القاهرة والرياض.. الثوابت الاستراتيجية لا تمنع الخلاف في التفاصيل

القاهرة والرياض.. الثوابت الاستراتيجية لا تمنع الخلاف في التفاصيل

_66546_saud3

هل هناك توتر بين مصر والسعودية؟ وإذا كانت هناك خلافات حقيقية، ما هي مظاهرها؟ وبماذا نفسر التأكيدات الرسمية على العمق الاستراتيجي في العلاقات؟ وكيف نفهم التفاهم الظاهر في عدد من القضايا؟ ولماذا تسير العلاقات السياسية الرسمية في واد إيجابي، بينما يبدو بعض الإعلاميين على الجانبين متصادمين، بل في واد آخر؟ ولماذا يطفو حديث الأزمة فجأة ويختفي فجأة أيضا؟

أسئلة كثيرة ومتنوعة تطرحها، من وقت إلى آخر، العلاقات بين القاهرة والرياض، جعلت بعض المراقبين يصابون بالحيرة. ففي الوقت الذي تتوافر فيه معالم واضحة للتوتر، تأتي أخرى لتؤكد أن هناك عافية سياسية لم تعد خافية، وأن أحاديث التوتر التي تظهر وتتوارى من حين إلى آخر، تقف خلفها جهات، أصبحت أشد قلقا من تنامي العلاقات بين البلدين.

جهات سياسية مختلفة بالغت في دعايتها، وتعمدت إثارة زوابع حول القواعد التي تحكم العلاقات بين البلدين، وبدأت تتفنن في خلق الفتن، التي تساعد على فتح الباب للمشكلات بين القاهرة والرياض.

وخلال الأسابيع الماضية أخذت بعض الدوائر تنشط وتعمل على تعكير صفو العلاقات، ليس فقط باختلاق الأزمات وتضخيمها، لكن عبر ممارسة ضغوط على دول قريبة من الطرفين، ووصل الأمر إلى حد المساومات، أملا في أن تتم فرملة الاندفاعات الإيجابية بين مصر والسعودية، ومحاولة تفويت الفرصة على المزيد من الانسجام، الذي أصبح خطرا على مصالح قوى إقليمية، تسعى لجذب القاهرة بعيدا عن الرياض.

محطات من العلاقات المصرية – السعودية

* توقيع معاهدة الصداقة بين البلدين عام 1926م وفيه أيدت المملكة العربية السعودية مطالب مصر الوطنية في جلاء القوات البريطانية عن الأراضي المصرية.

وفى 27 أكتوبر عام 1955 توقيع اتفاقية دفاع مشترك بين البلدين.

* دعم السعودية لمصر في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وقدمت المملكة لمصر في 27 أغسطس 1956 (100 مليون دولار) بعد سحب العرض الأميركي لبناء السد العالي.

* مساندة السعودية لمصر على مستوى النفقات حتى حرب أكتوبر 1973 وقادت المملكـة معركة البتـرول لخدمـة حرب أكتوبر.

* المشاركة العسكرية المصرية ــ السعودية خلال حرب تحرير الكويت عام 1991، وقد شهدت العلاقات خلالها تبادل عدد من الزيارات العسكرية بين القادة والمسؤولين العسكريين في كلا البلدين وبشكل دوري لتبادل الآراء والخبرات والمعلومات العسكريه والأمنية والاستخباراتية.

* 1991 قيام الجيشين السعودي والمصري بمناورات تدريبية مشتركة على غرار مناورات “تبوك” للقوات البرية للبلدين ومناورات “فيصل” للقوات الجوية للبلدين ومناورات “مرجان” للقوات البحرية للبلدين.

* في أعقاب ثورتي 25 يناير 2011، و30 يونيو 2013، قدمت السعودية دعمها السياسي والدبلوماسي والمالي لمواجهة المواقف المناوئة للثورة وحظرها أنشطة الجماعات الإرهابية، ومساندة الاقتصاد المصري بعد الثورة.

* عقدت في شهر سبتمبر 2014 أعمال الاجتماع الوزاري الثاني للجنة المتابعة والتشاور السياسي المصري السعودي.

* في 2015/02/14 بدأت عناصر القوات البحرية المصرية ــ السعودية في تنفيذ المرحلة الرئيسية للمناورة البحرية “مرجان 15” التي تشارك فيها العديد من القطع البحرية وعناصر القوات الخاصة وطائرات اكتشاف ومكافحة الغواصات لتنفيذ العديد من الأنشطة التدريبية المشتركة لتأمين المياه الإقليمية وحركة النقل بنطـاق البحر الأحمر.

