الجامعة العربية: فشل في قبول الاختلاف وتجاوز عقدة القطر العربي

الجامعة العربية: فشل في قبول الاختلاف وتجاوز عقدة القطر العربي

القاهرة – كثيرا ما توجه الانتقادات إلى جامعة الدول العربية وتتهم بأنها فشلت في حل أزمات العرب ومعالجة قضاياهم، بدءا من أم القضايا: القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي، وصولا إلى الأزمات التي تمخضت عن فوضى الربيع العربي.

والغوص في تاريخ الجامعة العربية وظروف نشأتها وما مرّت به من أحداث مرتبطة بالتطورات السياسية يكشف عن أسباب هذا “الفشل”، كما يكشف أيضا أن هذه الصورة فيها الكثير من المغالطات، فالجامعة العربية لعبت أدوارا مهمة في الكثير من القضايا، وفشلها محكوم بالدول النافذة أو المؤثرة بطريقة أو بأخرى.

وظهرت فكرة جامعة الدول العربية، في وقت كانت فيه الدول العربية في أشد مواجهاتها مع الاحتلال الأجنبي، وكانت بحاجة إلى دعم ومؤازرة وإحساس بالدعم والقوة والسند وهوية جامعة في إحدى أبرز فترات العالم اضطربا. وكانت سوريا اقترحت اسم “التحالف العربي”، أما العراق فأراد اسم “الاتحاد العربي”، وقرأت مصر اسم “الجامعة العربية” أكثر ملاءمة من الناحية اللغوية والسياسية وبما يتوافق مع أهداف الدول العربية، في تلك الفترة، التي شكلت أوج الترويج للفكر القومي.

تضخّم دور قطر المعنوي انعكس في محاولة السيطرة على جامعة الدول العربية وإبعادها عن العديد من الأزمات التي شهدتها المنطقة، ما أسهم في حالة التردي المزمنة التي تعاني منها الجامعة، لكن هذا لا يعفي باقي الدول المؤثرة من تحمّل المسؤولية والصمت على التجاوزات، لأن هذه الدول ارتضت بهذا الوضع، لظروف داخلية قاهرة أو لأسباب ومواءمات سياسية معيّنة، وفي كل الحالات لم تنتبه مبكرا لطبيعة المخطط الذي تتبناه الدوحة

وفي النهاية تأسست جامعة الدولة العربية في 22 مارس 1945، وهي أقدم منظمة دولية قامت بعد الحرب العالمية الثانية، وتألفت في البداية من سبع دول عربية هي: مصر، سوريا، المملكة العربية السعودية، شرق الأردن، لبنان والعراق، ثم تطور عدد الأعضاء لاحقا ليبلغ 22 دولة.

ولعبت الجامعة العربية دورا هاما في صياغة المناهج الدراسية، والنهوض بدور المرأة في المجتمعات العربية، وتعزيز رعاية الطفولة، وتشجيع برامج الشباب والرياضة، والحفاظ على التراث الثقافي العربي، وتعزيز التبادلات الثقافية بين الدول الأعضاء، إلا أن فشلها ارتبط أساسا بأنها بقيت رهينة أفكار فترة التأسيس الهوياتية، وتضاربت المصالح حين بدأت الدول العربية تنتهج مسارات مختلفة بعضها عن بعض، انطلاقا من أبعادها الجغرافية والثقافية وتوجهاتها السياسية. ولم تحول الدول الأعضاء في الجماعة العربية هذا الاختلاف إلى مصدر قوة، وفشل بالتالي حلم التحول من فكرة الجامعة إلى فكرة الاتحاد.

الصعود والهيمنة
استغلت بعض الأطراف هشاشة الوضع في الجامعة للإمساك بزمام الأمور فيها وتوظيفها للدفاع عن رؤيتها. وبرزت قطر كواحدة من هذه الأطراف، التي وجدت في “ثورات الربيع العربي” عام 2011 فرصة للنيل بطريقتها من الجامعة، واستثمار الكثير من التحركات الخفية السابقة لرجل قطر النافذ رئيس الوزراء ووزير الخارجية السابق، الشيخ حمد بن جاسم.

