بعد سقوط صدام حسين بشهر في أبريل (نيسان) 2003، اختارت الولايات المتحدة أحد دبلوماسييها وهو السفير بول بريمر الذي لم يسبق له العمل في أي دولة عربية، ليكون حاكماً إدارياً للعراق. اتخذ من المنطقة الخضراء مقراً له، وشكّل ائتلافاً معظمه من الشيعة، والأكراد، للنظر في مستقبل العراق، وتقرير ما ستكون عليه الأيام المقبلة. لا يزال حتى اليوم، يُتّهم أنه وراء حلّ الجيش العراقي وحزب البعث، وهو ما يراه البعض قراراً خاطئاً وكارثياً، حين قررت بريطانيا إلى جانب الولايات المتحدة الأميركية، تطبيق النظريات التي طبقها الحلفاء بعد الحرب العالمية الثانية بحق النازية، وتمثلت بحلّ الحزب والجيش، وملاحقة الفكر النازي تحت كل سماء وفوق كل أرض. لكن المفاجأة، قوله إن سحب الرئيس الأسبق باراك أوباما للقوات من العراق في 2011 كان بمثابة الهدية المجانية وتقديم بلاد الرافدين هدية على طبق من ذهب لإيران وداعش.
وكان بول بريمر قد انضم إلى السلك الدبلوماسي الأميركي عام 1966 وخدم في سفارات بلاده في أفغانستان وملاوي والنرويج وتولى منصب المساعد التنفيذي والمساعد الخاص لستة من وزراء الخارجية الأميركيين، وعينه الرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان سفيرا لبلاده في هولندا لمدة ثلاث سنوات منذ عام 1983.
وفي عام 1986 عين بريمر سفيرا في وزارة الخارجية الأميركية لشؤون “مكافحة الإرهاب كما كان كبير مستشاري الرئيس ووزير الخارجية الأميركيين بشأن “الإرهاب” في الأعوام الثلاثة التالية. تقاعد بول بريمر عام 1989 بعد 23 عاما قضاها في السلك الدبلوماسي وانضم الى شركة “كيسنجر أسوشيتس”، الاستشارية والتي يرأسها وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر.
ووصل بريمر إلى بغداد في 12 مايو (أيار)2003 مبعوثا شخصيا للرئيس جورج بوش وعرفت فترة وجوده في العراق سلسلة تطورات مصيرية تركت آثارا واسعة على مستقبل البلد.
سؤالان استفزا بول بريمر، خلال لقائي معه وجعلاه يصفهما بـ “الهراء”، ثم يجيب مدافعاً، الأول عن جريمة (سجن) أبو غريب، ولمَ لم يحاكَم من ارتكبها محاكمة عادلة؟ بدلاً من الاكتفاء بإحالتهم على التقاعد وسحب الرتب العسكرية منهم. والآخر، عن سبب فشل الرئيس جورج بوش الابن في تشكيل تحالف يوازي الذي شكّله والده ضخامة، في حرب الخليج المعروفة بتحرير الكويت. فإلى الحوار:
لست خبيراً لكنني أعرف المنطقة
كان السؤال “لماذا أنت؟ لماذا وقع عليك الاختيار على الرغم من أن خلفيتك ديبلوماسية، ولم تشغل مناصب عسكرية أو إدارية، ولم يسبق لك العمل في دولة عربية، وهناك من يقول إنك لست خبيراً بها” فقال “لقد سُئلت هذا السؤال من قبل، وهذه حقيقة. لم أكن خبيراً في شؤون المنطقة، لقد عشت في أفغانستان وهي طبعاً ليست في الشرق الأوسط، الناس هناك يتكلمون لغة مختلفة، وهم مختلفون. لكنني كنت أعيش هناك، وخلال عملي كرئيس لفريق هنري كيسنجر في 1970 كسبت خبرة في دبلوماسية الشرق الأوسط، دبلوماسية المكّوك بين مصر وإسرائيل، وبين سوريا وإسرائيل في أعقاب حرب “يوم الغفران”. لقد أمضيت فترة في المنطقة لكن هذا لا يجعلني خبيراً. أعتقد أن تجربتي في مكافحة الإرهاب في إدارتَي (الرئيسين) رونالد ريغان وبيل كلينتون، وأيضاً في الفترة الأولى من إدارة بوش كانت من الأسباب التي دفعت لاختياري”.
الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش وخلفه الحاكم المدني الأميركي الأسبق في العراق بول بريمر (غيتي)
عدت إليه بسؤال “هل سألت بوش حين اختارك لماذا أنت”؟ فقال “لم أسأل الرئيس مطلقاً لماذا اختارني. في الحقيقة كلماته الأولى كانت “لماذا قرّرت أن تقبل بهذه المهمة الرهيبة”؟ كان يجب عليّ إجابته حينها لماذا قرّرت تعييني في هذا العمل الرهيب إذا كنت ستطرح هذا السؤال”.
قرار دخول العراق ورفض بوش الأب
بعد حرب الخليج الأولى، أو الثانية كما يسميها البعض، إذ ينسبون الأولى للحرب العراقية – الإيرانية (1980-1988)، رفض بوش الأب دخول العراق، وامتنع عن ذلك، إذ كان بمقدوره بعد تحرير الكويت، وطرد صدام حسين وقواته وتدمير القوات العراقية على الحدود، الدخول والغزو، لكن ذلك لم يكن هو الهدف. سألت بول بريمر، ما الذي دفع الولايات المتحدة لتغيير الفكرة والمسار في 2003، فأجاب “خلال حرب الخليج الأولى لم أكن في الحكومة، لذلك ليست لديّ أي فكرة عما حدث هناك. في ما يتعلق بمسألة تحرير العراق في عام 2003، يتعيّن على المرء أن يتذكر أن المعلومات التي كانت بحوزة الرئيس، كان مصدرها استخبارات دول مختلفة، وليس فقط من الاستخبارات الأميركية، بل من الفرنسيين والألمان والروس والبريطانيين، بأن صدام حسين لا تزال لديه القدرة على امتلاك أسلحة دمار شامل. كنا نعلم أنه كذب بشأن ذلك خلال التسعينيات، لأنه قال إنه تخلص من كل الأسلحة، وبعدها عثر المفتشون على أسلحة بيولوجية في عام 1995، فقط لأن عراقياً مبعداً قال أنتم لا تبحثون في المكان الصحيح.
الأمين العام للأمم المتحدة الراحل كوفي عنان وإلى جانبه رئيس لجنة المفتشين عن أسلحة الدمار الشامل في العراق سابقا هانس بليكس (غيتي)
الرئيس كان يواجه مجموعة من المعلومات الاستخباراتية، ليس فقط من أجهزة الاستخبارات الأميركية، توحي بأن صدّام كان لا يزال يخون ويسعى إلى أسلحة دمار شامل، وتالياً كان قرار الرئيس الذهاب إلى أفغانستان، وأيضاً إنهاء المهمة في العراق”.
أسلحة الدمار الشامل أين هي؟
المعلومات التي تلقاها بوش من أجهزة الاستخبارات في ذلك الوقت أكدت أن صدام كان يمتلك أسلحة دمار شامل عام 2003، ولم يتم العثور عليها هناك بعد الغزو، وعندما سألته إن كانت تلك مجرد ذريعة لغزو العراق، وكيف شعرت الحكومة الأميركية حيال ذلك عندما ذهبت إلى هناك ولم تستطع إثبات الأمر؟ أجاب “القصة بشأن موضوع الأسلحة لم تكن واضحة، لم أرَ مطلقاً مبرّرات واضحة عن سبب خطأ أجهزتنا الاستخباراتية. لا بد للأشخاص الذين يشيرون إلى ذلك أن لا ينسوا ذكر الاستنتاج الذي خلص إليه مفتشونا، وهم عندما لم يجدوا أي شيء تحدثوا مع علماء صدام الذين عملوا على أسلحة الدمار الشامل وأكدوا ذلك”. بريمر أضاف متحدثاً عن استنتاج تشارلي دوفور، وهو المفتش الذي كتب التقرير في ذلك الوقت، وقال إنه خلص إلى أن “صدام احتفظ بالعاملين وبالسياسات والمواد وأنهم يعتزمون إعادة تشغيل البرامج النووية والكيميائية والبيولوجية بمجرد مغادرتنا. الاستنتاج النهائي للمفتشين كان أنه لو رُفِعت العقوبات وبقي صدام في السلطة، كان سيعيد تشغيلها. ويبقى مصير المواد لغزاً، يمكن أن يكون لديك الكثير من النظريات حول ما حدث، ولكن أيّ رجل عاقل لو كان يملك الأدلة التي قُدمتْ للرئيس بوش كان سيصل إلى النتيجة ذاتها ومن ضمنهم آل غور (منافس بوش في الانتخابات الرئاسية)”.