* 25 أكتوبر 2015 اتفاق مصرى ــ سعودى على عقد مشاورات سياسية ربع سنوية وبشكل مسمـر بدلا من كل سنة كما كانت وبوتيرة أسرع كلما اقتضت الحاجة لذلك.

السياق الحالي يكشف عن وجود ما يشبه التباين في التفاصيل، لكن المحتوى النهائي، أو بمعنى أدق الاستراتيجي لا يزال راسخا، وهو راجع إلى طبيعة التوجهات العامة للنظام الحاكم في كل بلد، فالسعودية تريد مواقف حاسمة في القضايا المعنية بها، والتي تشترك معها مصر في جهة الاهتمام، بينما الأخيرة تفضل، في حالة السيولة التي تتسم بها غالبية القضايا الإقليمية، أن تكون تقديراتها ومن ثم مواقفها ذات طبيعة مرنة، أي تجعل من القطع عملية ثانوية، لأن الرياح السياسية التي تمر بها المنطقة مفتوحة على احتمالات مختلفة ومتقاطعة.

الرياض درجت على الوقوف إلى جوار القاهرة، وحتى عندما رحل الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وخشيت مصر من حدوث تحول في التوجهات، جاءت مواقف الملك سلمان بن عبدالعزيز السياسية لتؤكد أن الأمور تسير على الوتيرة ذاتها تقريبا، وأن ما تردد باعتباره تحولا قادما من جانب الرياض في عهد الملك الجديد، سرعان ما بددته الخطوات والمواقف السعودية التي عززت النهج السابق، كما حافظت مصر على ثوابتها مع المملكة، سواء بالنسبة إلى أمن الخليج أو الموقف من القضايا الساخنة، بدءا من اليمن وإيران وانتهاء بسوريا، وحتى ملف الإخوان الذي كان أكثر إثارة للجدل.

ولم يتغير نهج التعامل السعودي مع الأزمات التي تواجهها مصر، فإذا كان الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز اتخذ موقفا تاريخيا إلى جوار القاهرة وكان داعما لها، بعد إزاحة الإخوان، رغم بعض المواقف السلبية لبعض القوى الدولية ضد مصر، فإن الملك سلمان بن عبدالعزيز، قد اتخذ بدوره موقفا حاسما ومنتظرا من السعودية، عندما أعلنت دول عدة وقف طيرانها إلى مدينة شرم الشيخ، بعد سقوط الطائرة الروسية في صحراء سيناء، في نهاية أكتوبر الماضي، حيث أمر بتسيير عدد كبير من رحلات الطيران السعودية إلى شرم الشيخ، لتخفيف الأعباء الاقتصادية الناجمة عن قرار وقف الطيران، الذي اتخذته بريطانيا وروسيا وغيرهما.

بورصة رائجة للتكهنات

بورصة التكهنات ظلت رائجة بشأن وجود خلافات بين البلدين، ربما لأن هناك من يريد تأجيج هذا الأمر، وربما بسبب بعض التخمينات التي يطلقها إعلاميون من هنا أو هناك، وربما هناك خلافات محدودة، لم يتم حسمها، فتعطي مساحة أكبر للتوقعات السلبية.

وعلمت “العرب” من مصادر سياسية أن هناك فعلا خلافات هامشية حيال التعاطي مع بعض الملفات، تتركز في أن كل طرف يريد مزيد التوافق من الطرف الآخر، فالرياض تريد من القاهرة أن تكون رؤيتهما متطابقة بشأن رحيل بشار الأسد في سوريا، والثانية لا تمانع، وتتمنى فقط توفير البديل المناسب، الذي يستطيع المحافظة على وحدة الدولة السورية، التي ترفض أن تتحول إلى ليبيا أو عراق آخر، تتقاذفه أيادي الجماعات المتشددة، التي تنتشر في ربوعه الطائفية البغيضة.

وتريد السعودية من مصر رؤية أكثر وضوحا نحو إيران، التي لا تتوقف القاهرة عـن التـواصل معـها، بصـورة مباشـرة أو غيـر مباشرة، وهو ما يقلق الرياض التي تعتبر طهران خطرا داهما على دول الخليج العربي.

وعندما سألت “العرب” مسؤولا أمنيا رفيعا عن حقيقة الموقف المصري من إيران في الوقت الراهن، في ظل المعادلة الدقيقة مع السعودية، قال “لا نريد أن نذكرها (إيران) بالخير أو الشر”، الأمر الذي يلخص الحساسية التي تنتاب مصر عند الحديث عن هذا الملف، والذي يؤدي الحسم النهائي فيه إلى خسارة بعض الأطراف الفاعلة في المنطقة التي تتسم توازناتها بالحساسية المفرطة، وسرعة التغيير.

