دول الخليج ومواجهة «جاستا»

دول الخليج ومواجهة «جاستا»

e65042b1-bb3f-42d6-9565-e72314059c66_16x9_600x338

ليس ممكناً التقليل من شأن قانون «العدالة ضد رعاة الإرهاب» الذي دخل حيز النفاذ الأربعاء 28 أيلول (سبتمبر) 2016، بعدما عطل الكونغرس الأميركي «فيتو» الرئيس باراك أوباما الذي حاول عرقلة صدور هذا القانون. ولم أكن وحدي من توقع تمرير القانون في نهاية الأمر، فأشرت في مقالي قبل أسبوعين في المكان نفسه إلى موقفي قائلاً: «وتداخلني الشكوك في أن إعلان أوباما نيته استخدام حق النقض يهدف إلى امتصاص ردود الفعل وإحياء آمال واهنة بالتعويل على أن ينتهي الأمر أميركياً». كما أجد «الابتزاز الأميركي» الذي أشرت إليه تجسد سافراً في حديث المرشح الرئاسي الأميركي دونالد ترامب خلال مناظرته مع هيلاري كلينتون الأسبوع الماضي عن أن بلاده تدافع عن المملكة العربية السعودية ويجب أن تتقاضى «ثمناً» لذلك.

«جاستا» نقطة تحول فاصلة في علاقة استمرت نحو سبعة عقود، ويصدق ذلك على دول الخليج العربية التي كانت الولايات المتحدة منذ العام 1990، ومع الغزو العراقي للكويت، محور علاقاتها الخارجية، والحليف الاستراتيجي الذي يُحسب حسابه في كل المعادلات الإقليمية والدولية. وإذا كان تعبير «ما بعد 11 سبتمبر» يختصر معاني الانتقال من حال إلى حال أخرى مغايرة أو مفارِقة، فإن «ما قبل جاستا» و «ما بعد جاستا» يحملان المعنى ذاته بالنسبة إلى العلاقات الخليجية- الأميركية، فما قبل «جاستا» لن يُشبه ما بعده.

وأجد نفسي هنا مضطراً إلى الاعتراف بأن الدلائل كانت كبيرة طوال السنوات الأربع الماضية على أن تحولات أميركية هائلة توشك أن تغير ما ظننا أنه معادلات مستقرة لا تقبل المساس، لكننا في منطقة الخليج العربي لم نولها ما يلزم من اهتمام. ويمكن لمن أراد أن يرصد وجود تحذيرات مستمرة من جانب سياسيين ومسؤولين كبار ومراكز بحث ومؤسسات أكاديمية ومحللين وخبراء خليجيين من اقتراب حدوث هذه التحولات الأميركية، وهو أمر إيجابي على أي حال يؤكد درجة عالية من «الوعي» الخليجي إزاء ما يحدث في العالم، والفهم المبكر لدينامياته السياسية.

في المقابل، فإن الأمر السلبي يتمثل في أن هذا «الوعي» لم يُترجم إلى فعل في وقت مبكر، ولم توضع سيناريوات كافية تحدد مسارات التحرك وآلياته وأدواته لتكون البدائل جاهزة وسريعة في اللحظة التي تصبح معها التحولات المرتقبة حقيقة واقعة ملموسة، على النحو الذي حدث مع صدور قانون «جاستا» بالشكل الذي عاينّاه قبل أيام، مع تأييد عضو واحد في مجلس الشيوخ الأميركي لـ «فيتو» أوباما في مقابل رفض 97 عضواً، ورفض 348 عضواً في مجلس النواب «فيتو» الرئيس في مقابل 77 عضواً وافقوا عليه. وضخامة الأرقام التي أبدت شعوراً عدائياً تجاه السعودية -وبالتبعية تجاه دول الخليج العربية- من النقاط التي يجب التوقف أمامها أيضاً، ودرس دلالاتها وما يمكن أن تفرزه في مراحل لاحقة.