GettyImages-95291978.jpg
الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش أثناء خطابه التلفزيوني الشهير لإعلان الحرب على العراق (غيتي)
بعد دخول الولايات المتحدة إلى العراق، والاعتراف بعدم وجود أسلحة دمار شامل، كانت الفكرة السائدة والمنتشرة بأن واشنطن استغلت الأمر كمبرّر للغزو وليس أكثر. سألت بريمر “إذاً برأيك الشخصي، هل كان من الخطأ استخدام أسلحة الدمار الشامل كمبرّر للغزو، ألم تكن هناك وسيلة سوى الغزو للتخلّص من صدام”؟ فأجاب “الشعب العراقيّ والولايات المتحدة أفضل حالاً في المنطقة اليوم بعد 15 عاماً، ليس لدي أيّ تردد في الدفاع عن القرار، فنظراً للأدلة التي كانت مع الرئيس لم يكن هناك خيارات أخرى”.
الاتصالات مع العرب والتدخّل للعدول عن الغزو وحلّ الجيش
يصر بريمر بشكل حاسم على أنه وأثناء تنفيذ مهمته في العراق، لم يكن مطلعاً على العلاقات الدبلوماسية والاتصالات التي كانت تجريها الإدارة الأميركية مع الدول الأخرى، خصوصاً مع تلك التي حاولت التدخّل للعدول عن قرار الغزو، وحتى الرسائل التي قيل في حينها إن مسؤولين سعوديين نقلوها عن ولي العهد حينها، الملك عبدالله، وتحمل نصائح للأميركيين بعدم حلّ الجيش العراقي.
وأكد ذلك مجدداً عندما سألته إن كانت هناك أي اتصالات مع السعوديين أو المصريين، أو إن أرادوا التدخل من طريق التشاور أم لا بالملف العراقي. وما كان موقفهم مما حدث. فأجاب “عندما وصلت إلى العراق، وظيفتي كانت واحدة وهي العمل على ملف العراق، ولم أكن مشاركاً في العلاقة الدبلوماسية التي كانت تعمل بها وزارة الخارجية مع السعوديين أو المصريين أو مع الكويت والآخرين، لذلك ليس لدي أيّ معلومات شخصية حول تلك المحادثات. مهمتي كانت التركيز على محاولة حثّ العراقيين على استعادة بلادهم”.
وأطال بريمر إجابته مؤكداً بأنه خلال وجوده في العراق، لم يظهر أيّ سعودي أو مصريّ هناك، كما أنه لم يذهب هو إليهم. ولكنه أضاف “عدم علمي بشأن هذا الأمر لا يعني أنه لم يحدث. كنت الحاكم في بغداد، لذلك كان بإمكانهم إجراء مناقشات مع السعودية ولكني لم أعلم بذلك، ولم أسمع أبداً أيّ أميركي يقول هذا أيضاً، لقد تحدثت إلى الكثير من الأميركيين ولم أسمع بذلك”.
وبهدف التأكد كرّرت إصراري على أنه لا يريد الإجابة، وأنه رفض إيضاح ما إذا كانت هناك اتصالات مع السعوديين والمصريين ولكنه أصرّ بالمقابل، وأجاب “هذا فقط لأنه لم تكن هناك أيّ اتصالات، وليس أنني لا أريد الإجابة، فأنا لا أرفض بل أخبرك حقيقة الأمر”.
وتحدّث بريمر ضمن إطار الزيارات الخارجية التي قام بها خلال وجوده في العراق، ذاكراً رحلة قام بها إلى قطر بناء على طلب الرئيس بوش الذي كان متوجهاً إلى هناك، وطلب منه ملاقاته في يونيو (حزيران) 2003، نافياً أن يكون قد التقى بأيّ مسؤول قطري خلال هذه الزيارة، ولكنه لم ينسَ أن يذكر لي رحلته التي قام بها إلى البحرين لمشاهدة مباراة كرة قدم، حيث التقى وزير الخارجية هناك، يقول بريمر “ذهبت إلى البحرين لأحاول إعادة قبول الرياضيين العراقيين في الأولمبياد، كانوا قد طُردوا من الألعاب الأولمبية بعد غزو الكويت”.
GettyImages-2058980.jpg
الحاكم المدني الأميركي في العراق سابقا بول بريمر أثناء لقائه بالرئيس الأميركي السابق جورج بوش في الدوحة (غيتي)
تدخل الإيرانيين في الملف العراقي
يذهب كثير من الخليجيين والعرب، ولا سيما المحيطين بالعراق، إلى أن غزو العراق 2003، حتى وإن خلّص المنطقة من جنون صدام حسين، إلا أنه أفسح في المجال لإيران للتدخل والسيطرة على القرار السياسي في بلاد الرافدين. وهي نقطة لا يمكن إغفالها في محاورة الرجل الأول الذي جاء على متن طائرة عسكرية ليحكم العراق عاماً وأكثرَ، فور سقوط صدام حسين مباشرة. لكنْ للحاكم الأميركي لبغداد رأي آخر وتفصيل أكثر.
في ما يخصّ التدخل الإيراني في العراق، يقول بريمر إن الإيرانيين كانوا شديدي الحرص أثناء وجوده هناك، لأن الأميركيين كان لديهم جيش على حدودهم الشرقية وعلى حدودهم الغربية، لكنهم كانوا يظهرون على الحدود بين الحين والآخر، على شكل دوريات يقوم بها الجيش أو الحرس الثوري الإيراني، وقال، عندما سألته إن كان حصل تواصل أو مواجهة معهم، “كانوا يأتون إلى الحدود وكان جيشنا يطاردهم بعيداً ولم تحصل أي مواجهة. الإيرانيون مثل العرب، لم يكونوا عاملاً داخل العراق في ذلك الوقت”.
بعد الانتهاء من الحديث عن الاتصالات مع السعوديين أو المصريين والتدخل الإيراني في العراق، انتقل بول بريمر إلى التدخل السوري ووصفه بالـ “مختلف”، إذ جاء على شكل تهريب إرهابيين إلى داخل العراق عبر الحدود المشتركة، وقال “كان السوريون متورطين في مساعدة الإرهابيين على عبور الحدود السورية، وكان هناك الكثير ممن جاءوا من ليبيا. هناك إشاعات انتشرت لا أملك أيّ علم مباشر بها وهي أن دولاً ومنها السعودية كانت تموّل أو ترعى دخول بعض هؤلاء الأشخاص، لكنها ليست معلومات، مجرد اقتراحات أو إشاعات”.
فعدتُ بالسؤال: ولمَ لمْ يمنع أحد دخول الإرهابيين؟ فأجاب “طرَحَ هذا الأمر مشكلة أكبر، وهي أنه لم تكن لدينا (قوات) أمن الكافية، خلال فترة وجودي هناك”.
تحالفات بوش الأب والابن
نجح الرئيس الأميركي جورج بوش الأب في تشكيل تحالف ضخم في حرب الخليج الأولى، بينما، وحين غزو العراق في عهد الرئيس بوش الابن، لم تكن المعلومات والأخبار تشير إلى وجود تحالف بهذا الضخامة، فسألت بريمر ما هي الأسباب؟ أو لمَ لمْ يتمكن بوش الابن من تشكيل تحالف واسع النطاق، كالذي شكّله والده في حرب الخليج الأولى؟ وكيف لمْ تستطع القوات الموجودة هناك منع تدفق الإرهابيين بالآلاف عبر حدود سوريا؟
hgvz
GettyImages-576831398.jpg
الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الأب وإلى جانبه كبار مساعديه عشية اتخاذ قرار خوض حرب تحرير الكويت (غيتي)
السؤال استفزّ بريمر بقوة، فأجاب مدافعاً عن التحالف الذي قاده الرئيس بوش الابن “هذا غير صحيح، لقد نجح بالقيام بذلك. خلال الـ 14 شهراً التي قضيتها هناك كانت لدينا قوات من 45 دولة. في الجانب المدني الذي كان تحت سلطتي كان لدي 3 آلاف شخص. الهولنديون كان لديهم لواء في الديوانية، وللأوكرانيين لواء في الكوت، وللإيطاليين لواء في الناصرية، وكان اليابانيون في الشمال والكوريون في أربيل”.
فكرّرت سؤالي السابق: إذاً، لمَ لمْ يتمكن هذا التحالف الضخم من منع “القاعدة” من العبور من سوريا نحو العراق؟ إجابة بريمر هذه المرة كانت شرحاً للتقسيمات الجغرافية العراقية “إن كنتَ متموضعاً في (محافظة) الديوانية فلن تستطيع السيطرة على الحدود السورية”. وتابع “المشكلة أنه لم يكن هناك عدد كاف من القوات الأميركية، لأن الألوية أو الكتائب الأخرى كانت متمركزة في المدن، ولم تكن تسيطر على الحدود السورية. القوات الأميركية اضطرت للسيطرة على الأنبار كل الوقت، أولاً بواسطة اللواء المجوقل 82، ثم المارينز، ولم يكن عددهم كافياً. لذا لم تحصل السيطرة على الحدود، بالإضافة إلى أن السوريين كانوا يشجّعون على عبور الحدود، وربما الإيرانيين في وقت ما”. وهي إشارة من بريمر كيف كانت إيران وسوريا ترعيان دخول قوافل الإرهابيين إلى العراق.
