بينما تركّز واشنطن على جعل بغداد تكبح الميليشيات وإنهاء اعتمادها على الطاقة الإيرانية، يهتاج المواطنون العراقيون غضباً حول قضايا أخرى. ففي الأول من تشرين الأول/أكتوبر، اندلعت مجموعة من الاحتجاجات العفويّة من دون قيادة في بغداد وانتشرت في عددٍ من المدن في وسط العراق وجنوبه، بسبب الغضب من الفساد المتفشي للحكومة وعجزها عن توفير الخدمات والوظائف. وبعد أن كانت التظاهرات غير عنيفة في البداية، سرعان ما تسببت بإطلاق نيران فتاكة من جانب قوات الأمن، الأمر الذي أدّى إلى اشتداد غضب المتظاهرين وازدياد عددهم. وأثناء نشر هذا المقال، بلغت حصيلة ضحايا التظاهرات ما يزيد عن 105 قتيلاً وأكثر من 4000 جريحاً، بمن فيهم أفراد من قوات الأمن. وشملت حملة الحكومة أيضاً تعتيم الإنترنت وحظر التجوّل، الأمر الذي سرعان ما تحدّاه المتظاهرون. ويمكن أن تتفاقم الاضطرابات أكثر فأكثر ما لم تُقّدم حكومة بغداد سبلاً موثوقة لتوفير فرص العمل والتخلص من الفساد، وهي مجالات تستطيع الولايات المتحدة المساعدة فيها.
فشل النظام
يبدو أنّ العراق غير قادر على توفير الحُكم الرشيد. فمع قيام القادة ما بعد فترة صدام حسين بوضع مكانة متميزة للتمثيل العرقي -الطائفي وترك مؤسسات الدولة تتدهور، أصبحت الحكومة كياناً متصدّعاً يضم ما يصل إلى 263 حزباً سياسيّاً مسجلاً. وتملأ الانتهاكات نظام تقاسم الإيرادات/ المحسوبية بشكلٍ يردع الدفع نحو سياسة اقتصادية فعالة، ويؤدي إلى إنشاء حلقة مفرغة: فالأحزاب التي نجحت في المشاركة في الحكومة في انتخابات سابقة استخدمت سلطتها لمنح الوظائف والعقود لمؤيديها، بهدف تأمين الأصوات في الانتخابات التي أعقبتها. وفي الوقت نفسه، لا تزال الثروة متركّزة داخل الحكومة – فصادرات العراق الرئيسية الوحيدة هي النفط، الذي يمثّل 92 في المائة من الميزانية.
وبينما يُعتبَر هذا النظام جيداً في منح امتيازات المعاملات للنخب الحزبية، إلّا أنه فشل في توفير الخدمات أو البنية التحتية أو الوظائف إلى بقية السكان. لنأخذ [كمثال] ميزانية عام 2019 البالغة 111.8 مليار دولار، التي تمثّل زيادةً بنسبة 45 في المائة عن عام 2018 – فإن أكثر من نصفها سيذهب إلى أجور القطاع العام والمعاشات التقاعدية، مما سيقوّض الإنفاق الاستثماري غير النفطي اللازم لتطوير القطاع الخاص. وبعد تعاقب مثل هذه الحكومات منذ عام 2003، يبدو أن النظام قد اتخذ مساره. فثمة الكثير من الوظائف الحكومية سبق وأن جعلت القطاع العام في العراق من بين الأكثر تضخماً في العالم. ومن هنا جاءت صرخة يائسة أطلقها أحد المحتجّين في الأسبوع [الأول من الاحتجاجات] قائلاً: “ما نريد أحزاب، نريد وطن”.
وقد يفشل النظام الديمقراطي في العراق أيضاً. فالكثير من المواطنين يعتقدون أن النخب السياسية المنعزلة تقوم بتزوير النظام الانتخابي للبقاء في السلطة، باستخدامها وسائل الإعلام الخاصة بها، ومصالحها التجارية، وعلاقاتها الخارجية لضمان استمرار فوز مرشحيها الذين يتعذر تمييزهم. وقد أشار أحد الاستطلاعات إلى أن واحداً فقط من بين كل خمسة عراقيين يعتقد أن بلاده ما زالت ديمقراطية. ونتيجة لذلك، انخفضت نسبة إقبال الناخبين على التصويت بشكل مطرد، من 80 ٪ في عام 2005 إلى 44.5٪ في عام 2018، في حين أصبحت الاحتجاجات قضايا موسمية.