في هذه الأجواء وجدت الدوحة فرصة مواتية للسيطرة على الجامعة العربية والمفاتيح الرئيسية فيها. وتقدمت في أبريل 2011 بمذكرة إلى الأمانة العامة للجامعة لترشيح الأمين العام السابق لمجلس التعاون الخليجي عبدالرحمن بن حمد العطية لتولي منصب الأمين العام خلفا لعمرو موسى.

وبنت الدوحة حساباتها في ذلك الوقت على ما أبدته بعض الدول العربية وفي مقدمتها الجزائر، من رغبة عارمة في تدوير منصب الأمين العام، الذي احتكرته مصر تقريبا منذ تأسيس الجامعة عام 1945، باستثناء الفترة التي تلت توقيع القاهرة اتفاقية السلام مع إسرائيل، ومقاطعتها عربيا، من عام 1979 وحتى 1990، والتي تولى فيها التونسي الشاذلي القليبي منصب الأمين العام.

وكاد هذا المنصب يضيع من مصر مرة أخرى عام 2011، عندما أعلنت ترشيح الدبلوماسي مصطفى الفقي في مواجهة المرشح القطري العطية، ووجدت رفضا شديدا من الدوحة أكبر مستفيد من “السيولة” السياسية التي اجتاحت بعض الدول العربية في ذلك الوقت، والتي نجحت في تكوين تكتل عربي يضم إليها السودان وتونس والجزائر وموريتانيا والصومال وجيبوتي وغيرها، بما يمكنها من الحصول على الثلث المعطل لاختيار المرشح المصري.

وقاد الشيخ حمد بن جاسم عملية الإعداد والترتيب لفوز بلاده بالمقعد، أو على الأقل منع فوز مصطفى الفقي، المعروف بمواقفه المناهضة للتيار الإسلامي، إلا أن مصر وجدت في نبيل العربي وزير خارجيتها آنذاك وجها وحلا مناسبين يمكن أن يرفعا بنعومة الفيتو القطري، وأعلنت عن ترشيحه بدلا من مصطفى الفقي.

واستندت التقديرات المصرية في ذلك الوقت على العلاقة الوطيدة التي تربط نبيل العربي بالدوحة كمحام دولي شهير، وصهر للكاتب الراحل محمد حسنين هيكل، الذي ربطته أيضا علاقة جيدة بقطر، واستضافته قناة الجزيرة طويلا عبر برنامجها “مع هيكل” وتناول فيه الكثير من الأحداث العربية كشاهد عليها، بما استفادت منه قطر في هدم صورة بعض الزعامات التاريخية، وإضفاء مصداقية على أداتها الإعلامية المؤثرة في الفضاء العربي.

ووصف دبلوماسي كبير في تصريح لـ“العرب” السفير نبيل العربي بأنه “شقيق الربيع العربي”، في إشارة ساخرة إلى العلاقة التي تربطه بالدوحة آنذاك، وأن كليهما استفاد من الثورات التي اندلعت في بعض الدول العربية وحقق مكاسب لا تؤهله إمكانياته الحقيقية لها.

الرئيس الإيراني حسن روحاني وصف الجامعة العربية بـ”المتعفنة” في رده على إدانتها لممارسات الحوثيين وإيران، ووزير خارجية تركيا مولود جاويش أوغلو ووصفها بأنها “غير مستقلة” عندما اصطدم أحمد أبوالغيط الأمين العام للجامعة العربية على هامش اجتماعات مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي

وأكد الدبلوماسي العربي أن نبيل العربي كان المسؤول المصري الوحيد الذي قال “إن ممارسات مصر في غزة جريمة حرب”، معتبرا أن ذلك دليل قوي على انسجام المواقف بينه وبين الدوحة. وكانت القاهرة تعرف هذه العلاقة جيدا، ولعدم ضياع المنصب اضطرت إلى ترشيحه. واستمر العربي أمينا عاما من مايو 2011 إلى يونيو 2016، شهدت خلالها الجامعة أسوأ فتراتها، لأنها بدت منحازة لقطر والقضايا التي تتبناها، وسعت إلى تخفيف حدة الانتقادات الموجهة إلى إيران وعدم المساس بتركيا.