صدام حسين الصديق والعدو
صدام حسين خسر الحليف الأميركي الذي دعمه في ثمانينيات القرن الماضي على المستويات كافة لمحاربة إيران، وتحوّل لاحقاً إلى عدو، ما دفع بالأميركيين إلى غزو العراق، سألت بول بريمر هنا “ما الذي حوّل صدام حسين إلى عدو لدود للأميركيين”؟
السفير بريمر لم يعتبر أن صدام كان حليفاً للأميركيين، بل إن دعمهم له اقتصر على سنوات معدودات، أي أنه لم يكن سوى حليف مؤقت. وأضاف “وحشية صدام تجاه شعبه، وعلى وجه الخصوص الأكراد، هي من المسببات الأساسية لخسارة الحليف الأميركي، فقد ارتكب إبادة جماعية ضد الأكراد في الثمانينيات، واستخدم ضدهم الأسلحة الكيماوية في حلبجة في مارس (آذار) 1988. هذا الأمر بدأ أولاً بتحويل الرأي في الولايات المتحدة بعيداً منه، إضافة إلى تدهور علاقاتنا مع إيران التي بدأت تستخدم حزب الله لقتل الأميركيين في لبنان عام 1983، من خلال الاعتداء على الثكنات البحرية والهجوم على السفارة الأميركية. أعتقد أنه خلال عهد الرئيس رونالد ريغان تحولت المعادلة من مواجهة إيران والعراق، إلى مواجهة ضد سوريا وإيران اللتين لم يكن لهما تأييد كبير في الإدارة”.
GettyImages-110140621.jpg
بول بريمر يقول إن الرئيس العراقي السابق صدام حسين لم يكن حليفا لأميركا في الثمانينات (غيتي)
وتابع أن العلاقات مع صدام وصلت إلى أسوأ مراحلها خلال التسعينيات “عندما أظهر الأخير طموحاً واضحاً لضم الكويت إلى العراق، من خلال غزوها وتسميتها “المحافظة 19”. وأضاف “وبعد كل ذلك كذبه بشأن امتلاكه الأسلحة الذي كشفه المفتشون، والاستخدام الفاضح للنفط مقابل الغذاء، خلال التسعينيات، وقد انتهى في ذلك الوقت أيّ تعاطف كان لديهم (المسؤولون الأميركيون) تجاه صدام”.
حلّ الجيش العراقي
عندما نذكر اسم بول بريمر لا بد لنا من التحدث عن القرارين المصيريين اللذين اتخذهما في العراق وهما حلّ الجيش العراقي، وحلّ حزب البعث. القراران أسهما بإحداث تغييرات ديموغرافية وسياسية في العراق. ولكنّ بريمر يردد دائماً خلال مقابلاته بأنه أخطأ باستخدام كلمة “حلّ” في ما يخصّ الجيش، إذ لم يكن هناك جيش عند وصوله إلى العراق.
وانطلاقاً من أحد أهم القرارات التي اتخذت في تاريخ العراق وغيّرت مجرى الأحداث فيه، سألته “أين كان يكمن الخطر في إبقاء الجيش العراقي”؟
C270D8B1CB2740F09DCC28745E3971C4.jpg
حل الجيش العراقي كان من أهم القرارات التي اتخذها بول بريمر أثناء عمله في العراق (رويترز)
إجابته جاءت سريعة، ومفادها “لم تكن هناك طريقة لإبقاء الجيش لأنه لم يكن موجوداً في أي مكان في العراق منذ سقوط بغداد”. وتابع بريمر شارحاً التفاصيل “وقت سقوط بغداد في 9 أبريل (نيسان) لم يكن هناك أيّ وحدة من الجيش العراقي تحمل السلاح في أيّ مكان في البلاد وفقاً للجنرال جون أبو زيد، الذي كان قائداً للقيادة المركزية الأميركية في العراق. البنتاغون قال حينها إن الجيش العراقي سرّح نفسه. المصطلح ليس أنيقاً لكنهم فعلياً ذهبوا إلى منازلهم”. ويعود للاعتراف بالخطأ مجدداً “إن كنتُ قد ارتكبتُ خطأ في ذلك الوقت فهو استخدام كلمة (حلّ)”.
يقول حاكم العراق المدني إن الإشكالية الأهم التي طرحت في ذلك الوقت بعد أن وصل واكتشف بأن الجيش غير موجود، هي هل يجب إعادة استدعاء الجيش؟ وجهة نظر الحكومة الأميركية والبنتاغون والجيش، بحسب بريمر، كانت أنه لا يجب القيام بذلك، لأن الجيش كان الأداة الرئيسة في وحشية صدام ضد شعبه.
طلب مني بول بريمر أن يستفيض بالحديث في ملف الجيش العراقي وقال “كان الجيش مؤلفاً من 315 ألف مجنّد، ولم يكن جيشاً متطوعاً، وكان الجنود كلهم من الشيعة تقريباً، وكل الضباط كانوا من السنة مع عدد قليل من الأكراد، كان هيكل الجيش طائفياً، وعندما رأى المجنّدون أن الجيش يخسر الحرب فرّوا، وقبل مغادرتهم عمدوا إلى تدمير الثكنات، وأخذوا منها أحياناً النوافذ والمراحيض. ولم يكن هناك مكان لإعادة الجيش إليه”.
GettyImages-2388906.jpg
بول بريمر أثناء تنقله في العاصمة العراقية بغداد (غيتي)
مواقف مكونات الشعب من إعادة الجيش
القضية الرئيسة بحسب بريمر، عندما تحدث عن واقع الجيش العراقي بالتفصيل ونظرة الشعب إليه، كانت أن كل الفئات (العراقية) تعتبره الوسيلة التي بواسطتها نفّذ صدام أعماله الوحشية ضدهم مدة 30 عاماً، لذا لم يكن هناك من رأي سياسي يؤيد إعادة استدعائه. تابع بريمر “الزعيمان الكرديان جلال طالباني ومسعود بارزاني قالا لي بكل وضوح إنهما سمعا إشاعات عن وجود بعض الضباط الأميركيين الذين أرادوا استدعاء الجيش، وهذا الكلام كان صحيحاً إذ كان بعض الضباط يعتبرونها فكرة جيدة”. وهو الكلام نفسه الذي سمعه الشيعة وأبلغوا بريمر به.
يقول الحاكم الأميركي للعراق سابقاً “الأكراد كانوا بغاية الوضوح في حديثهم معي حول إعادة الجيش، وكانوا حاسمين. قالوا لي إذا تم استدعاء الجيش الذي ارتكب إبادة جماعية ضدنا – (مسعود) البارزاني نفسه فقد 3000 من أقاربه في الإبادة الجماعية – سوف ننفصل عن العراق وهو ما يعني أننا كنا سنخوض حرباً أهلية بالفعل في عام 2003”.
GettyImages-50986301.jpg
بول بريمر يقول إن الأكراد هددوا بالانفصال من العراق إذا لم يتم حل الجيش العراقي (غيتي)
وانتقل بريمر للحديث عن الشيعة ورأيهم في حلّ الجيش العراقي قائلاً “الشيعة الذين يشكلون غالبية السكان، حوالى 50 في المئة منهم بحسب ما يقولون وتشير إليه بعض الإحصاءات، لا أحد يعلم الرقم الفعلي، تعاونوا معنا بموجب تعليمات وفتوى من (المرجع الشيعي الأعلى في العراق) “آية الله علي السيستاني”. وقال لي القادة الشيعة إذا فعلت ذلك، وأعدت الجيش فأنت تعيد “الصدامية”، لكن من دون صدام. لذلك لم يكن هناك أي رأي سياسي مؤيد لاستدعاء الجيش”.
GettyImages-2065332.jpg
بول بريمر أثناء زيارته إلى جامعة الحلة الدينية (غيتي)
وسألته عن السُنة، المكوّن الثالث “إذاً رفض طرفان عراقيان إعادة الجيش ماذا عن السُنة، وهم الطائفة التي كان ينتمي إليها معظم ضباط جيش صدام”؟ فأجاب “هم أيضاً لم يرغبوا في إعادة الجيش، ولم يطلبوا منا ذلك أبداً. السُنة انضموا أيضاً إلى مجلس الحكم، عرباً وكرداً”.
وعلى الرغم من الإجماع على عدم الرغبة في استدعاء الجيش القديم، إلا أن بريمر روى لنا قصة حدثت في أبريل عام 2004، وأثبتت أنهم كانوا على حق بقرارهم بعدم فعل ذلك، وقال “في ذلك الوقت كنا نعاني من صعوبة بالغة في الفلوجة، وقرر جنرال أميركي استدعاء لواء من الجيش القديم، جنود المارينز قاموا بذلك وحدهم من دون التشاور معي أو مع واشنطن، وقالوا إنهم سيستخدمون هذا اللواء لدخول الفلوجة وتنظيفها، حيث كانت تعاني من فوضى عارمة، وهي المرة الوحيدة التي استدعينا فيها لواءً قديماً، لكن بدل القيام بذلك دخل هذا اللواء وانضم إلى العدو، ولذلك كان على الجنرال الذي استدعاه أن يحلّه. وهذا دليل قاطع على أنه لا يمكن استدعاء الجيش القديم من دون القيام بما كنا نقوم به، وهو التأكد من التفاصيل. المرة الوحيدة التي اعتقد فيها شخص ما أنها كانت فكرة جيدة، كانت كارثة وفشلاً ذريعاً”.
