كيف تستعد دول الخليج العربي لمرحلة ما بعد النفط

كيف تستعد دول الخليج العربي لمرحلة ما بعد النفط

اختارت دول الخليج العربي الاستعداد لمرحلة ما بعد النفط بتنفيذ إصلاحات اقتصادية هيكلية ومشاريع استثمارية جديدة عبر تحفيزها المواطن الخليجي على المبادرة والإنتاج، غير أن خطط الإصلاح لا تبدو مهمة سهلة وتصطدم بجملة من التحديات أبرزها اضطرار دول الخليج إلى مواصلة الإنفاق الحكومي، حيث يتردد الرأي العام المحلي في التجاوب مع نمط اقتصادي جديد بالنسبة إليه وقبول إجراءات مثل التقشف.

لندن – شرعت دول الخليج العربي في تنفيذ إصلاحات اقتصادية وحزمة مبادرات جديدة للاستعداد لمرحلة ما بعد نضوب النفط، الذي يعد المصدر الرئيس للإيرادات العامة في تلك الدول، بهدف الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي والبقاء في صدارة المنافسة العالمية.

وفي نظرة استشرافية لمستقبل دول الخليج في مرحلة “ما بعد النفط ” تراهن دول الخليج على الرأس المال البشري من خلال تحفيز شبابها ومواطنيها على الإنتاج وتشجيعهم على المبادرة وخلق فرص استثمارية دون الاكتفاء بالتعويل على العائدات النفطية.

وتعد خطوات كل من السعودية والإمارات رائدة في هذا المجال إذ بدأت كل منهما بالاستعداد للمرحلة المقبلة التي من المتوقع أن تتراجع فيها كميات النفط المنتجة ويتراجع الطلب عليه، حيث تكثفان جهودهما لعبور هذه المرحلة بأمان.

وتشكل عائدات النفط لدول مجلس التعاون الخليجي (يضم السعودية والإمارات والكويت وقطر والبحرين وعمان) 49 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، ما يعني أن التراجع في أسعار الخام سيؤثر اقتصاديا عليها برغم ما تحتفظ به من احتياطيات مالية ضخمة.

وحذرت وكالة “موديز” للتصنيفات الائتمانية، في مارس الماضي من أن انخفاض أسعار النفط يزيد من التحديات الائتمانية لدول مجلس التعاون الخليجي، وخاصة السعودية، الكويت، سلطنة عمان والبحرين.

ومنذ عام 2016 أطلقت الرياض وأبوظبي إصلاحات اقتصادية غير مسبوقة تتضمن تنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على الإيرادات النفطية، ومن شأن هذه الخطط أن تنوع الاقتصاد الوطني وتحقق توازنا بين قطاعاته بما يضمن استدامته للأجيال القادمة.

يتوقع المراقبون أن تحقق دول خليجية مثل السعودية جملة من أهدافها في إعادة هيكلة الحياة الاقتصادية لسكانها، حيث تعتمد الرياض على رؤية 2030 وهي بمثابة خارطة طريق لحماية وإنقاذ الاقتصاد السعودي في مرحلة ما بعد النفط

وأشار وزير الاقتصاد الإماراتي سلطان بن سعيد المنصوري، أواخر مارس الماضي، إلى أن الاقتصاد في الإمارات، الذي نما بنحو 1.7 بالمئة عام 2018 اعتمد “على النمو في الموارد النفطية الناتجة عن ارتفاع أسعار النفط العالمية من ناحية، والنمو في أنشطة القطاعات غير النفطية من ناحية أخرى”.

وفي حين أن هذه الخطط تبدو ناجحة من ناحية نظرية غير أن تطبيق مثل هذه الإصلاحات الصعبة يحتاج المزيد من الوقت، وجني ثمارها قد يستغرق عدة عقود، أمام تردد الرأي العام المحلي في التجاوب مع إجراءات قاسية مثل التقشف.

