لماذا أرجأت واشنطن رفع العقوبات جزئيا عن الخرطوم

لماذا أرجأت واشنطن رفع العقوبات جزئيا عن الخرطوم


عكس القرار الأخير للولايات المتحدة في يوليو الجاري بإرجاء رفع العقوبات الاقتصادية على السودان لثلاثة أشهر جملة من الدلالات الأساسية تتعلق بطبيعة التوجهات الخارجية لإدارة الرئيس دونالد ترامب وسياسات النظام السوداني وطبيعة السياقات الإقليمية والدولية التي لم تكتسب النضوج الكافي لإحداث انفراجة كلية في علاقات واشنطن والخرطوم، لا سيما وأنها تأرجحت مدا وجزرا منذ صعود نظام الإنقاذ للسلطة في العام 1989.

بدا أن الفرصة التي انتظرها النظام السوداني على يد إدارة ترامب -طيلة الستة أشهر الماضية- لم يحن موعدها بعد، حيث تواجه إرثا معقدا من قيود القرارات الرئاسية والقوانين التي أصدرها الكونغرس الأميركي بفرض عقوبات على السودان، خلال العشرين عاما الماضية.

لذا، لم يكن رهان الخرطوم دقيقا على سهولة التعامل مع تلك الإدارة الجمهورية لمجرّد أنها غير مهتمة بحقوق الإنسان، مقارنة بسابقتها الديمقراطية، ذلك أن جوهر قرار إرجاء رفع العقوبات عن السودان يشي بحالة من عدم الثقة الأميركية في سياسات الخرطوم، ليس فقط تجاه القضايا الداخلية، وإنما أيضا لرهانات نظام عمر البشير المتنقلة والمتناقضة بين المحاور الإقليمية والدولية، الأمر الذي لا يلبّي الهدف الأساسي من العقوبات الأميركية والمتعلق بـ”التعديل الكامل” لسلوكيات النظام السوداني.

صحيح أن واشنطن ربما لا تتراجع عن مسار رفع العقوبات، ولو تدريجيا عن الخرطوم، خاصة أنها لا تنكر تعاون الأخيرة في مجالات التعاون الأمني، وخاصة مكافحة الإرهاب، بما يعني تعديل سلوكها جزئيا، لكنها بالمقابل تمنح مصالحها فرصة أخرى لتقييم ما إذا كان السلوك السوداني سيحقق تقدما بنهاية فترة المراجعة التي مدّدت حتى أكتوبر المقبل.

قضية السودان لا تشكل ضغوطا ملحة على إدارة ترامب في الوقت الراهن، بما يدفعها للإسراع بحسم قضية رفع العقوبات مقارنة بقضايا أخرى
هنا لا يختلف مضمون المنطق المتشكك لإدارة ترامب في السودان عن سابقتها، برغم كونهما يمثلان توجهين مختلفين (الجمهوري والديمقراطي). فعندما قرر أوباما رفع العقوبات الاقتصادية والمالية -التي فرضت إبان إدارة كلينتون في العام 1997- عن الخرطوم مؤقتا قبيل مغادرته البيت الأبيض في يناير الماضي، فإنه نقل إنفاذها من عدمه إلى خليفته ترامب، وبدت مشروطة بمراقبة السياسات السودانية لستة أشهر.

بل إن التوجه الأميركي لرفع العقوبات عن الخرطوم لم يمنع من أن تظل الأخيرة في القائمة الأميركية للدول الراعية للإرهاب منذ العام 1993، أو حتى تبقي على عقوبات إضافية أخرى تم فرضها مثلا في العام 2006 على خلفية اتهامات بجرائم الإبادة الجماعية والانتهاكات في دارفور غربي السودان، ومحتمل أن يستهدف قرار إرجاء رفع العقوبات إفساح المجال للولايات المتحدة للمزيد من الشروط الضاغطة على النظام السوداني.