تشكيل الجيش الجديد للعراق!
بعد حلّ الجيش العراقي ورفض المكونات العراقية فكرة إعادة استدعائه، اتخذت الولايات المتحدة إجراءات عديدة، قبل تنفيذ خطة إنشاء جيش جديد، منها دفع الرواتب وقبول طلبات الانضمام لتشكيل جيش جديد، وقال بريمر “هذه الإجراءات بغاية الأهمية”، وتابع “دفعنا رواتب لكل كبار الضباط عندما لم يتم استدعاء الجيش، والمرتّبات التقاعدية زادت مرتين على الأقل، عما لو كانوا قد بقوا في جيش صدام. قدمنا لهم زيادة مالية، وأرسلناهم إلى منازلهم. وأفسحنا المجال لأي عنصر من الجيش القديم حتى رتبة عقيد، بالتقدم لطلب شغل وظيفة في الجيش الجديد، ولم يكن هناك أي تمييز ضدهم. وعندما غادرت العراق بعد 14 شهراً، كان 80 في المئة من الضباط، والضباط غير المفوضين والمجنّدين، من الجيش القديم”.
على الرغم من عدم وجود عدد كاف من قوات التحالف والقوات الأميركية لمنع تهريب الإرهابيين عبر معبر “القائم” عند الحدود السورية العراقية، كما ذكر بريمر سابقاً في اللقاء، وهي النقطة التي شكلت مشكلة أساسية في ذلك الوقت، إلا أنه يرى أن الجيش هو الذي هزم تنظيم القاعدة عام2009، وداعش في عامي 2011 و2012، وأضاف “تم تدريب الجيش العراقي من قبل الأميركيين”.
تشكيل الجماعات الإرهابية في العراق أثناء الحرب
جماعات إرهابية عديدة تم تأسيسها في العراق إبان الغزو الأميركي. مثل “مجلس شورى المجاهدين” و”الدولة الإسلامية في العراق” وغيرهما، وإيران، التي كانت تطلب من بشار الأسد إرسال أكبر عدد ممكن من الإرهابيين إلى العراق في ذلك الوقت، استفادت من المعارك بين بعض هذه المجموعات الإرهابية وأهداف عسكرية أميركية”. سألت حاكم العراق المدني “كيف تم تأسيس هذه المجموعات في العراق من عام 2003 حتى 2009، وكيف اندمج بعضها ببعض وشكّلوا تنظيم داعش”؟ فأجاب “القاعدة كانت نشطة بالفعل في العراق قبل الغزو، من خلال جماعة إرهابية تدعى “أنصار الإسلام” مقرها في المنطقة الكردية، وتطورت أساساً إلى تنظيم “القاعدة” بالعراق وفي النهاية شكّلوا “داعش”، يقول بريمر “داعش هو فعلياً النسخة الثالثة من القاعدة”.
GettyImages-2657061.jpg
عرف العراق سلسلة عمليات انتحارية دامية خلال تواجد القوات الأميركية في البلد (غيتي)
وعندما قلت له “لكن هذه الجماعات زادت وأصبح عددها أكبر” أيدني الرأي وأضاف “كلامك صحيح، كان للإيرانيين مصلحة في تعقيد الأمور أمامنا”.
فسألته كيف ذلك، ما الذي فعله الإيرانيون لتعقيد الأمور؟ أجاب “عندما كنت هناك، كان الإيرانيون هادئين للغاية، ربما كانوا يساعدون أو يشجعون السوريين. معظم الإرهابيين القادمين كانوا يأتون من ليبيا عبر سوريا”.
حلّ حزب البعث
المرسوم الثاني الذي أصدره بول بريمر خلال فترة حكمه في العراق كان حلّ حزب البعث، الذي شبّهه كثيرون بالإجراءات التي اتخذتها الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا في ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية، عندما حلّت الحزب النازي، وأرادت أن تطبق ذلك في العراق على حزب البعث، وتسمع بعض العراقيين يقولون “الحمد لله أن الولايات المتحدة لم تغيّر العلم العراقي”. بعد حلّ الحزب انتشرت معلومات بأن معظم أعضائه وبخاصة من كانوا في مناصب عالية، عادوا إلى منازلهم وبدأوا القتال ضد الأميركيين، وحتى ضد شعبهم. وأفضل مثال على ذلك عزت الدوري أو كما كان يعرف خلال حكم صدام “الرجل البعثي الثاني” وغيره، ممن أنشأوا مجموعاتهم الخاصة وحاولوا الهجوم. فعلياً هل كان حلّ حزب البعث مفيداً؟ وألم يكن من الأفضل تحويله إلى حزب سياسي؟ هذا ما طرحته على بريمر الذي بدأ بالحديث عن شقّ الإرهابيين أو إنشاء مجموعات إرهابية قائلاً إنه لا يستبعد أن يكون ذلك قد حدث، وإنها نظرية واردة لكنه لا يملك عليها أدلة، ولا حتى معلومة استخباراتية. وأضاف “كبار أعضاء حزب البعث من أبرز الوزراء ونواب الوزراء غادر معظمهم عندما وصلت إلى هناك، بحسب علمنا غادروا البلاد ولم أسمع قط عن أيّ شخص منهم شارك في القتال ضد الأميركيين. قد يقول البعض ذلك، أين الدليل”؟
GettyImages-737872.jpg
الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين خلال جلسة لأعضاء نظامه (غيتي)
وأضاف “إن كان صحيحاً أن بعض أعضاء حزب البعث تحولوا إلى مقاتلين ضد شعبهم والقوات الأميركية، فمكانهم الصحيح ليس في الحكم”. وأصرّ على أنهم كانوا أحراراً بالعمل وفتح المتاجر وبيع السيارات المستوردة من الأردن. وأن الآلاف منهم تحولوا إلى مواطنين يحترمون القانون، ما كان ممنوعاً عليهم فقط هو العمل في الحكومة.
وبالعودة إلى حلّ حزب البعث بدأ بريمر إجابته مقارناً النازية بالبعث “تأسّس حزب البعث العراقي، بعد الحرب العالمية الثانية بناءً على مبادئ النازيين، لذلك علق في أذهان الناس انعكاس الفلسفة النازية التي كانت موجودة في حزب البعث السوري، وما زلنا نرى ذلك هناك وفي العراق”.
قرار حلّ الحزب، أو طرد كبار الأعضاء فيه، بحسب ما قال بريمر اتُخِذ بناءً على توصية من آلاف العراقيين في لندن وأوروبا وواشنطن وفي كل مكان. من تحدثتْ معهم وزارة الخارجية في العامين 2001 و2002 أعدوا دراسة بعنوان “مستقبل العراق”، وكانت الفكرة الرئيسة للدراسة “لا مكان في العراق بعد صدام لحزب البعث”.
وتابع “حزب البعث لم يكن بالتأكيد حزباً ذا شعبية، لذلك أخذت الحكومة الأميركية ذلك كدليل من العراقيين وقررت أن تتبع نموذج حلّ الحزب النازي، ولكن على مستوى أكثر اعتدالاً وبطريقتين. أولاً وقبل كل شيء، تطبيق اجتثاث البعث طال فقط 1 في المئة من الأعضاء الأعلى شأناً في الحزب، أي 20 ألف شخص تأثروا باجتثاثه. ولوضع الأمور في منظورها الصحيح، كان حزب البعث يتألف من مليوني عضو، من أصل 27 مليون عراقي، ولم يمثل سوى 10 في المئة من الشعب العراقي”. ولم يعتبر بريمر أن ما حصل كان عملية إزالة وطنية شاملة كما كانت في ألمانيا عام 1945.
وعاد بريمر ليقارن بين ما حدث مع حزب البعث في العراق وبين النازية، وقال إن الولايات المتحدة لم تقيّد عمل أعضاء الحزب بعد حلّه، وهذا عكس ما حصل مع الحزب النازي في ألمانيا، بل سمحت لهم في العراق بالعمل وأضاف “كان بإمكانهم تأسيس صحف، كان هناك 100 صحيفة بعد 3 أسابيع من وجودي هناك، وكان بإمكانهم فتح محطات تلفزيونية وإذاعات، وإنشاء متاجر في الشارع لبيع الأجهزة، وهذا ما فعله الكثيرون. إضافة إلى ذلك، 800 ألف نازي أودعوا في السجون في ألمانيا ومُنع أعضاء الحزب النازي من لعب أي دور في الاقتصاد، أما نحن فلم نسجن أحداً”.
GettyImages-2090097.jpg
بول بريمر أثناء زيارته إلى مدينة الحلة في 8 يونيو 2003 (غيتي)
الخائفون من واشنطن والفراغ الكبير!