أما مصر، التي تحرص على عدم الصدام مع الرياض، فقد كانت تتمنى منها المزيد من الدعم الاقتصادي، وهناك وعود بمساعدات مادية لا تزال متعثرة، سواء لأسباب تتعلق بالموقف المالي السعودي، بعد التراجع في أسعار النفط، وما يترتب عليه من مشكلات داخلية، تفرض التمهل في المساعدات الخارجية، أو لأسباب تخص التمهل إلى حين تنجلي بعض المواقف المصرية، وربما للانحناء لعاصفة من الضغوط المستترة، رأى أصحابها أن السعودية تمثل حبل إنقاذ يجب أن يبقى مشدودا، فقد يتأثر سلبا بقوة الأطراف التي تريد جذبه إليها.

وقالت مصادر لـ“العرب” أن ثمة اقتناعا قديما لدى السعودية، بأن دعمها الاقتصادي لمصر يجب أن يكون محسوبا، أي يقدم لكنه يقف عند حد الكفاف لمنع انهيارها، وعدم تقدمها بشكل لافت، لأنه في الحالتين، يمكن أن تكون هناك انعكاسات سلبية على الرياض، فالانهيار التام يمكن أن يفضي إلى تداعيات غامضة على السعودية، حيث تفقد أحد أهم الحلفاء الإستراتيجيين لها، والاستقرار قد يؤدي إلى تغول مصر، وزيادة طموحاتها لتكون الفاعل الرئيسي على المستوى الإقليمي في قضايا المنطقة.

من هذه الزاوية، تتزايد أحيانا المناكفات، والكلام للمصدر، فيوظف كل طرف أدواته الإعلامية، لتصل رسالته إلى الطرف الآخر بحذر، دون أن يضطر النظام في أي من البلدين للدخول في مواجهة أو عتاب رسمي، وهذه الطريقة ربما نجحت في تخفيض سقف توترات خفية، لكن أدت أيضا إلى إشعال حرائق، كانت مكتومة، أطفأتها الحكمة التي تتمتع بها القيادة في البلدين، والروابط الاستراتيجية التي تربط بين مصر والسعودية، والتي يدرك كل طرف أن فك عراها، سوف تترتب عليه نتائج سلبية على كل منهما، وهذا أحد أسرار تفضيل بقاء الخلافات تدور من وراء ستار، أو تظهر عبر قنوات جانبية وغير مباشرة.

قواعد راسخة واختبارات دقيقة

السفير معصوم مرزوق، مساعد وزير الخارجية الأسبق، استبعد فكرة وجود تراجع في العلاقات المصرية السعودية، مؤكدا لـ”العرب”، أن الرياض تساند القاهرة استراتيجيا والعكس صحيح منذ فترة، ومن الصعوبة أن تتزعزع بالسهولة التي يحاول البعض تصويرها الآن، لأنها أكبر وأعمق من أنظمة الحكم نفسها.

وشدد على أن الأمر يتعلق بأمن وسلامة البلدين، وقد استطاع كلاهما الحفاظ على أمنه واستقراره الداخلي، في ظل مخططات التفتيت الجارية في المنطقة العربية، مرجعا ما بدا وكأنه خلاف أو توتر بين البلدين إلى تباين في وجهات النظر بالنسبة إلى الملف السوري، والبحث عن الطريقة المناسبة للحل السياسي لوقف الصراع الدائر حاليا، وهذا لا يعني على الإطلاق أن العلاقات تشهد انتكاسة سياسية.

وقال مرزوق إن العلاقات المصرية السعودية لن تتأثر جراء هذا الخلاف، ولن يضحي أي من الطرفين بالآخر، فمصر بدت حريصة على الدولة السورية، بغض النظر عن بشار الأسد، والرياض أضحت متفقة مع القاهرة في الحفاظ على تماسك سوريا، وتسعى إلى إبعادها عن شبح التقسيم، ووقف نزيف الدماء، مشيرا إلى أن هناك وسائل دبلوماسية متعددة يمكن أن تساعد على تقريب الرؤى بين الطرفين، خاصة أن الخلاف ليس بالعمق الذي يحاول البعض ترسيخه.

لكن حسن نافعة أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، اعتبر أن العلاقات بين البلدين تتعرض للحظة حرجة واختبارات دقيقة، بسبب الملف السوري، وقال لـ“العرب” أنه يتعين على كل دولة تحديد هدفها بوضوح في هذه الأزمة، على أن تلتقي إرادة الدولتين عند نقطة واحدة تمكن الشعب السوري من تقرير مصيره.