بعد الصفقات

يتعزز ذلك الفهم في ضوء جملة عوامل تشكل برمتها سياقا متشابكا ولا يمكن عزلها عن بعضها البعض عند تفسير القرار الأميركي بالإرجاء.

أول تلك العوامل بروزا يتعلق بالبعد الصفقاتي لسياسة ترامب الخارجية منذ وصوله إلى البيت الأبيض، إذ بدا أن سلوكياته تجاه القضايا الإقليمية والدولية لم تبتعد كثيرا عن الشعارات الانتخابية التي طرحها حول “أميركا أولا”، من جهة، وطبيعته كرجل أعمال يسعى إلى إدارة العلاقات الخارجية عبر استخراج أكبر عوائد ممكنة، سواء من الخصوم أو الأصدقاء، من جهة أخرى، وكذلك إعادة ترتيب أولويات القضايا الخارجية، بما يخدم الأمرين السابقين، من جهة ثالثة.

على الرغم من أهمية السودان في خارطة المصالح الأميركية في شرق أفريقيا، إلا أنها لم تحظ بالكثير من تركيز إدارة ترامب، حتى أنها لم تعين -حتى اللحظة- مبعوثا للشؤون الأفريقية، بل إنها رفضت حضور الرئيس السوداني عمر البشير القمة الإسلامية-الأميركية في الرياض في مايو الماضي، وأدرجت السودان ضمن الدول الست المحظور حصول رعاياها على تأشيرات للولايات المتحدة في يناير الماضي.

تتعمّق صورة عدم الاهتمام الأميركي تلك بالنظر إلى عامل ثان يتعلق بقابلية النظام السوداني للاستجابة للضغوط، فالأوضاع داخل السودان تشهد هدوءا نسبيا، لا سيما مع إعلان الخرطوم وقف إطلاق النار مع الحركات المسلحة في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق في أكتوبر الماضي والذي تم تجديده على التوالي في يناير الماضي ويوليو الجاري، في مسعى سوداني لإثبات جديته للولايات المتحدة.

وعدّ ذلك الأمر أحد القضايا الخمس التي تناقشها لجنة سودانية أميركية لتخفيف العقوبات منذ منتصف العام الماضي. إذ تضم أيضا قضايا أخرى مثل مكافحة الإرهاب وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية إلى مناطق النزاع والتوقف عن دعم جيش الرب الأوغندي والمساهمة في تحقيق السلام في جنوب السودان.

كان السودان أقدم بالفعل على تسهيل وصول المساعدات الإنسانية إلى مناطق النزاع الداخلية باعتراف الأمم المتحدة، والتي عبّرت عن رغبتها قبل أيام بصدور قرار ايجابي حول العقوبات، ورفضت الخرطوم استقبال رياك مشار زعيم المعارضة في جنوب السودان.

لذلك كله لا تشكل قضية السودان ضغوطا ملحة على إدارة ترامب في الوقت الراهن، بما يدفعها للإسراع بحسم قضية رفع العقوبات، مقارنة بقضايا أخرى مثل أزمة مقاطعة قطر وكوريا الشمالية والعلاقة مع روسيا وحلف الناتو والصين وغيرها.

الممانعة المؤسسية

شكلت الممانعة المؤسسية الأميركية عاملا ثالثا يفسر إرجاء رفع العقوبات الأميركية، ومفادها أن تصور السودان بنزوع ترامب للخروج عن الأطر المؤسسية الأميركية لإحداث نقلة نوعية في علاقات البلدين ليس من اليسير تحققه في ضوء تحدي الكونغرس، والذي لا يزال يمثل عبر جماعات الضغط وخاصة المتعلقة بدارفور وحقوق الإنسان أداة تأثير أساسية في مواجهة أيّ رفع للعقوبات على السودان، وما يدلل على ذلك أن قرار إرجاء رفع العقوبات على السودان سبقه في الـ30 من يونيو الماضي مذكرة وقع عليها أكثر من خمسين عضوا من الحزبين الديمقراطي والجمهوري يطالبون فيها ترامب بتأجيل رفع تلك العقوبات 12 شهرا كفترة مراقبة إضافية، إضافة إلى ضغوطات مؤسسات المجتمع المدني التي تنظر لقضية السودان من منظور حقوقي لا أمني، وتدعم المعارضة السياسية في هذا البلد، لا سيما وأن الرئيس البشير لا يزال مطلوبا أمام المحكمة الجنائية الدولية منذ العام 2009 بتهم جرائم حرب في دارفور.

