المطلوب عربيا بعد اتفاق النووي الإيراني

المطلوب عربيا بعد اتفاق النووي الإيراني

441

بعد أن أصبح اتفاق الغرب مع إيران حول ملفها النووي أمرا واقعا، يبدو السؤال الأهم عربيا هو عن تداعيات هذا الاتفاق على الملفات الساخنة في المنطقة، وعن الموقف الذي يجب أن يتخذه العرب، بعيدا عن الاكتفاء بالبكاء “على اللبن المسكوب” كما يقال.
فقد فشلت الدول العربية الحليفة للولايات المتحدة في إقناع أوباما بالتخلي عن “طموحه” بإنهاء تاريخه الرئاسي باتفاق غير مسبوق، ينهي أو يخفف حالة العداء المستمرة بين واشنطن وطهران منذ الثورة الإسلامية في العام 1979، وبات عليها الآن (أي الدول العربية) أن تفكر في إستراتيجيات الرد السياسي على الواقع الجديد.

فما خيارات العرب للرد على الاتفاق؟ وكيف يمكن أن يشكل نقطة تاريخية فاصلة في تاريخ العلاقات أيضا بين الدول العربية والولايات المتحدة والغرب عموما، وليس فقط بين واشنطن وطهران؟

حتى يتمكن العرب من إعادة ترتيب أوراقهم مع الواقع الجديد، فإن عليهم أن يقرؤوا هذا الواقع بشكل علمي، وأن يجيبوا أساسا على السؤال الجوهري الذي يتعلق بالأسباب التي دفعت أوباما والغرب لاتخاذ هذه الخطوة، والابتعاد عن التفسير الرغائبي أو التآمري للمسألة، إذ إن فهم الواقع هو المنطلق الأول لوضع الإستراتيجيات للرد عليه بشكل فعال.

لقد مرت العلاقات الإيرانية الأميركية بمنعطفات كثيرة منذ قيام الثورة الإسلامية، ولم تكن على نسق واحد طيلة هذه السنوات التي أعقبت الثورة، إذ تحارب الطرفان في بدايات الثورة في ساحات مختلفة، كما حدث في أزمة احتجاز الدبلوماسيين الأميركيين في سفارة واشنطن بطهران، وفي عملية تفجير معسكرات الجيش الأميركي والفرنسي ببيروت في العام 1983 والتي اتهمت قوات تابعة لحزب الله بتنفيذها، رغم إعلان الجهاد الإسلامي تبنيها للعملية.

ولكن هذه الحالة من الحرب لم تكن مستمرة أو مطردة، إذ شهدت العلاقات منحنى آخر في فترة الاحتواء المزدوج أثناء الحرب العراقية الإيرانية، وأثناء فترة حكم كلينتون للولايات المتحدة، قبل أن تنتقل لحالة من التنسيق غير المباشر في العراق وأفغانستان، وإلى حد ما إلى حالة من القبول أو غض الطرف الأميركي عن النفوذ الإيراني في لبنان واليمن.

إن الاتفاق الأميركي-الغربي مع إيران حول الملف النووي هو نتيجة منطقية لهذا المسار من العلاقات، إذ إن الدول الكبرى تتعامل في نهاية الأمر مع الدول الإقليمية وفق مصالحها أولا، ووفق طبيعة السياسات التي تتبعها تلك الدول الإقليمية.

وبالتالي فإن أوباما والغرب باتوا مجبرين للوصول إلى تسوية مع طهران بعد عجزهم عن إخضاعها بالطرق التقليدية والاحتوائية والعسكرية، وهو ما دفعهم إلى البحث عن تسويات سياسية لم يكن بالإمكان الوصول لها لو استجابت إيران مباشرة للضغوط من البداية، أو رضيت بالوقوف موقف المتفرج دون أن توسع من خياراتها و”مقاومتها” لمحاولات فرض الأجندة الغربية عليها.

وتبدو المعادلة السياسية واضحة هنا: لا مواقف أو تنازلات بدون ثمن، وعندما تصر الدول الإقليمية على مواقفها وتحارب لتوسيع نفوذها، فإن الدول الكبرى ستضطر لدفع هذا الثمن، في ظل تراجع الإيديولوجية الغربية عن الإيمان بقدرة القوة العسكرية على تحقيق كل الأهداف السياسية، خصوصا بعد الفشل الذي منيت به هذه الدول في العراق وليبيا وغيرها من المواقع التي خاضت فيها حروبا لم تنته تداعياتها حتى اليوم.

في المقابل، تظهر معادلة العلاقات بين العرب والولايات المتحدة مختلة تماما، إذ تقوم تلك المعادلة على تحقيق واشنطن لكل مصالحها بدون مقابل أو ثمن، وهو ما يعني أنها لن تكون مضطرة لتقديم هذا الثمن، فالدول بالطبع لا تعمل “كجمعيات خيرية”!

وفي ظل هذه القراءة لأسباب التطور الأخير المتمثل بالاتفاق النووي، فإن الخطوة الأولى المطلوبة عربيا في التعامل مع الواقع الجديد هي محاولة تغيير المعادلة غير المنطقية بين العرب وأميركا، من خلال وضع أوراق القوة عربيا على طاولة الاشتباك بين العرب وواشنطن، وهي أوراق لا تقل أهمية عن أوراق الضغط الإيرانية.

ولتحديد أوراق الضغط هذه فإن من المهم تحديد المنطلقات الأساسية للسياسة الخارجية الأميركية والغربية في الشرق الأوسط، وهي منطلقات يكاد يتفق عليها معظم دارسي تلك السياسة، ونعني بها: الحفاظ على التفوق الإستراتيجي الإسرائيلي في المنطقة، وضمان أمن الطاقة، والحفاظ على الاستقرار بما يضمن أمن أوروبا القريبة من الشرق الأوسط تحديدا، ومحاربة “الإرهاب”.