من قبيل الإنصاف، فإن المسافة بين «الوعي» و «الفعل» التي أشرت إليها ليست ناجمة عن تكاسل أو خمول، بل يقف وراءها بالأحرى ما تشهده المنطقة العربية منذ خمس سنوات من تلاحق درامي للأحداث، والاضطرابات غير المسبوقة التي انتقلت معها أجواء الاقتتال والحروب الطاحنة إلى داخل الدول العربية في ظل استقطابات عرقية وطائفية ومناطقية حادة تغذي العداء وتصب فوقه الزيت، ويزيد الإرهاب الذي اقتطع لنفسه ما يسميه «دولة» من تعقيد الموقف. ودور إيران معروف في هذه الحرائق ولا تخفيه إيران نفسها، بل تفاخر به، ودور الولايات المتحدة يلفه الغموض وليس فيه ما يُطمئن إلى أن واشنطن تدعم استقرار المنطقة حقاً أو تعمل على دحر الإرهاب حقاً، وعشرات الأطراف تتدخل لتزيد من عمق المأساة. ووحدها دول الخليج العربية، وعلى رأسها السعودية والإمارات، هي تقريباً من يحاول أن يقوم بدور مسؤول، وتتحمل كلفة مادية وبشرية باهظة، وينتظم قادتها وساستها في جهود هائلة عبر العالم تلتهم الكثير من الطاقة ومن الوقت. وهذا كله كان يجعل إنضاج البدائل اللازمة لمواجهة نكوص «الحليف» الأميركي ونكثه بعهوده أمراً فيه من الصعوبة ما فيه.

كما قلت في بداية مقالي، ليس ممكناً التقليل من شأن «جاستا» أو توابعه، لكن الجزع أو المبالغة في التخوف ليسا في محلهما أيضاً. فالرياض وعواصم مجلس التعاون الأخرى ليست بالطرف الضعيف أو العاجز عن الاستجابات الصحيحة والردود المدروسة على تعقيدات المرحلة الجديدة.

واجهت دول الخليج ظروفاً معقدة منذ نشأتها بشكلها الحديث حول منتصف القرن الماضي. ولم يكن لديها آنذاك ما تمتلكه حالياً من هياكل وبنى مؤسسية قوية، أو موارد بشرية رفيعة التأهيل في كل المجالات، أو ثروات وفوائض مالية قادرة على تغيير المعادلات في الاقتصاد العالمي كما هي الآن، أو قدرات دفاعية وقوات مسلحة حديثة وكفوءة ومتطورة تنظيماً وتدريباً وتسليحاً، ومع ذلك أبحرت بمهارة في خضم عواصف سياسية وحروب وأزمات تتناسل ولا تنتهي إحداها إلا لتبدأ أخرى. وأثبتت الأيام صحة الخيارات التي انتهجها قادة هذه الدول وملوكها وأمراؤها، فيما سقطت رهانات دول أخرى كانت تمتلك إمكانات وطاقات أكبر في كل الجوانب.

الواقعية والجرأة والقدرة على قراءة المستقبل على رغم تعقيدات الحاضر كانت الأساس الذي قامت عليه التجارب الناجحة لدول الخليج العربية، وظلت الملامح والخطوط والتوجهات العامة واحدة أو متقاربة، على رغم خصوصية تجربة كل دولة. وهذا هو الأساس الأول الذي يجعلني موقناً بأن صعوبات المرحلة الحالية يمكن التغلب عليها، إضافة إلى القدرة على تفعيل عناصر القوة والتأثير في المفاصل التاريخية المهمة، ومنها ما هو استراتيجي وما هو سياسي وما هو اقتصادي، وكلها أوراق تمتلكها السعودية ودول الخليج ودول عربية وإسلامية أخرى يمكن أن تمنح التكتل الخليجي القوي مزيداً من نقاط القوة والتأثير.

واهمٌ من يتصور أن «جاستا» بداية لضعف الدور الخليجي أو انهياره، فدول الخليج العربية تستند إلى إنجازات ونجاحات تنموية كبيرة، والتفاف شعبي كبير حول قادتها، وتراث من تنسيق الجهود وتوجيهها يبدو أقوى ما يكون في اللحظات الفاصلة، ولن يطول الوقت حتى تتبلور معالم التحرك الخليجي الذي سيكون واسعاً وقوياً ومنسقاً، لأجل احتواء التحولات الأميركية، وتصحيح المفاهيم المغلوطة التي يبدو أنها تسيطر على أروقة صنع القرار الأميركي. وسيتم ذلك بلا تشنج وبلا عنتريات جوفاء، بل باستخدام اللغة التي تعرفها السياسة الدولية وتقوم عليها العلاقات بين الدول، وهي لغة المصالح المتبادلة. ومن يتابع ردود الفعل الخليجية على «جاستا» يدرك أن هذه الدول تتجه بثبات نحو تصحيح ما اختل في الفهم الأميركي، وتذكير واشنطن بأنها تسلك اتجاهاً لن تكون كلفته قليلة كما يتصور بعض منظريها.

راشد صالح العريمي

صحيفة الحياة اللندنية