حقوق الإنسان أداة تأثير أساسية في مواجهة أيّ رفع للعقوبات
في المقابل، فإن الأجهزة الأمنية الأميركية تدعم رفع العقوبات عن الخرطوم لتشجيعه على مزيد من التعاون الأمني، مثلما عبّر مدير المخابرات الوطنية الأميركية دانيال كوتس في إفادته أمام الكونجرس في مايو الماضي، عندما أشار إلى أن السودان سيلتزم بشكل كبير بوقف العدائيات في مناطق النزاع، وأنه يسعى للحوار البناء مع واشنطن لرفع بعض العقوبات في العام 2017.

في الوقت عينه، فإن وزارة الخارجية تواجه موقفا حرجا إزاء قضية رفع العقوبات، لا سيما إذا علمنا أن أحد أعضاء الكونغرس الأميركي كان قد اتهم وزير الخارجية ريكس تيلرسون بأنه عقد صفقات مع السودان بين عامي 2003 و2006، إبان عمله السابق في شركة أكسون موبيل للنفط، برغم العقوبات.

ولأن العلاقة بين السودان والولايات المتحدة ليست ثنائية وإنما تشتبك معها أطراف إقليمية ثالثة، يبرز عامل رابع يتعلق بالسياسة الخارجية السودانية التي تتسم بـ”المناورة” تجاه قضايا الشرق الأوسط، فعلى سبيل المثال، لم توضح الخرطوم موقفها من أزمة مقاطعة قطر، حيث اقتصرت على الدعوة لاحتواء الأزمة، حفاظا على مصالحها مع المحاور المتناقضة في الأزمة.

إذا كانت تلك العوامل تمثل محاولة لتفسير القرار الأميركي بإرجاء رفع العقوبات عن الخرطوم، فما يلفت النظر أن السلوك السوداني ما يزال يراهن على إدارة ترامب، إذ رد الرئيس البشير على ذلك القرار بتجميد عمل لجنة التفاوض مع واشنطن بشأن تخفيف تلك العقوبات حتى الـ12 من أكتوبر المقبل كنوع من حفظ ماء الوجه بعد الترويج الذي أقدم عليه المسؤولون السودانيون بأن العقوبات الأميركية باتت قاب قوسين أو أدنى من الرفع الجزئي.

ولم تتضمن ردود الفعل السودانية -مثلا- تجميد وقف إطلاق النار في مناطق النزاع أو إصدار قرار بالتضييق على المساعدات الإنسانية، أو حتى الإعلان عن وقف التعاون الأمني، ما يعني أنها لا تزال تأمل في رفع العقوبات لحل أزمتها المتفاقمة.

ويمكن القول إن مسألة العقوبات الأميركية على السودان ستظل قائمة، حتى وإن رفعت جزئيا في أكتوبر المقبل، إذ تذهب التوقعات الغربية بأن تظل سيفا مسلطا لتغيير سلوكيات النظام السوداني، حتى نهاية فترة حكم البشير في العام 2020، خاصة وأن الأداة العقابية الأميركية وإن لم تستهدف إسقاط هذا النظام، فإنها دفعته للتفاوض باتجاه تقسيم السودان عبر اتفاقية نيفاشا 2005، خاصة وأن قانون سلام السودان الذي أصدره الكونغرس الأميركي في العام 2002 ربط آنذاك رفع العقوبات بتقدم المفاوضات مع الحركة الشعبية لتحرير السودان.

العرب اللندنية