وإذا أراد العرب أن يشكلوا ضغطا على الولايات المتحدة حتى يجبروها على التعامل معهم باحترام كما هو الحال مع إيران، فإن عليهم أن يتحركوا بإستراتيجيات تجعل صانع القرار الأميركي على قناعة بأن مصالحه الأربع المذكورة آنفا ليست مضمونة إذا لم تقدم واشنطن ثمنا لذلك.

وفي هذا الإطار فـإن التحرك الإستراتيجي الأول المطلوب عربيا يتمثل بالاشتباك مع المشروع الصهيوني بالمنطقة

بدلا من حالة الانكفاء العربي والتسليم الكامل أمام دولة الاحتلال، حيث إن هذه الدول تخلت حتى عن الاشتباك السياسي/الدبلوماسي أو اللفظي أو الاقتصادي (من خلال توقف نشاط المقاطعة ومقاومة التطبيع) مع هذه الدولة، واكتفت بالطرح المتكرر الساذج “للمبادرة العربية” والتلويح بسحبها عدة مرات، في حين ضربت تل أبيب هذه المبادرة عرض الحائط ولم تتعامل معها بجدية.

وعلى العكس من تراجع الاهتمام العربي بقضية فلسطين، استطاعت إيران من خلال رفعها لشعارات المقاومة للمشروع الصهيوني، ومن خلال دعمها الفعلي لحركات مقاومة في فلسطين ولبنان أن تجبر الولايات المتحدة على البحث عن تسويات معها لضمان أمن دولة الاحتلال، ولذلك فإن على العرب أن يوصلوا رسالة إلى واشنطن أن حالة الاستسلام أمام تل أبيب قد انتهت، وأن دول المنطقة لديها الإمكانية أن تغير قواعد اللعبة في هذا الملف، بعد سنوات من التخلي عن القضية الفلسطينية، فضلا عن طعنها من الخلف أحيانا.

أما التحرك الإستراتيجي الثاني للرد على اتفاق النووي الإيراني فهو استخدام سلاح النفط العربي للضغط على الولايات المتحدة والغرب، ولا يقصد هنا حصرا سياسة الحظر التي اتبعت إبان حرب أكتوبر عام 1973، لأن بعض العرب يرون أنها لم تعد ممكنة، ولكن من خلال اتباع سياسات إنتاجية تحافظ على أسعار مرتفعة للطاقة، بما يحقق المزيد من الدخل للدول العربية المنتجة ويمثل ضغطا على الدول المستهلكة في الوقت نفسه، إضافة إلى زيادة مشاريع التنمية التي لا تعتمد فقط على الإنتاجات البترولية، وتوسيع الخيارات الاقتصادية بما يمكن العرب من اتباع السياسات النفطية التي تلعب لصالحهم دون خوف من ارتدادات سلبية على اقتصادهم.

وفيما يتعلق بالأمن ومكافحة “الإرهاب”، فإن الرد العربي الإستراتيجي الثالث على اتفاق النووي يمكن أن يكون من خلال الكف عن سياسة التعاون الأمني المجاني مع الولايات المتحدة، والعمل بدلا من ذلك على استثمار هذا الملف وفق مصالحهم القومية التي تحميهم من ضرب الاستقرار في بلادهم، وفي الوقت نفسه الحصول على تعاون أميركي وغربي بالمقابل في الملفات التي تهم الأمن القومي العربي والقضايا السياسية الحيوية للعرب.

وإذا كانت إيران قد استطاعت أن تفرض نفسها قوة نووية في العالم بعد توقيع الاتفاق الأخير، فإن العرب مطالبون أيضا، كرد إستراتيجي رابع على الاتفاق، بالعمل على بناء برامج سلمية لتطوير الطاقة النووية، والاتجاه بشكل واع ومدروس إلى رعاية البحث العلمي والاستفادة مما وصل إليه العلم في العالم، لبناء صناعات إستراتيجية ناجحة، تمكن دول المنطقة من منافسة المشاريع الثلاثة الناهضة في الشرق الأوسط، المشروع الصهيوني، والإيراني والتركي، وإنهاء حالة الاعتماد الكامل على الدعم الأميركي، وهو ما سيدفع واشنطن لتقديم تنازلات للعرب لضمان التفوق الإستراتيجي الإسرائيلي.

أما الرد الخامس على اتفاق النووي، والذي يرتبط ارتباطا وثيقا بالخيارات السابقة، فهو توسيع التحالفات الدولية، والتوجه إلى بناء علاقات جادة ومستدامة مع روسيا والصين والهند وغيرها من الدول الصاعدة في أميركا اللاتينية، وهو الأمر الذي سيمثل تحذيرا للولايات المتحدة من أنها قد تفقد بعض نفوذها “الحصري” في منطقة الشرق الأوسط، إذا لم تسع إلى تقديم تنازلات “لحلفائها” العرب في قضاياهم القومية الحيوية.

ويبقى القول إن الخيارات الإستراتيجية الخمسة المذكورة آنفا للرد على اتفاق النووي يجب ألا تقع في فخ حصر حالة الاشتباك أو الخصومة مع المشروع الإيراني، إذ إن الصراع الأهم والأخطر في المنطقة يبقى دائما هو الصراع العربي الإسرائيلي، وإذا لم يدرك العرب طبيعة علاقاتهم وتحالفاتهم وصراعاتهم الجيوسياسية، فإنهم لن يتمكنوا أبدا من اتخاذ أي إجراء إستراتيجي يجبر الولايات المتحدة على التعامل بجدية واحترام معهم، كما تعاملت مع إيران.

فراس أبو هلال
موقع جزيرة نت