يعاود الحراك المطلبي في العراق اشتعاله، في مظاهرات شعبية هي الأضخم، منذ 2003، تتركز حول الفساد الحكومي، ويقودها شباب الأحياء الشيعية الفقيرة في بغداد والجنوب، أحياء عرفت بكونها من المعاقل الاجتماعية للتيار الصدري، الذي سبق أن نظم هذه المظاهرات لعدة سنوات سابقة، للاسباب المطلبية نفسها .
حسب أحد الإحصاءات، التي نشرها ناشطون عراقيون التقوا بعدد من جرحى الحراك في الموجة الأولى، فإن معظم جرحى المظاهرات لا ينتمون لأي جهة حزبية سياسية 75% منهم متزوجون ويعيلون عائلاتهم، وأغلبهم عاطلون عن العمل. 25% منهم من حملة البكالوريوس والبقية من حملة الشهادة الإعدادية، ما يؤشر لطبيعة هذه الشريحة السكانية الفقيرة والمظلومة اجتماعيا، وإذا استمررنا في عرض أرقام الإحصاء، بالتفصيل، ستكون كالتالي:
22% من جرحى المتظاهرين تحصيلهم بكالوريوس، 29% من جرحى المتظاهرين تحصيلهم الإعدادية. 17% من جرحى المتظاهرين دون الابتدائية. 76% من جرحى المتظاهرين متزوجون، 31% من جرحى المتظاهرين من المفسوخة عقودهم. 12% من جرحى المتظاهرين أصحاب البسطيات والعشوائيات. دراسة سابقة، كانت قد أشارت إلى أن ثلاثة عوامل رئيسية، زادت من الضغوط على الطبقة الفقيرة، حتى انفجرت ووصلنا لهذه المظاهرات الصاخبة على الحكومة اليوم:
*أولها، إلغاء عقود أكثر من 100 ألف منتسب أمني في وزارة الدفاع والحشد الشعبي، ممن لم تعد الأجهزة الأمنية بحاجة لهم، عقب انتهاء الحرب على تنظيم الدولة.
* ثاني العوامل التي أسهمت بتأجيج الاحتجاجات، هي هدم العشوائيات السكنية، وقد تضرر من هذا القرار مئات الآلاف من العائلات الفقيرة التي يصل عددها لثلاثة ملايين عراقي، يسكنون في نحو 3000 موقع عشوائي في العراق، بنيت بعد 2003، منها نحو ألف موقع في بغداد وحدها، وعلينا ان نتذكر هنا، أن أهم الأحياء المنتفضة على الفقر في بغداد، مدينة الصدر أو الثورة، وهي أصلا تكونت لساكني بيوت الطين والعشوائيات القادمين من الجنوب، الذين توافدوا على بغداد في اواخر الخمسينيات، ليقوم الرئيس العراقي السابق عبد الكريم قاسم بتنظيمها وتعميرها في مدينة أطلق عليها الثورة.
*العامل الثالث الذي زاد الضغوط على الشريحة الفقيرة، هو ملاحقة «البسطات» أي محلات البيع غير المرخصة في الشوارع والأحياء.
تبقى الأزمة العراقية الحالية تتعلق بآليات التغيير، فالمظاهرات والشارع تبقى وسيلة احتجاج وضغط فقط
وبالنظر لهذه العوامل الاقتصادية، فإن المتظاهرين يطالبون بكبح الفساد الهائل الذي تشتهر به الطبقة السياسية في العراق، وهم ثوار شيعة على حكومة يقودها الشيعة في بغداد، لذلك مثلت التظاهرات تحديا كبيرا لشرعية الأحزاب السياسية الحاكمة ،ولكن، ثمة معوقات قد تعترض طريق هذه الحركة الاحتجاجية وتضعف فرصها في تحقيق مكاسب في المحصلة، فالمتظاهرون مثلا لا يملكون لجنة أو فريقا يمثلهم، وحتى قبل ساعات من انطلاق مظاهرات الجمعة، نشب خلاف بين المتظاهرين حول نصب منصات للخطابة في ساحة التحرير في بغداد، وبحسب أحد التسجيلات، كان أحدهم يردد ( لا نريد أن تجير دماء الشهداء لجهة ما)، وهذا مثال، على عدم وجود ما يجمع عليه المتظاهرون. النقطة الثانية، أن سقف المطالب الذي ارتفع ليصل لإسقاط النظام السياسي والأحزاب الحاكمة، يبدو شعارا غير قابل للتطبيق، فمن الممكن مثلا استقالة رئيس الوزراء أو الحكومة، أو حتى تعديل الحكومة، أو حتى الدعوة لانتخابات مبكرة في أقصى الحالات، أما إسقاط النظام السياسي والأحزاب وتعيين حكومة عسكرية يقودها ضباط من نوعية الضابط الشهير الساعدي، فهو يبدو مطلبا حماسيا إنشائيا لا يرتكز لمشروع محدد ولا يقيم وزنا لشرعية الانتخابات، ولا يملك آلية محددة لتحقيق التغيير، ولا يملك الإجابة على سؤال اليوم التالي بعد إسقاط النظام، ثم ماذا؟
تبقى الأزمة الحالية تتعلق بآليات التغيير، فالمظاهرات والشارع تبقى وسيلة احتجاج وضغط، لكن من الصعب اعتبار انه من الممكن ان تحل المظاهرات، محل الانتخابات في منح الشرعية لأي نظام سياسي في الدولة الحديثة، ورغم الانتقادات الجمة التي تعرضت لها الانتخابات الأخيرة ونسبة المشاركة الضئيلة، والتزوير الذي لحق بأصوات عدة مناطق، خصوصا في المحافظات المنكوبة، حيث أغلبية العرب السنة، فإن سلسلة الاستحقاقات الانتخابية التي أجريت في العراق قبل الانتخابات الأخيرة، والممتدة لعام 2004، قد منحت شرعية شعبية، لقوى حزبية سياسية تتحكم في السلطة اليوم، ورغم بزوغ تيار حاول مقارعة الأحزاب التقليدية وهو «سائرون» بقيادة مقتدى الصدر، وحصوله على المركز الأول في العراق والمحافظات الشيعية، إلا أن أقرب منافسيه كان تيار الحشد الشعبي الممثل بقائمة «الفتح»، التي قادت مع الصدريين بالنهاية، اختيار الرئاسات الثلاثية الحالية للبرلمان والحكومة والجمهورية. وهكذا، لا يمكن قياس مدى تمثيل المظاهرات للمجتمع بشكل حاسم في السلطة، وإن بدا واضحا أن مطالب الإصلاح ومعاقبة الفاسدين تتفق عليها الأغلبية الساحقة من العراقيين، لكن من الصعب تشكيل سلطة جديدة بديلة عن القائمة حاليا بالاعتماد على الحركة الاحتجاجية وحدها، أو بالتعويل على أفكار يطرحها البعض مثل انقلاب أو حكم عسكري، يعيد البلاد إلى حقبة استبدادية جديدة ونزاعات أهلية أشد وأقسى، لا يدركها من يطرح هذه الأفكار، أما الخيارات المطروحة وفق الآلية الدستورية، فستكون أفضل، نتائجها هي الإعلان عن انتخابات مبكرة، لكنها قد تقود مجددا لنفق مسدود، إذا عادت وجلبت القوى الحزبية نفسها، أو أغلبها للسلطة من جديد.
القدس العربي