وجهتا نظر سادتا بعد حلّ حزب البعث، اعتبرت أُولاهما أن من كانوا في السلطة خلال حكم صدام حسين خائفون من الظهور والمشاركة في أي نشاط سياسي، والثانية أن حلّ الجيش العراقي، وحزب البعث، أحدث فراغاً كبيراً في العراق، وحوّله، على عكس ما كانت تخطط له الولايات المتحدة، إلى دولة طائفية وليس ديمقراطية. ولدى سؤاله عن رأيه في هذا الكلام، أجاب بريمر “العراق دولة طائفية منذ ألف سنة، لم تصبح أكثر طائفية مما كانت عليه خلال حكم العثمانيين أو الهاشميين أو البعثيين. العراق دولة حكمها السُنة منذ ألف سنة، ولم يكن الأمر مقتصراً على فترة حكم صدام. وحتى لو حكمها الشيعة منذ ألف سنة لما كانت لتكون مختلفة”.
ماذا حصل بعد حل حزب البعث؟
كيف غيّر حل حزب البعث العراق، وما الذي حصل بعد أن خرجت البلاد عن سيطرة صدام حسين؟ كلها تساؤلات كانت مطروحة أثناء التحضير للمقابلة مع بول بريمر مع ما يقوم به “الحشد الشعبي” اليوم هناك، وهل كان في الوارد حصوله لو كان العراق لا يزال تحت حكم صدام حسين؟ قاسم سليماني قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، يدخل إلى البلاد ويخرج منها، ويخزّن الصواريخ من دون حسيب ولا رقيب، والقوات الأميركية موجودة في العراق. كل هذه تغييرات سياسية وديموغرافية أسهم بإحداثها حلّ حزب البعث ولم يتمكن أحد من إصلاحها فما كان رأي بول بريمر بهذا الكلام؟
أجاب بريمر منطلقاً من القرارين الأساسيين اللذين اتخذهما (حلّ الجيش وحزب البعث)، وما قصدته الولايات المتحدة من خلالهما، وقال “ذكرت في قرار حلّ الجيش أن الجيش العراقي لعب دوراً مهماً في تاريخ البلاد، وأن الولايات المتحدة تتطلّع للعمل مع الجيش العراقي الجديد لتقديم المستوى نفسه من الخدمات” وأضاف “لا أعتقد أن هناك جدلاً حول صحة القرار الذي اتخذناه في ذلك الوقت، لقد كان قراراً مناسباً، وانتهى بتأسيس جيش تمكّن من هزيمة “القاعدة” مرتين في العراق”.
GettyImages-495447434.jpg
بول بريمر أثناء حضوره في جلسة لمجلس الحكم الانتقالي (أ.ف.ب)
حلّ حزب البعث لم يأتِ اعتباطاً بل اتخذ عن دراسة عميقة ودقيقة، الأميركيون بحسب بريمر أرادوا تسليم الحكم للعراقيين بعد حلّ الحزب، وليس السيطرة على الحكم كما يظن البعض، هكذا أتى الشق الأول من إجابته وأضاف “عندما أصدرتُ قراري قلت في تصريح علني، إننا في التحالف، لن نستطيع أن نفرق ما إذا كان أعضاء حزب البعث انضموا إليه لأنهم آمنوا بأيديولوجيته، أو لأنهم كانوا مجبرين على القيام بذلك”.
الخطأ الثاني الذي اعترف بول بريمر بأنه ارتكبه هو تسليم الحكم للسياسيين العراقيين الذين أساؤوا تطبيق المرسوم الذي أصدره على الرغم من إيمانه بصحة القرار الذي اتخذه بحلّ حزب البعث. لكنه يعتبر أنه كان من الأفضل اللجوء إلى القضاة وتشكيل لجنة منهم للنظر في الأمور. قال بريمر متابعاً الإجابة “السياسيون أخطأوا في تفاصيل تنفيذ المرسوم وذهبوا فيه إلى أبعد مما كان يجب، ولكن في ذلك الوقت كان مجلس الحكم يضغط للحصول على صلاحيات أكبر، “استغرق الأمر 5 أشهر لنعرف نحن والعراقيون كيف نحقق ذلك”. تسلم السياسيون الحكم وأطلقوا على المجلس “مجلس اجتثاث البعث” برئاسة العراقيين”.
استطرد بريمر في حديثه عن القضاة وربط ذلك بالوحشية التي كان يمارسها صدام خلال حكمه وقال “القضاة العراقيون لم يكونوا متأثرين بالسياسة لأن صدام لم يلجأ إلى المحاكم لمحاسبة أي إنسان أراد معاقبته فبقي القضاء بعيداً من الحسابات السياسية إلى حد بعيد” وتابع “صدام لم يستخدم المحاكم، عندما كان يريد قتل أحد، كان ببساطة يسلّمه لأي مفوض عسكري”.
وأضاف حول الخطأ الذي ارتكبه بتسليم السلطة إلى السياسيين العراقيين “كان لدى العراقيين مستوى عال في دراسة القانون، مثل المصريين وذلك منذ العشرينيات بشكل خاص خلال فترة الاستعمار البريطاني، لديهم محامون وقضاة جيدون”.
وتابع بريمر حديثه مفصلاً وضع القضاة خلال فترة حكم صدام حسين للعراق، ويبدو أن الوضع كان من الأمور التي أثارت إعجاب الحاكم المدني الأميركي إذ أطال حديثه في هذا الإطار “عندما وصلتُ إلى العراق كان هناك 900 قاض، طلبت من المستشارين الاطلاع على ملفاتهم جميعاً وتبيّن حينها أن حوالى 613 قاضياً منهم ملفاتهم نظيفة تماماً، ولم يكونوا على اتصال مع صدام. ما كان يجب أن أفعله هو إنشاء مجموعة من القضاة، وإعطاؤهم مسؤولية التعامل مع هذا النوع من القضايا حول ما إذا كان أيّ شخص مناسباً للعب دور في الاقتصاد أو أيّ دور آخر”.
تصفية الحسابات القديمة تجاه البعثيين
ذهب كثير من الساسة العراقيين كما يقول بريمر إلى أبعد مما تم الاتفاق عليه في مرسوم حلّ حزب البعث، ومطاردة كل من انتمى إلى الحزب أو أيده. يقول السفير في حديثه “بعد دخولنا بحوالى 6 أو 7 أشهر، خسر11 ألف أستاذ جامعي وظائفهم، هذا ما علمته من وزير التربية، وذلك بسبب القرارات التي اتخذها مجلس اجتثاث البعث، لذا كان عليّ سحب الصلاحيات من السياسيين”.
وتابعت سؤالي من دون الخروج من إطار حديثه قائلاً: لكن هذا الخطأ أدى إلى خسارة الكثيرين وظائفهم، وأخافَ آخرين من المشاركة في الحكومة مجدداً فكيف تقيّم هذا الأمر؟ بول بريمر وخلال لقائي معه أصرّ دائماً على أنه يتحمّل مسؤولية الفترة التي أمضاها في العراق فقط، وقال إنه آنذاك أعاد 11 ألف أستاذ إلى وظائفهم في مارس أو أبريل من العام 2004. ولم يوافق أبداً على أن الولايات المتحدة حاولت إقصاء أعضاء حزب البعث بعد حلّه أو الحدّ من فرص عملهم.
الاستثناءات طبعاً كانت موجودة ومذكورة في بنود مرسوم حلّ حزب البعث بحسب ما قال بريمر الذي احتفظ لنفسه في بند بالمقطع الأخير بحقّ القيام باستثناءات في حال تطلّب الأمر ذلك. وهذا فعلاً ما حدث مراراً وكانت إحداها عندما نصحه مستشاروه بإبقاء موظف في شركة الكهرباء لا يمكن الاستغناء عنه، لأنه يعلم تفاصيل تقنية تشغيل أبراج نقل الـ 400 كيلوواط. “وافقت على الكثير من الاستثناءات لإبقاء الناس في وظائفهم لأنهم بحاجة إليها”.
ديمقراطية العراق
في خضمّ الحديث عن المرسوم وحلّ الحزب والجيش وتبعات القرارين المصيريين في تاريخ العراق، لا بد من أن نطرح سؤالاً عن ذنب من نفذوا وأطاعوا قرارات صدام خلال فترة حكمه، فهو لم يكن يترك لهم رفاهية الاختيار. كان ديكتاتوراً يطيعه الجميع خوفاً من أن يقتلهم أو يعذبهم. سؤالي هنا لمَ على هؤلاء الأشخاص الذين لم يكن لهم أيّ ذنب أن يدفعوا الثمن؟
عاد بريمر في إجابته إلى أن العراقيين الذين تواصلت معهم الخارجية الأميركية مدة سنتين سبقتا غزو العراق، هم أصحاب فكرة حلّ حزب البعث وأصدروا تقاريرهم التي أُطلق عليها اسم “مستقبل العراق”. كانت هذه توصية من الشعب العراقي.
يقول مدافعاً عن مرحلة ما بعد الغزو وحال العراق اليوم “ببساطة قد تكون أفكار بعض هؤلاء الذين شاركوا بالقرار انتقامية من صدام أو حزبه، وقد استشففت من الحديث أن وكالة الاستخبارات الأميركية وغيرها لم تتحقق من خلفيات وشخصيات هؤلاء العراقيين”، فسألته ومن كانوا هؤلاء الأشخاص؟ فأجاب “لا أعلم من كانوا، لقد تكلموا مع الآلاف منهم وبالتأكيد كان بينهم سنة وشيعة وأكراد وازيديون ومسيحيون وتركمان. لقد تحدثوا إلى الجميع”.