لقد اندلع الغضب العام الأخير أيضاً بسبب المشاعر القومية التي نمت منذ هزيمة تنظيم «الدولة الإسلامية». ويفتخر الجيل الأصغر سناً ما بعد حُكم صدّام بانتصار الجيش على الإرهابيين وعودة الهدوء لاحقاً إلى معظم المدن. وبالتالي، عندما أعلن رئيس الوزراء عادل عبد المهدي في الأسبوع [الأول من الاحتجاجات] أنه أحال الشخصية العسكرية الأكثر شعبية في الحرب [إلى إمرة وزارة الدفاع]، وهو الفريق الركن عبد الوهاب الساعدي، اشتدّ هذا الشعور. فالساعدي الذي لا يعرف الخوف والذي قاد المعركة لتحرير الموصل وبقي صامداً للمساعدة في قيادة “جهاز مكافحة الإرهاب” المتميّز هو مثال للفخر الوطني العراقي: فهو شيعي، ولكنه يتمتع بشعبية بين السنة، وقد ترقّى في الرتب العسكرية دون الاعتماد على المحسوبية السياسية. وأدّى تخفيض مكانته إلى كشف جميع الغضب المحتقن لعامة الناس على النظام المزيّف.
بالإضافة إلى ذلك، يعرف الجيل الأصغر سناً المتّصل بالإنترنت أنه من غير المنطقي أن يكون في هذا البلد الغني الكثير من الفقراء والطرق الرديئة والمستشفيات المتهدمة والمدارس المتصدّعة. وبالتالي، عندما تستخدم عناصر الأمن خراطيم المياه لتفريق احتجاج سلمي بالقوة، والذي يشارك فيه الباحثون عن الوظائف من حملة الشهادات العالية، لا يكاد يكون الغضب الناتج عن ذلك أمراً مفاجئاً. كما أنّ الكثيرين يشعرون بعدم الارتياح إزاء بروز بعض الميليشيات ضمن «قوات الحشد الشعبي»، التي لعبت دوراً يستحق الثناء في إنقاذ البلاد من تنظيم «الدولة الإسلامية» ولكنها أصبحت الآن جزءاً من شبكةٍ جديدةٍ أكثر خطورة أدّت إلى تسريع الفساد والتحدي علناً لسلطة الدولة.
وعلى غرار أسلافه، يركّز رئيس الوزراء بشكل أكبر على تحديد أولئك الذين يقع عليه اللوم على الاحتجاجات بدلاً من إصلاح المشاكل التي أثارت هذه الاحتجاجات. وبما أنّ المتظاهرين هم بشكلٍ أساسي من الشباب الشيعة الذين ضاقوا ذرعاً من الممثّلين الشيعة الذين خذلوهم، يبدو أن عبد المهدي يميل إلى اللجوء إلى نظريتيْ مؤامرة متناقضتين: تتهم إحداهما السعودية والولايات المتحدة بإثارة الاحتجاجات، وتلقي الأخرى اللوم على إيران وعملائها المحليين. ومثل هذا الارتياب لن يؤدي سوى إلى عرقلة جهود عبد المهدي لتنفيذ الإصلاحات الجادة التي يطالب بها جمهوره.
مخاطر عالية
ما لم تبطل الحكومة نهجها القاسي، ستشتد الاحتجاجات في العراق، مع تداعيات مقلقة محتملة داخل البلاد وخارجها. ومن أسباب ذلك أنّ الاضطرابات الداخلية قد تجعل من الصعب على بغداد القيام بدورها في درء اشتعال النزاعات الإقليمية التي يمكن أن تدفع العراق إلى حرب. وإذ يدرك القادة العراقيون تمام الإدراك أن أعمال إيران الأخيرة قد تثير صراع مع السعودية و/ أو إسرائيل و/ أو الولايات المتحدة، فقد قاموا بنشر الدبلوماسية الناشطة لطمأنة المجتمع الدولي بأنهم سيبذلون المزيد من الجهود للسيطرة على الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران.
ومن الأمور المقلقة أيضاً واقع أن تاريخ العراق يقدّم سوابق كثيرة لقيام أحد الرجال الأقوياء أو إحدى الجماعات السرّية بتنفيذ انقلاب في وجه الفوضى العامة. وتَعتبر إحدى النظريات إنه تم تخفيض مكانة الساعدي جزئياً لإعاقة مثل هذا الاحتمال، نظراً إلى شعبيته الهائلة. ومع ذلك، لا يزال الكثير من أفراد سلك الضباط مسيّساً وبعيداً عن كونه موحداً. بالإضافة إلى ذلك، سيتعيّن على قادة محتملين لمثل هذا الانقلاب مواجهة «قوات الحشد الشعبي» أو الاشتراك معها، مما يطرح إشكاليةً في كلا الحالتيْن – فالخيار الأول قد يتسبب في اندلاع حرب أهلية، في حين قد يزيد الخيار الثاني من تمكين الميليشيات. ويتوق الكثير من العراقيين إلى القيادة الحازمة حتى على حساب الديمقراطية، لكنّ مثل هذا القائد قد يؤول إلى المغامرة الخارجية من أجل صرف الانتباه عن المشاكل المحلية.