وأصبح نبيل العربي، المصري الوحيد الذي لم تطلب القاهرة التجديد له مرة ثانية، مقارنة بكل من سبقوه، وقدمت أحمد أبوالغيط، بدلا منه، والذي حاولت الدوحة أيضا الوقوف بوجه عملية ترشيحه للمنصب، مستغلة الانطباعات السلبية التي خلفها الرجل خلال فترة توليه وزارة الخارجية في مصر خلال الفترة من 2006 إلى 2011.

لهذا الترشيح قصة رواها المصدر الدبلوماسي لـ“العرب”، وهي أن قطر التي كانت تتصور أن نبيل العربي سيتم التمديد له، فوجئت بالموقف المصري الرافض لذلك، يومها “جن جنونها”، لأنها لم تكن مستعدة للبديل، وحاولت تأجيل التصويت والاستفادة من الوقت للمزيد من الشوشرة على مصر، لكنها اضطرت إلى القبول به في ظل إجماع شبه كامل حصل عليه المرشح المصري، ووقتها سجلت قطر تحفظها رسميا عليه.

واستضافت الدوحة خلال عامي 2012 و2013، عددا كبيرا من الاجتماعات العربية، وهي الفترة التي شهدت صعودا للتيار الإسلامي، وتضخما في دور الشيخ حمد بن جاسم، قبل إقالته من منصبه في يونيو 2013. وجاءت الاجتماعات الكثيفة كمحاولة للإمساك بتلابيب القرار العربي، وتصوير الدوحة على أنها قائدة له، ما اعتبرته دول عربية كبيرة رسالة سيئة يجب محوها، لأن السيطرة القطرية سوف تتحول إلى هيمنة لدول غير عربية.

ويؤكد محمد السعيد إدريس، رئيس وحدة الدراسات الخليجية بمركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية لـ“العرب”، أن الموقف القطري العام له علاقة بالسياسة المعادية التي تنتهجها بدعم من حلفائها ضد الدول العربية المؤثرة حاليا في الجامعة العربية (السعودية والإمارات ومصر)، بعد أن ظلت الجامعة بضع سنوات راضخة للإرادة القطرية.

ولفت إدريس إلى أن الدوحة كانت عاملا مؤثرا في العديد من القرارات التي اتخذتها الجامعة العربية، وكان لها دور سلبي بالغ على مجمل أوضاع المنطقة، مثل دفع الجامعة العربية في 2011 خلال فترة قيادة عمرو موسى الذي كان متجاوبا معها، إلى تأييد تدخل حلف الناتو لخلع العقيد الليبي معمر القذافي والقضاء عليه ونشر الكثير من الميليشيات الإسلامية المسلحة التي لم تفلح ليبيا حتى الآن في التخلص منها.

قمة الرياض

بدأت الدوحة تستعيد دورها للمزيد من التخريب داخل مؤسسة الجامعة العربية مع الاستعداد لعقد القمة العربية في الرياض، منتصف أبريل المقبل، واستخدمت كالعادة ذراعها الإعلامية (الجزيرة) في هذه الحملة، فهي لا تستطيع توجيه الانتقادات رسميا، لأنها عضو في الجامعة العربية، ومن الممكن أن تتعرض لعقوبات، وباتت الجزيرة انعكاسا للسياسة القطرية بكل مساوئها.

وأرجع المصدر الدبلوماسي استئناف قطر لهجومها على الجامعة مؤخرا، إلى وقوف الأخيرة إلى جانب رباعي المقاطعة (السعودية والإمارات والبحرين ومصر)، ولم تعبأ الجامعة بالصراخ وغلبة خطاب المظلومية التي حاولت قطر ترويجه عبر منبر الجزيرة.

وقال نصر محمد عارف، أستاذ علوم السياسية بجامعة الإمارات، لـ”العرب”، إن قطر “تعتبر الجزيرة جيشها وأسطولها وسلاحها النووي الذي يحقق لها ما تريد، ويمثل ردعا لكل خصومها وأعدائها، لأنها تعتمد على حروب الكلام والإشاعات وإرباك الخصوم وتشتيت جهودهم”.

وأوضح، أن الهجوم على الجامعة العربية الحالي، والمتوقع زيادة وتيرته، هو انتقام منها لوقوفها في صف الرباعي العربي بلا مواربة، وهو أحد مظاهر الحرب الاستباقية قبل التئام القمة العربية في الرياض، وموجه أساسا ضد المملكة العربية السعودية، التي تقود العمل العربي المشترك للعام المقبل، وهذا في حد ذاته أمر مزعج للدوحة التي تعلم أن القمة ستكون خصما كبيرا من رصيدها، مرجحا أن تؤدي إلى المزيد من عزلة قطر، لذلك تسعى للتقليل من أهميتها.