يعتبر بول بريمر أن العراق هو الدولة العربية الوحيدة باستثناء تونس (التي أجرت أول انتخابات في العام 2011) التي شهدت 4 انتخابات برلمانية قبل الربيع العربي، بحسب قوله.
هذه كانت إجابته عندما سألته “قلت إنك ستحوّل العراق إلى دولة ديمقراطية. هل ترى ذلك اليوم في العراق، على الرغم من أن الكثيرين لا يرونه؟ أجاب “العراقيون أجروا انتخابات حكومية للمقاطعات مرتين، أجروا استفتاء على الدستور الذي كتبوه وأقروه بأنفسهم، كما أنه ومع وصول عادل عبد المهدي إلى رئاسة الوزراء في العام الماضي يكون العراق قد حقّق الانتقال السلمي الخامس على التوالي بشكل سلمي”. وأضاف “وهذا لم يحصل أبداً في أيّ دولة عربية”.
دخلت في تفاصيل هذا السؤال، فلا يمكننا أن نجزم بأن الديمقراطية تتمثل دائماً في الانتخابات أو التصويت، والتركيبة الطائفية للحكومة العراقية الحالية واضحة للجميع. نوري المالكي تم إبعاده بالانتخابات أكثر من مرة، ولكنه يعود دائماً. وعندما كان على شفير أن يخسر كل شيء هدّد بميليشياته بأنه سيعود إلى الحكم. وسألته أين يرى ديمقراطية في تلك التركيبة التي يلعب السيستاني فيها دوراً أساسياً، وحيث يعتبر قاسم سليماني حاكم العراق الحقيقي. فأجاب “لا أعتقد أن هناك ديمقراطية مطلقة في أي مكان في العالم، حتى هنا (الولايات المتحدة)”. هكذا أجاب بريمر الذي لا يعتبر الوضع جيداً في العراق إلى حد كبير، ويُرجع ذلك إلى كون الولايات المتحدة قلّلت اهتمامها في المنطقة، خصوصاً خلال فترة حكم الرئيس باراك أوباما الذي سحب القوات الأميركية من العراق عام 2011، واستمرار هذه الحال مع الرئيس دونالد ترمب. وأضاف “هذه المنطقة تتصادم فيها مصالح 3 إمبراطوريات قديمة هي الفارسية والروسية والتركية، ونحن نرى ذلك في سوريا والعراق وغيرهما.
انسحاب الجيش الأميركي من العراق
الانسحاب الأميركي خطأ فادح للسياسة الخارجية الأميركية، بحسب بريمر الذي تابع قائلاً “لست أدافع عن الوضع هناك الآن، ولكن ما أقوله هو أنه في العامين 2003 و2004 كانت وظيفتنا مساعدة العراقيين على استعادة اقتصادهم وحياتهم السياسية، وأن يحصلوا على تمثيل في الحكومة، ونحن قمنا بذلك وهم تبعوا هذا الطريق، لا يستطيع أحد أن يعلم ما إذا كانوا سيستمرون فيه للأبد”.
بعد كل ما ورد عن حلّ الجيش العراقي، والانتقالات السلمية للحكم في العراق، سألت بريمر “برأيك كيف سيتمكن العراقيون من الدفاع عن بلدهم من دون الاعتماد أو تدخّل جهات خارجية أياً كانت، وما هي الطريقة المثلى لتوحيد “الحشد الشعبي” والجيش العراقي تحت راية جيش واحد يدافع عن بلاده؟” فأجاب “الإيرانيون تمكنوا من بناء قاعدة مؤثرة داخل العراق، ومن ضمنها “الحشد الشعبي” “فلا يختلف اثنان على أن ما يحصل هناك منذ العام 2011 يسير بالاتجاه الخاطئ على صعيد المصالح الأميركية وكذلك العراقية وغيرها من الدول غير الفارسية في المنطقة”.
وأضاف “رئيس الوزراء العراقي الحالي عادل عبد المهدي حاول وضع “الحشد الشعبي” تحت القيادة المركزية، ولقد كنا في الموقف نفسه أثناء وجودنا هناك، كل ميليشيا يجب أن توضع تحت الإدارة المركزية. إيران لديها سليماني وهو لاعب مهم من دون شك وهذا أمر سيّء”. تابع بريمر قائلاً “إن ما يتطلبه إصلاح الوضع هناك هو حكومة غير طائفية وتفرّد باستخدام القوة تحت سيطرة الحكومة المركزية، وقد تسهم المساعدة الأميركية في تحسين الوضع هناك من خلال العمل مع شعبة مكافحة الإرهاب ومع أقسام أخرى لتمكين الجيش العراقي وإرساء الأمن. هذا ما يجب أن يكون عليه الهدف الأميركي”.
وفي ختام الإجابة عن سؤالي تطرّق إلى الحديث عن الهجمات التي نفذتها إيران على منشأتي أرامكو السعودية في بقيق وخريص بواسطة طائرات درون وقال “هناك أيضاً الهجوم الإيراني على حقول النفط (الذي حدث 14 سبتمبر (أيلول) المنصرم) لا يزال يتعين التعامل معه بطريقة ما وسنرى ما يحدث”. وسنعود إلى هذا الملف لاحقاً ضمن المقابلة.
التمدد الإيراني في المنطقة
تحدث بريمر في الملفات السابقة عن الوجود الإيراني في العراق من خلال “الحشد الشعبي” والتعاون الإيراني مع سوريا لإدخال إرهابيين، فسألته عن رأيه إذا كان لحل الجيش العراقي وتفكّك حكومته واجتثاث حزب البعث علاقة بظهور إيران بشكل أوضح في العراق؟ أجاب “لم يكن بالضرورة أن تترك هذه الإجراءات هذه النتائج”، ولكن برأيه الوجود الأميركي في العراق كان صلباً حتى العام 2011 مع العلم أنّ التأثير الإيراني كان أكبر مقارنة بعهد صدام. وقرار انسحاب القوات الأميركية من العراق الذي اتخذه الرئيس باراك أوباما كان بداية اتخاذ الأمور المنحى الخاطئ. هنا كمنت المشكلة التي أتت بـ “داعش”.
وعلى الرغم من أن بريمر يعتبر أن الخطأ خطأ أوباما، إلا أنه لا يلقي باللوم عليه وحده وقال “في العام 2003 كتبت بأننا لا نملك العدد الكافي من القوات وأننا لا نملك الإستراتيجية المطلوبة. الرئيس جورج بوش استغرق وقتاً طويلاً ليدرك هذه التفاصيل”. وأضاف “في نهاية العام 2006 قام الرئيس بوش بطرد دونالد رامسفيلد وزير الدفاع، وقرر زيادة عدد القوات، الأمر استغرق عامين ثم تمكّنا من القيام بذلك، ومن هزيمة “القاعدة” في العام 2009″.
يشبّه بول بريمر طريقة تصرف إيران اليوم في منطقة الشرق الأوسط بالمخطط الفارسي إذ يعتبر حلم كل فارسي هو (اسطورة) زيركسيس وسيروس اللذين ذهبا إلى البحر المتوسط ثم حاولا مهاجمة اليونان. من هذا المنطلق أجاب عن سؤالي الذي طرحته عليه هل عارضت إيران الوجود الأميركي في العراق في البداية ولاحقاً؟ ومحاولاتها لزعزعة استقرار البلاد بهدف إخراج الولايات المتحدة؟ فأجاب “أثناء وجودي في العراق، كان الإيرانيون غائبين باستثناء بعض الأوقات كانوا يظهرون بين الحين والآخر. الفرس شكلوا إمبراطورية على مدى ثلاثة آلاف عام، بغض النظر عمّن يوجد في طهران، إنهم من الفرس، وهم يفكرون بالسيطرة على المنطقة الواقعة بين البحر الأبيض المتوسط ونهر السند، هكذا يفكر الفرس”. هكذا حلل بريمر السلوك الإيراني وأضاف “وأنا متأكد أنهم عندما وجدوا أننا نواجه المتاعب في العراق في عامي 2005 و2006، عندما غيّر بوش السياسة استغلوا الفرصة للتسبب بالمشاكل. وهم مستمرون بإثارة المتاعب منذ ذلك الحين”.
أما عما قد يزيد من خطورة إيران، أو ما الذي من المحتمل أن يجعلها أقوى في المنطقة الآن فجزم بريمر بأنها تضرّرت بشدة من العقوبات الاقتصادية، فلا يمكن أن يكون اقتصادها مصدر قوتها. ولكن ذلك برأيه يجعلها أكثر خطورة. وأضاف “أعتقد أن ما يجعلهم أقوياء هو قدرتهم على ممارسة النفوذ من العراق عبر سوريا إلى لبنان. هذا يقودهم إلى البحر الأبيض المتوسط وهذا ما يريدونه، هم يسعون إلى الهيمنة من هضبة فارس إلى البحر الأبيض المتوسط”.