لقد بقيت «قوات الحشد الشعبي» على الحياد حتى الآن فيما يتعلق بالاحتجاجات، تاركةً شرطة مكافحة الشغب وفرق التدخل السريع تخوض المعركة مع المحتجّين. ويتسبب رد الحكومة بخسارتها القلوب والعقول وفعلها ذلك بكفاءة وحشية. وقد تفكّر بعض فصائل «قوات الحشد الشعبي» بالتصدي لهذه القوى الأمنية والظهور بمثابة الجهات المنقذة. وتقليديّاً، كانت ميليشيات العراق أجنحة مسلّحة لأحزاب سياسية قائمة، لكنّ الميليشيات الأكثر نفوذاً اليوم (مثل «عصائب أهل الحق»؛ «كتائب حزب الله») هي كيانات حرة الحركة تتطلّع إلى المزيد من السلطة السياسية والاقتصادية الخاصة بها.
وإذا نجحت الميليشيات في استمالة حركة الاحتجاجات، ستحرز نصراً كبيراً لصالح تحقيق هدف طهران المتمثّل في تعميق النفوذ الإيراني وإجبار الولايات المتحدة على الخروج من البلاد. وبدوره، سيؤدي ذلك إلى زيادة المخاطر على الدول المجاورة للعراق. لقد خسرت إيران جزءاً كبيراً من الشارع العراقي، لكن لا يزال لها تأثير على النخبة السياسية في البلاد. ومع ذلك، فمن الواضح أنه سيتعين على وكلائها مواجهة السخط والسياسات لعامة الناس في العراق والتعامل معهما في مرحلة ما في المستقبل.
الحاجة للإصلاح
حتى إذا تلاشت الاحتجاجات الحالية، من شبه المؤكّد أن تعود [ثانية] نظراً للحالة الرهيبة للحوكمة والاقتصاد في العراق. وتُعتبر مهمة رئيس الوزراء عبد المهدي واضحة، وهي: الشروع بجهود إصلاح جادة نحو [ممارسة قائمة على] حكومة نظيفة وخاضعة للمساءلة توفّر الخدمات والوظائف. فالعراقيون مستعدون بكل معنى الكلمة للموت من أجل الحكم الرشيد. ومع ذلك، فإن العنف يولّد العنف، وقد يتفاقم الوضع بما يتجاوز قدرة الحكومة على معالجة الأزمة عبر الإصلاح. ويبدو أن الاحتجاجات الراهنة هي الأكثر خطورة في البلاد منذ عام 2003.
وحتى الآن، اختار رئيس الوزراء تقديم حلول مؤقّتة للمشاكل من خلال توفير منافع حكومية. ومع ذلك، سيحتاج قريباً إلى توجيه مطالب الناس [نحو أهداف مفيدة]، ومواجهة المصالح السياسية الراسخة، واتخاذ إجراءات موثوقة بشأن الإصلاحات. وربما تكون حكومته هي الأفضل تجهيزاً حتى الآن للاستجابة على هذه الجبهة نظراً إلى خلفيتها التكنوقراطية. وقد منحه الزعيم الشيعي آية الله علي السيستاني بعض الوقت في الرابع من تشرين الأول/أكتوبر عبر الدعوة إلى الإصلاح بدلاً من استقالة الحكومة. لكن مقتدى الصدر دعا إلى إجراء انتخابات جديدة.
لدى واشنطن وسائل محدودة لصياغة الأحداث في هذه المرحلة، لكن لا يزال بإمكانها لعب دور مفيد من خلال إسداء المشورة بشكلٍ هادئ إلى رئيس الوزراء وغيره من القادة الرئيسيين. وقد تكون الرسائل العامة أقل فائدة. وبالأحرى، يجب على المسؤولين الأمريكيين الضغط على بغداد سراً ولكن بقوة من أجل ممارسة السيطرة الصارمة على قوات الأمن. ولن يؤدي العدد الكبير من الوفيات خلال الأسبوع الأول من المظاهرات إلا إلى زيادة نقص الثقة الهائل في الحكومة. وتتمثل إحدى الخطوات الحازمة في الاتجاه الصحيح في الإعلان عن العقوبات على أي من أفراد الأمن الذين يتجاهلون أوامر رئيس الحكومة لضبط النفس، والتحقيق في مقتل الناشطين الذين شاركوا في احتجاجات البصرة في صيف عام 2018.
لقد حصل العراق على سنوات من المشورة الخارجية السليمة بشأن الإصلاح الاقتصادي. ولا ينبع فشل الحكومات المتعاقبة في المتابعة عن غياب النصائح السديدة، بل عن انعدام إرادة سياسية – وعن الفساد في كثير من الأحيان. وتُعدّ مطالب المحتجّين عادلة، فقد نفذ صبرهم. يتعيّن على القيادة العراقية القول بصوتٍ عال وواضح: “نحن نسمعكم”، ومن ثم المضي قدماً في العمل الشاق المتمثل في تجميع أجندة قابلة للتطبيق لفتح الاقتصاد، وتعزيز قطاع خاص حقيقي لتوليد النمو الوظيفي، وتحديد أولويات الخدمات الهامة.
معهد واشنطن