قبل صفقة القرن وبعدها

قبل صفقة القرن وبعدها

وحده التخريف في مسمّاها، صفقة القرن، كافٍ لكي لا تُؤخذ على محمل الجدّ، فضلاً عن انعدام السياسة في أيٍّ من بنود هذه الصفقة التي، والحق يُقال، نجحت ميديا الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في إشاعة بعض الترقّب لمعرفة تفاصيلها، سيّما وأن فائضاً من اللتّ والعجن ذاع بشأنها منذ أكثر من عام، من دون أن يتلطّف البيت الأبيض ويعلن مضامينها. وعندما يشيع رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي، نتنياهو، قبل أيام، إن صديقه ترامب سيبقّ البحصة، فيعلن عن هذه الصفقة، في لقائهما غداً الثلاثاء، فهذا يؤكّد المؤكّد، أن رئيس الولايات المتحدة قليل الاكتراث بصفقته، ولا يشغلُه أمرُها، وهو الذي لم ير، في أي يوم، ما بين الفلسطينيين والإسرائيليين شأناً ملحّاً. والبادي أنها حساباتٌ انتخابيةٌ وغير انتخابية تخصّ نتنياهو جعلت ترامب يفطن إلى أن في “صفقة القرن” ما قد يُسعف صديقَه هذا، بل وربما أيضاً ما قد ينفعه هو نفسُه، في واحد من مواضع حملته الانتخابية لولايةٍ ثانية له رئيساً. أما مضامين الصفقة هذه، فإن مطالعة ما نشرته عنها صحافاتٌ عبريةٌ تنبئ بأنها لا تتجاوز كثيراً المصادقة على ما هو قائمٌ ومتحقق، وعلى الذي تباشره سلطة الاحتلال في الأراضي الفلسطينية، وتُسانده قرارات إدارة ترامب، من قبيل تسمية القدس (الموحّدة) عاصمة لإسرائيل، وتشريع الاستيطان، وضم بعض الضفة الغربية إلى دولة إسرائيل التي تعترف واشنطن بها، في “الصفقة”، دولةً يهودية.
لا يستدعي إعلانُ البيت الأبيض كلاماً كهذا (ومثله كثيرٌ في الصفقة) غداً، أو في أي وقت، أي فزعٍ فلسطيني. ببساطةٍ، لأن خطط ضم أراضٍ فلسطينيةٍ إلى دولة الاحتلال، وبناء المجمعات الاستيطانية، والتهويد النشط في القدس، وإطلاق يد المحتلين في مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية، جارٍ تنفيذُه كل يوم، من دون حاجةٍ لمهرجانٍ إعلاميٍّ أميركيٍّ مصطنع. المُفزع هو الحال الفلسطيني البائس، بالانقسام إياه، وبتآكل الخطاب الوطني الجامع، وباهتراء المؤسّسية الفلسطينية الفاعلة، والعجز العام عن توليد خياراتٍ كفاحيةٍ، متعدّدة المستويات، في مواجهة الاحتلال وخططه وصفقاته. وينكتب هذا هنا مع التسليم بأن الموقف الذي اتّخذته الرئاسة الفلسطينية ضد خرافات صفقة القرن، مع جهرها برفض كل ما يصدر من إدارة ترامب في الموضوع الفلسطيني، كان له الأثر الأهم في بناء جدارٍ سياسيٍّ فلسطيني أمام أي انكشافٍ عربيٍّ يستجيب، في موضوعة صفقة القرن، للحسابات الأميركية والإسرائيلية، يمكن أن يزاوله أي نظام عربي، يرى في مسلكٍ كهذا يختارُه رصيداً له ينضاف إلى بيضاتِه التي وضعها مسبقاً في سلّة ترامب.
ظلّ المنظور المستحكم لدى كل من أقاموا في البيت الأبيض رؤساء للولايات المتحدة بشأن “التسوية في الشرق الأوسط” إسرائيلياً، ولكنْ بتنويعاتٍ تباينت بحسب موازين الفجوات في الخريطة الحزبية في الدولة العبرية، غير أن الميْل العام كان باتجاه إنكار حق الفلسطينيين في استرداد أراضيهم المحتلة، وعودة اللاجئين منهم إلى وطنهم، وذلك في كل مبادرات الإدارات الأميركية وتصوّراتها، منذ الرئيس جونسون الذي استهجن حديث الملك حسين إليه، شهوراً بعد الاحتلال في 1967، عن عدم جواز احتلال أراضي الغير بالقوة، ما جعله يسأل الملك عمّا إذا كان من وسيلةٍ أخرى غير القوة ليصير هذا الاحتلال (!)، مروراً بالرئيس بيل كلينتون الذي لم يجد تفسيراً لاستعصاء السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين سوى أن الأخيرين لمّا عادوا إلى أرضهم الموعودة صادفوا ناساً يسكنون فيها. وعلى سوء مشروع الرئيس ريغان، المعلن في 1982، والذي قام على الشقّ المعطّل في اتفاقية كامب ديفيد الساداتية الإسرائيلية، وهو الحكم الإداري الذاتي للفلسطينيين، إلا أنه يعدّ متقدّما إذا ما قورن مع خرافات صفقة القرن التي يدلّ منطوقها العام على وصول تدحرج مواقف سكان البيت الأبيض، منذ أزيد من خمسين عاماً، إلى الليكودية الشديدة اليمينية، والتي تتغذّى شراستُها في فلسطين وجوارِها من القاع الذي يهرول الحال العربي العام إليه.. وبذلك لا تنطق صفقة القرن بغير الراهن الذي نعاين ونعرف. ولكن ما لا يعرفه طبّاخوها في واشنطن وتل أبيب، وما لا يدريه أنصارٌ لهؤلاء في غير عاصمةٍ عربية، أن شعب فلسطين ليس في الوادي الذي هم فيه.

معن البياري

العربي الجديد