السياق الحالي يكشف عن وجود ما يشبه التباين في التفاصيل، لكن المحتوى النهائي، أو بمعنى أدق الإستراتيجي لا يزال راسخا

وأضاف نافعة أن استقرار الأوضاع في مصر ضروري للسعودية، كما أن مساندة السعودية لمصر أمر مهم، ثبتت فعاليته، عقب ثورة 30 يونيو 2013، عبر المساندة السعودية، سياسيا واقتصاديا، القوية لمصر، لذلك فما يبدو من خلاف بينهما، لا يزال في النطاق المعتاد بين أي حليفين، لأنه في نهاية الأمر، يقدّر الطرفان المخاطر الكبيرة التي قد تنجر عن تمدد تنظيم داعش الذي يهدد المنطقة بأكملها، ويدرك كلاهما أهمية مواجهة الهيمنة التي تسعى إليها كل من تركيا وإيران على مقدرات المنطقة.

من جانبه، قال مبارك أحمد، خبير الشؤون الخليجية أن المنطقة العربية، بأكملها تواجه حملات تفكيك، والدول الثلاث مصر والسعودية وسوريا، كانت ركيزة ورمانة ميزان للاستقرار في المنطقة، ومع انهماك سوريا في أزمتها الراهنة، أصبحت الدولتان الأخريان محور استقرار المنطقة العربية.

لذلك لا غرابة في قرارات ومواقف السعودية الداعمة باستمرار لمصر، وآخرها مواصلة رحلاتها إلى شرم الشيخ لدعم السياحة المصرية، التي تأثرت بطلب بعض الدول الأوروبية إجلاء رعاياها، في أعقاب سقوط الطائرة الروسية فوق صحراء سيناء، التي تشهد صراعا دمويا بين الجيش المصري وجماعات إرهابية مسلحة. ولفت إلى أن الدعم السعودي لمصر، ليس بجديد على الرياض، الـتي ساندت القـاهرة إبـان حرب أكتوبـر عام 1973، كما كانت للراحل الملك عبدالله بن عبدالعزيز مواقف داعمـة ومشرفة لا ينساها الشعب المصري، فضلا عن توظيف دبلوماسيـة بلاده لصالح مصر، وتخفيض الضغوط التي كانت واقعة عليها، بعد انتهاء حكم الإخوان.

الرياض تريد من القاهرة أن تكون رؤيتهما متطابقة بشأن رحيل الأسد، والثانية لا تمانع وتتمنى توفير البديل المناسب

وأشار إلى أن مصر والسعودية، تكمل كل منهما الأخرى، الأولى بعمقها الديمغرافي، والثانية بمواردها الاقتصادية، وهو ما يسعى الملك سلمان بن عبدالعزيز والرئيس عبدالفتاح السيسي لتحقيقه، من خلال تدشين المجلس المصري السعودي، عند زيارة السيسي للمملكة العربية السعودية، في الأيام الماضية، وهو يمثل تدعيما لإعلان القاهرة الذي جرى توقيعه في أغسطس الماضي، ليكون قاعدة أساسية لتطوير العلاقات المشتركة بنسق مطرد في مجالات مختلفة.

وفي تقدير معتز سلامة، رئيس وحدة الدراسات العربية والإقليمية بمركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، من الصعوبة حسم ما إذا كانت الخلافات بين البلدين حقيقية أم مفتعلة.

وأوضح في دراسة بعنوان “الخلافات المصرية السعودية عابرة أم جوهرية”، صدرت حديثا عن المركز الإقليمي للدراسات بالقاهرة، أنه إذا جرى النظر للعلاقات بميزان المواقف والأفعال، فالتوافق الاستراتيجي بين البلدين يشير إلى أن بيت القصيد في هذه العلاقات ليس في ما يجري تصديره للعلن من خلافات، فـالخلاف الإعلامي يخفي تفاهمات إستراتيجية مهمة في كثير من الأحيان، وعلى النقيض، فإن الوفاق الإعلامي يخفي خلافات جوهرية.

وأكد معتز سلامة أن هناك أسسا تضبط العلاقات المشتركة، ترسخت مع مرور السنين، وهو ما يتضح من عدم السماح للخلافات بالتأثير في العلاقات الثنائية، وعلى مدى ما يقرب من 40 سنة لم تتعرض العلاقات لاختبار كبير، يشير إلى إمكان زعزعتها، فهناك توترات مكتومة، ومواقف متباينة، لكن على الدوام يجري استيعابها في بحر العلاقات البينية.

صحيفة العرب اللندنية