5
عرف العراق خلال فترة مهمة بول بريمر تطورات كان لها الأثر في مستقبل البلد
قرارات أوباما وسحب القوات
يقال إن الرئيس باراك أوباما الذي تمّ في عهده التوقيع على الاتفاق النووي الإيراني، كان كثير التنسيق مع الإيرانيين في الملفات الثنائية، حتى أن المعلومات في عهده أشارت إلى أن القرار الذي اتخذه بسحب الجيش الأميركي من العراق عام 2011 كان نوعاً من التنسيق بين الطرفين، ولكن أوباما كان له كلام آخر وحجج أخرى.
بريمر لم يلغِ وجود هذه الاحتمالية، ولكنه يقول إنه لا يملك دليلاً على ذلك، وعلى الرغم من عدم معرفته بحسب قوله متى بدأت المحادثات غير الرسمية، ولكنه يعتبر أن أوباما كان حريصاً على التحدث مع إيران. “من الصعب أن نشرح انسحابه بناء على ما كان يقوله، ما قاله أوباما هو أنه كان ينسحب لأن العراقيين رفضوا منحنا “اتفاقية وضع القوات” (SOFA) وهذا غير صحيح”. بريمر روى في إجابته عن سؤالي أن المالكي أتى إلى الولايات المتحدة في أكتوبر (تشرين أول) أو نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 2011، والتقى بأوباما وأخبره أنه مستعد لتوقيع الاتفاقية. ويتابع “أوضحنا له أنه يجب عليه الحصول عليها من خلال البرلمان، وليس بتوقيع من رئيس الوزراء، لقد قلت ذلك عندما سئلت عنه، كان لدينا اتفاقية مع حوالى 86 دولة منذ عام 1945، إنها اتفاقية لحماية جنودنا من أن يكونوا عرضة للمحاكمة بحسب القوانين المحلية للدولة التي يوجدون فيها، باستثناء جرائم العنف وبحسب علمي، لم نخبر أيّ بلد مضيف أبداً بالإجراءات التي يجب أن يتخذها للموافقة على الاتفاقية، باستثناء المالكي الذي قلنا له إنه لا يجب على رئيس الوزراء التوقيع عليها، ويجب أن تذهب إلى البرلمان. وضع البرلمان كان واضحاً لأي شخص ينظر إليه. لقد بدا الأمر وكأنه ذريعة لسحب القوات”.
وأضفت إلى سؤالي السابق معلومات أخرى تقول إن الانسحاب كان هدية من أوباما إلى إيران، فأجاب “حسناً، ما أنا متأكد منه أنها كانت هدية لداعش. المستفيد المباشر هو تنظيم داعش، والإيرانيون ليسوا من المعجبين بداعش كما نعلم، لكن التأثير النهائي كان منح إيران حيزاً أكبر من حرية التصرف”.
سجن أبو غريب
سجن أبو غريب، السجن الذي استخدمته قوات التحالف في العراق، وشهد أنواع تعذيب عديدة تسبّبت بالذعر للعالم بأجمعه خصوصاً بعد انتشار صور عنها. السجن كان تحت إدارة أميركية خلال تلك الفترة، وكان لا بد لي أن أوجه سؤالاً لبول بريمر عن مصير من كانوا مسؤولين عنه، وما الذي حلّ بهم ولمَ لم تتم محاكمتهم؟ ومن كان وراء ما حصل في زنزانات أبو غريب؟ وتابعت سؤالي بشقه الثاني عن رأيه بمن قالوا إن سجن أبو غريب يمثل الديمقراطية التي تريدها الولايات المتحدة في المنطقة.
لم يخفِ بريمر استياءه من ملف سجن أبو غريب وعبّر عن أسفه لما كان يحصل فيه، ووصفه بالأمر المروّع وتابع “أنا لم أكن أملك أي سلطة على سجن أبو غريب، لقد كانت وحدة حرس وطني، ومن الواضح أن الأمر كان بغاية السوء”. وأضاف “قائدة السجن فقدت وظيفتها وطُردت ثم أُحيلت على التقاعد. لقد كانت وحدة عسكرية سيئة للغاية. وما فعلوه لا يغتفر. لم أكن أعرف شيئاً عن الموضوع حتى انتشاره”. أما الشقّ الثاني من سؤالي فاستفزّ بريمر بقوة ودفعه للإجابة قائلاً “من الذي قال ذلك؟ أيّ شخص يعرف شيئاً عن الولايات المتحدة، وأيّ شخص علم بمدى الرعب الذي شعر به الجميع في هذا البلد بسبب ما قام به هؤلاء الأشخاص، لا يملك الحق في أن يقول إن ذلك يمثل أميركا. هذا غير منطقي. وأياً كان من يعتقد بأن هذا ما أردناه فهو مخطئ تماماً، عليهم الاطلاع أكثر على تاريخ أميركا”. قلت له “لم يقولوا إنه يمثل أميركا، يقولون هل هذه هي الديموقراطية وحقوق الإنسان التي يراد استبدال حقبة صدام بها”؟ ردّ غاضباً “هذا هراء… لا يمكن قبول هذا الحديث”.
تابعت سؤالي هل تعتقد أن طرد من قاموا بالتعذيب والصعق الكهربائي بحق مدنيين عراقيين وتعليقهم هو عقاب كافٍ لهم؟ فأجاب “أنا لست قاضياً عسكرياً. لقد خضعوا للمحاكمة وللإجراءات التي اتخذها القضاء العسكري، القائدة أقيلت وخسرت رتبتها، لا أعلم ما حلّ بالباقين”.
تساؤلات عن الأحداث الأخيرة: رؤية المنطقة والهجوم على أرامكو
عدنا إلى الحديث عن الضربة التي وجهتها إيران إلى منشأتي أرامكو السعودية التي ذكرها سابقاً، وسألته هل سيؤثر برأيك هجوم أرامكو في إيران؟ فتوسع بإجابته “يعتمد ذلك على ردود الفعل، الضربة تحتاج إلى رد، وهذا ما سيؤثر في إيران. وإن لم يتم الرد عليها فالأمر سيتكرر وتخرج الأمور عن السيطرة. أقترح الرد بهجوم دقيق محدود الحجم ومدروس بعناية شديدة يتم توجيهه ضد بعض مصافي التكرير الإيرانية أو أيّ رصيف شحن متعلّق بصادراتها النفطية”. وأضاف بريمر أن على السعودية قيادة هذا الهجوم، لأن منشآتها هي التي تعرضت للأذى من الإيرانيين.
بعد اقتراحه الذي قدمه والذي من وجهة نظره سيؤثر في إيران المتعبة اقتصادياً سألته “برأيك هل سيحصل ذلك”؟ فأجاب أن لديه شكوكاً حول هذا الأمر “لا أشعر بالارتياب من السعوديين بل من الإدارة الأميركية، بحوزة ترمب الآن مواقف بريطانيا وألمانيا وفرنسا التي اتفقت على أنّ إيران تقف وراء الهجوم. يعد وجود حلفاء أوروبيين يتفقون مع الاستخبارات مسألة غاية في الأهمية”.
بعد الحديث عن الضربة وعن الحلول التي من الممكن طرحها سألت بريمر إن كان يرى حرباً مقبلة بين الدولتين كل واحدة مع حلفائها. فأجاب “لا أستبعد احتمال نشوب الحرب واعتبره موجوداً، ولكن أعتقد أنه من المفارقات أن هذه الفرصة تتراجع. إذا استطعنا القيام بهجوم موجه على بعض مصافي التكرير أو ميناء شحن إيراني، لإرسال إشارة إلى الإيرانيين بأنهم لن يفلتوا بعد هذا النوع من الهجمات، ننفذه ثم نتجه إلى السويسريين الذي يمثلوننا في طهران ونعرب عن الاستعداد للحديث، ونقول إنه من الأفضل أن نبدأ بالمحادثات هنا وإلا ستتطور الأمور إلى الأصعب”.
تتوسع إيران بشكل واضح في دول الشرق الأوسط من خلال أذرعها المتعددة فتبرز في لبنان من خلال حزب الله وفي العراق عبر “الحشد الشعبي” والحوثيين الذين يمثلونها في اليمن وغيرها من النشاطات في سوريا ودول أخرى. سألت بول بريمر ما هي الاحتمالات التي يراها بأن تنسحب إيران من المنطقة فأجاب عن كل دولة على حدة وقال “أستبعد أن تقوم إيران بذلك. لا أظنّ أنّها ستسحب قواتها، على الرغم من انتشار إشاعات في الإعلام عن وجود سبيل لتخفيف التوتر الذي نتج من الاستهداف الإيراني لمنشأتي النفط من خلال اتفاق جانبي مع الحوثيين، حيث تقلص إيران دعمها لهم مقابل إعلان السعودية وقف العمليات العسكرية”. ولكنه لم يستبعد حصول تغيرات في اليمن، حيث تعتبر الصفقات مع الحوثيين أمراً غير مستحيل وقال “هم أدوات للإيرانيين الذين على الأرجح لا يحبونهم كثيراً”.