وأيدت، هالة مصطفى، الخبيرة في الشؤون الإقليمية، ما ذهب إليه عارف، قائلة إن “حملة قناة الجزيرة في هذا الوقت مفهومة بالنظر إلى أن القمة ستعقد في الرياض، وتسعى الدوحة من ورائها إلى محاولة إفشالها، أملا في إحراج الدبلوماسية السعودية التي تقف بالمرصاد لدعم قطر للإرهاب والمتطرفين”، مؤكدة أن تحالف الرياض مع كل من القاهرة وأبوظبي والمنامة، نجح في فضح الكثير من الممارسات والانتهاكات القطرية.

بين إيران وتركيا
تنحو الدوحة في نزاعها مع الرباعي العربي، ناحية دعم المصالح غير العربية، وهجومها المستمر على الجامعة يمثل امتدادا لنهج طويل لتحقيق أهداف ومصالح دول غير عربية.

وتتماهى سياسة الدوحة مع الجامعة العربية مع سياسات أطراف أخرى غير عربية، من ذلك إيران، التي وصف رئيسها حسن روحاني الجامعة العربية بـ“الجامعة المتعفنة”، في رده عقب إدانة الاجتماع الوزاري العربي في مارس الماضي، إطلاق الحوثيين صواريخ على السعودية.

دبلوماسي كبير وصف في تصريح لـ”العرب” السفير نبيل العربي، الذي تربطه علاقات وطيدة بالدوحة بأنه “شقيق الربيع العربي”، في إشارة ساخرة إلى العلاقة التي تربطه بالدوحة آنذاك، وقال إن كليهما استفاد من الثورات التي اندلعت في بعض الدول العربية وحقق مكاسب لا تؤهله إمكانياته الحقيقية لها

وشدد المصدر الدبلوماسي لـ“العرب” على أن قطر هي رأس الحربة العربي لتركيا أيضا، وهي في تحالف معها عبر ما يسمى بالربيع العربي وتداعياته، وكلاهما ينفذ سياسة تسعى لإحداث تغييرات رئيسية في المنطقة، حتى لو من خلال تدمير المجتمعات العربية.

وقالت هالة مصطفى لـ“العرب”، إن العداء القطري للجامعة يتسق مع التوجه التركي- الإيراني الذي تتحالف معه ويحاول ترسيخ نظام إقليمي مبهم لا يستند إلى الجامعة العربية ككيان معبر عن مصالح الدول العربية، ويريد أن يتخلص منها، وخلق كيانات جديدة تتحكم فيه كلاهما.

ولفت المصدر الدبلوماسي، إلى أنه من الطبيعي أن تعمل قطر مع كل من تركيا وإيران لطعن من يتصدى، ولو بالكلام للدفاع عن أوضاع العرب، وهي الجامعة العربية والدول الكبيرة فيها.

وعندما اصطدم أحمد أبوالغيط الأمين العام للجامعة العربية على هامش اجتماعات مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي في فبراير الماضي، مع وزير خارجية تركيا مولود جاويش أوغلو، تعمّد الأخير إهانة الجامعة ووصفها بأنها “غير مستقلة وتعمل ضد الصالح العربي”، زاعما أنها منعت الأردنيين والفلسطينيين من اتخاذ مواقف أكثر جدية ضد قرار الرئيس دونالد ترامب بشأن نقل السفارة الأميركية إلى القدس، ومنعت منظمة المؤتمر الإسلامي من التصدي لهذا القرار.

وهنا قال المصدر العربي الكبير إن الوزير التركي “عبر عن كراهية حادة لمنظومة الجامعة العربية، وكشف عن وجه قبيح للسيطرة والاستحواذ”، ويومها صورت الجزيرة القطرية الموقف، ليس كهزيمة كلامية للسفير أبوالغيط فقط، لكنه انتصار ساحق على مؤسسة الجامعة العربية، واصفا ما قامت وتقوم به الدوحة في الإقليم بأنه “انحطاط سياسي”.

العرب