تبرعات من رجال الأعمال أو تمويل حملاته الانتخابية من أي جهة كانت، واعتمد على النشاط التطوعي والاحتكاك المباشر بالجماهير في الاحياء الفقيرة والأسواق الشعبية.
القروي يبدو نقيض سعيّد، ليس لأنه رجل أعمال مخضرم ومتعدد الاستثمارات ويملك قناة فضائية ويترأس حزباً سياسياً فحسب، بل أساساً لأنه صعد إلى الدور الثاني من داخل السجن حيث جرى اعتقاله قبل أيام قليلة من انطلاق الحملات الانتخابية بتهمة التهرب الضريبي فلم يتمكن حتى من الإدلاء بصوته. وإلى جانب المال والأعمال والإعلام أدار القروي شبكات أعمال خيرية أتاحت له تكديس رصيد شعبي ملحوظ لدى الفئات الفقيرة ومحدودة الدخل، وهذا يفسر الاختراق الذي أنجزه في الدور الانتخابي الأول.
ومن جانب ثان، يبدو صعود هذين النقيضين مفاجئاً في ضوء اعتبارات سياسية واجتماعية وثقافية، إذْ أن سعيّد لم يطرح برامج رئاسية متكاملة أو شاملة، بل يذهب الكثيرون إلى حد القول إنه بلا برنامج عملياً، باستثناء سلسلة مواقفه المحافظة تجاه قضايا المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة وعقوبة الإعدام والمثليين وسواها. أما القروي فإنه يتماهى في أنظار الكثيرين مع شخصية رجل الأعمال والسياسي الإيطالي سيلفيو برلسكوني، الذي يتردد أنه يستثمر فعلياً في مؤسسات القروي المالية، وبالتالي فإن حلوله في المرتبة الثانية يثير الأسئلة حول مدى استعداد الشارع الشعبي لقبول هيمنة المال السياسي.
درس أول وراء هذه النتائج هو ميل الشعب التونسي إلى إنزال العقاب بالمرشحين من ممثلي السلطة الحاكمة على اختلاف مستوياتهم ومسؤولياتهم، ابتداء من مرشح النهضة الذي كان نائب رئيس البرلمان وحل في المرتبة الثالثة، مروراً بوزير الدفاع ومعه رئيس الوزراء الحالي، وانتهاء باثنين من رؤساء الحكومة السابقين. الدرس الثاني هو نسبة الإقبال على التصويت، التي هبطت بمعدل 18٪ عن رئاسيات 2014 رغم أن التحديات العديدة التي تواجهها تونس كانت تحث الناخبين على المشاركة بكثافة. وأما الدرس الثالث فإنه بؤس أداء مرشحي الأحزاب التي تزعم تمثيل اليسار، إذ بالكاد تمكن أبرز هؤلاء من تحقيق نسبة 1.7٪، وهذه حال باتت كلاسيكية وتكررت مراراً في مختلف الانتخابات.
وبين القانوني المحافظ والعصامي، والرأسمالي فاعل الخير والسجين، يبقى أن الدرس الأهم هو نجاح التجربة الديمقراطية التونسية في عبور امتحان آخر جديد، وليست مفاجآته سوى إضافة حيوية لهذا الطراز من الممارسة الديمقراطية.
القدس العربي