وعن لبنان قال بريمر “انخراط حزب الله في الحكم بلبنان يعزز الوجود الإيراني هناك، لن يغادروا لبنان تحت أي ظرف من الظروف، لقد انخرطوا في الهيكل السياسي، وعززوه بشكل واضح وأعادوا تسليحه على جبهة الليطاني، وهم يلبِسون عناصر حزب الله بزة الجيش السوري للتوجه إلى هضبة الجولان. الإيرانيون يتدخلون وسيواصلون التدخل في لبنان وسوريا، ومن الواضح أن هذا يشكل تهديداً وحسابات خاطئة وخاصة بالنسبة إلى إسرائيل التي تمر بفترة تشكيل الحكومة الآن وقد يكون هذا الأمر مشكلة هناك”.
أما عن الأسباب التي تُبقي إيران في سوريا فاعتبر بريمر أن انتهاء الوجود مستبعد ما لم يكن هناك نوع من التسوية، وهو أمر غير مرجح بنسبة عالية، مغادرة سوريا لا تصب في مصلحة الإيرانيين لأنها الطريق لامتلاك جسر بري لنقل المواد عبر العراق ثم سوريا إلى لبنان. وأضاف “سوف يستمر الروس والأتراك والسوريون في المحادثات ومحاولة الظهور بشكل مقبول”.
الأكراد وتركيا
لطالما كان الأكراد حلفاء الولايات المتحدة الأميركية، والتعاون بينهما ليس وليد اللحظة بل مستمر منذ سنوات، المجزرة التي ارتكبها صدام بحق الأكراد والإبادة الجماعية التي تعرضوا لها بالأسلحة الكيماوية على يده، أكسبتهم تعاطفاً دولياً على صعيد واسع ووجهت أنظار العالم نحوهم وقطعت الولايات المتحدة، وعداً بأن تكون لهم دولتهم المستقلة، ولكن حتى الآن لم يستقّل الأكراد، سألت بريمر إن كان يعتقد بأن أميركا ستصل يوماً إلى الإيفاء بوعدها؟ فأجاب أنه غير متفائل من هذه الناحية خصوصاً أن استمرار ما يحصل يخدم إلى حد بعيد الروس والمصالح التركية وبالتأكيد الإيرانية، وقال “لا أعرف الإجابة حول الوضع الكردي، أعتقد أن الأمر سيعتمد على كيفية انتهاء الأمور مع الأكراد، ومع السوريين التركمان خصوصاً في محيط منطقة الإسكندرونة”. برأي بريمر يمكن القول إن على الولايات المتحدة أن تحاول إقناع حزب العمال الكردستاني بالعودة إلى المفاوضات مع أردوغان، لتحقيق المراد الكردي. المشكلة برأيه هي أنهم فعلوا ذلك في السابق ولكن أردوغان خانهم وأوقف المفاوضات عندما لم تعد تعجبه.
وأضاف “سيكون من الأفضل الحصول على حلّ تفاوضي من أكراد سوريا والتي هي أيضاً منطقة كردية تركية، لكنني لست متفائلاً جداً بهذا الأمر”.
تركيا الدولة العضو في حلف شمالي الأطلسي (الناتو) اشترت من روسيا مؤخراً معدات دفاع جوي متطورة، ورجحت تحليلات عديدة بعد الصفقات التركية الروسية أن تفرض واشنطن عقوبات على أنقرة، وفي الوقت نفسه يعتبر أردوغان الرافض الأول والأساسي لوجود الدولة الكردية أو قيامها، ما يضع الولايات المتحدة في مأزق التوفيق بين حليفها الكردي والزميل التركي في الناتو. سألت بريمر كيف يمكن لأميركا أن تفي بوعودها للأكراد مع الحفاظ على علاقاتها مع تركيا؟ فقال “سؤالك جيد، ولكنني لا أعرف الإجابة، برأيي يجب على الولايات المتحدة أن يساورها القلق وأن تتحدث بصراحة إلى أردوغان خلف الستارة وليس علناً”. وأضاف “قلنا لهم بالفعل إن شراء الصواريخ الروسية، يتعارض مع شراء طائراتنا من طراز f-35، ولن نرسل لهم الطائرات. ولكن الأمر يثير أيضاً تساؤلات في واشنطن حول القيمة التي توليها تركيا لعضوية الناتو، وبعد كل هذا يعني نحن ملزمون بالدفاع عن تركيا”. وأضاف “لو كنت أنا دبلوماسياً تركياً، فسأقول لأردوغان “أنت تعلم أن لدينا عدواً أكبر من الولايات المتحدة، وهي روسيا “هاك طالع التاريخ” استمر الصراع بين الأتراك والروس على مدى قرون، لذلك هناك جدل حول إمكان إقناع أردوغان بأن عليه أن يكون أكثر حرصاً حتى لا تفقد أميركا ثقتها في عضويته بالناتو. الأمر حساس للغاية وأنا لا أعرف”.
أردوغان والإدارة الأميركية
خلال الإجابة عن أسئلة عن الملف الكردي سرد لي بول بريمر بعض ما سمعه من أصدقاء ودبلوماسيين، عندما يتحدثون عن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وقال إنهم ينقسمون إلى فئتين “أحد أصدقائي وهو دبلوماسي أميركي سابق في تركيا، يقول إن أردوغان عثماني مستبد ولن يتغير، لقد بنى لنفسه قصراً بمليار دولار فيه أكثر من 500 غرفة. ثم هناك دبلوماسيون أميركيون آخرون يقولون إنه قابل لأن يكون منطقياً إذا استطعنا إيصال الرسالة إليه”.
وقال مستطرداً عن الإدارة الأميركية “المشكلة هي في أن الإدارة الحالية هنا ليست جيدة في تحديد إستراتيجيات التنفيذ. يعيّن الرئيس دونالد ترمب الآن رابع مستشار للأمن القومي، وهذا يعني غياب الاستمرارية. ولهذا السبب من الصعب الإجابة عن سؤالك حول الهجمات على حقل النفط. أنا فقط لا أعرف. لست متأكداً من أن أيّ شخص في الإدارة يعرف بمن فيهم الرئيس ربما”.
فتابعت وسألت لمَ هناك شكوك؟ لماذا لا يريد التحرك ضد تركيا وآخرين؟ بريمر يعتبر أن سياسة الإدارة الحالية غير واضحة ولا توجد وجهة نظر مستقرة. وقد شرح رأيه قائلاً “كنت دبلوماسياً محترفاً خدمت خلال فترة حكم 8 رؤساء من كلا الحزبين وهذا ما يفعله المحترفون، أنت تخدم الرئيس بغض النظر عن سياسته”. وأنا لست متأكداً من أن الرئيس يعرف ما يريده، هنا الصعوبة، والأمر نفسه ينطبق على أردوغان”.
وبعد الكلام عن الملفّين الكردي والتركي والعلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية خلص إلى أنه لا يعتقد أن الأكراد سيحصلون قريباً على دولة مستقلة.
عراق ما بعد صدام واليوم
في الفقرة الأخيرة من اللقاء مع بول بريمر طرحت أسئلة متفرقة عن رؤيته لما يحدث في المنطقة بشكل عام، وبدأت طالباً منه مقارنة عراق اليوم بعراق 2003 وعراق ما قبل صدام. برأي بريمر أصبح العراقيون أفضل حالاً اليوم مما كانوا عليه في عهد صدام حسين، فهم يختارون حكومتهم وفعلوا ذلك 5 مرات بسلام. وتابع “الناتج القومي للفرد الآن يعادل 6 أضعاف ما كان عليه قبل الحرب، عدا عن إنتاج الكهرباء والنفط الذي زاد ثلاثة أضعاف”.
وعلى الرغم من أنه يعتبر أن العراق تحسن كثيراً ولكنه ذكّر أيضاً بالمشاكل الحقيقية التي يعاني منها العراق على مستوى قوات الأمن التي لا تخضع لسيطرة الحكومة، والتي هي أساساً وحدات “الحشد الشعبي” المدعومة من إيران، ولمّح إلى ضرورة إعادة الانخراط الأميركي في العراق لحل هذه المشكلة وقال “عددهم 150 ألفاً، لذا هذه مشكلة حقيقية وتتطلب من وجهة نظري إعادة الانخراط الأميركي في العراق لضمان قدرة العراقيين على مواصلة التمتع بالاقتصاد والحرية السياسية اللذين ينعمون بهما. ليس واضحاً أن هذه الامتيازات ستستمر ما لم تعاود الولايات المتحدة الانخراط هناك”.
هناك نظرية رائجة إلى جانب الأخرى التي تقول إن أوباما نسّق مع الإيرانيين من خلال الاتفاق النووي والانسحاب من العراق، هناك من يقول أيضاً إن أوباما ارتكب خطأً كبيراً في المنطقة من خلال تمكين الإخوان المسلمين. فسألت بريمر هل تعتبر ذلك صحيحاً؟ فأجاب “لم نقف بوجه الإخوان المسلمين ولم نردعهم، لا أعلم إن كان ذلك يعني أننا حفّزناهم. من وجهة نظري، لن يفيد الإخوان المسلمون المصالح الأميركية خصوصاً في مصر. وعندما نتحدث عن الانسحاب، الإشارة الكافية كانت عندما رفض أوباما بشكل قاطع استخدام الأسلحة الكيماوية في سوريا، لكنه لم يتخذ أي إجراء لتحقيق ذلك، وكان هذا خطأ خطيراً جداً مثل سحب القوات من العراق”.