ولاقت إجراءات التقشف في الكويت رفضا من المعارضة السياسية بعد أن قررت الحكومة تقليص الدعم الهائل الذي تمنحه لمواطنيها، في إطار محاولتها ترتيب الحياة اليومية على واقع الدخل الجديد. ولجأت المعارضة إلى إجراءات تعطيلية من أجل أن تبطئ الوتيرة التي تعمد بها الحكومة إلى تطبيق سياسة التقشف، وفي الوقت الذي تقدم فيه المعارضة بدائل حقيقية.

وبيّن أنس خالد الصالح نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء في تصريحات سابقة أن تقليص الإنفاق وفر للكويت 3.3 مليارات دولار في السنة المالية (2016 – 2017) رغم التحديات التي يعانيها الاقتصاد جراء هبوط أسعار النفط.

صحيح أن دول الخليج العربي تعد من بين أثرى دول العالم، لكن قياداتها السياسية أدركت أن التنويع الاقتصادي واعتماد إصلاحات هيكلية أمر لا بد منه إذا ما أرادت تحقيق ازدهار بعد عصر ذروة الطلب على النفط.

دول الخليج تراهن على رأس المال البشري
أنس خالد الصالح: تقليص الإنفاق وفر للكويت 3.3 مليارات دولار في السنة المالية (2017-2016) رغم التحديات التي يعانيها الاقتصاد جراء هبوط أسعار النفط
ومع ذلك، تواجه الإصلاحات التي تبتغيها الدول الخليج جملة من التحديات. إذا يبدو من الصعب إقناع مواطنيها بتغيير نمطهم الاقتصادي والدخول في سياسات اقتصادية جديدة بعد أن اعتادوا على دعم حكومي هائل، وامتيازات توظيف في القطاع العام. وعليه فإن برنامج إعادة الهيكلة الاقتصادية في دول الخليج لا يبدو مهمة سهلة.

ويلفت مراقبون إلى أن المواطن الخليجي يحتاج إلى وقت ليستوعب أن الدولة شرعت في تحميله جزءا من أعباء الإنفاق بعد أن كانت تتحمل لوحدها هذه الأعباء لعقود. وهو أمر سيخرجه من حالة الاسترخاء إلى عالم جديد يتحمل فيه مسؤولية نسبية أو تضامنية مع أعباء الإنفاق في الدولة.

إصلاحات اقتصادية
حسب معهد ستراتفور الأميركي المختص في الشؤون الأمنية قد تواجه دول الخليج العربية صعوبات في طريق الإصلاح الاقتصادي التي تطمح إليه.

ولتجنب سيناريو الفشل فإن دول الخليج مطالبة أثناء شروعها في تفعيل استراتيجية الإصلاح الاقتصادي، بالعمل على تعزيز دور رعاياها كمواطنين نشطين ومنتجين وعبر تحفيزهم على التضامن والشراكة اللازمين بين المواطنين والدولة لتجنب أزمة اقتصادية متوقعة إذا ما استمر تراجع أسعار النفط.

ورغم هذه المخاوف يتوقع المراقبون أن تحقق دول خليجية مثل السعودية جملة من أهدافها في إعادة هيكلة الحياة الاقتصادية إلى سكانها، حيث تعتمد الرياض على رؤية 2030 وهي بمثابة خارطة طريق لحماية الاقتصاد السعودي في مرحلة ما بعد النفط.

ورؤية السعودية 2030 هي خطة ما بعد النفط، أعلنتها المملكة في أبريل 2016. وتستهدف خفض اعتمادها على النفط كمصدر رئيس للدخل، وتنويع الإيرادات المالية.

وضمن الرؤية، أطلقت الحكومة السعودية مجموعة من البرامج أبرزها “التحول الوطني” و”التوازن المالي” الهادف إلى تحقيق ميزانية متوازنة بحلول عام 2020. وتوفر حزمة الإصلاحات الاقتصادية الجديدة التي تعتزم السعودية تنفيذها، “على الأقل 100 مليار دولار سنويا بحلول 2020، وستضاعف المداخيل غير النفطية للسعودية بثلاث مرات”.

ولا يتوقف الأمر عند ذلك، بل يمتد إلى رفع قيمة أصول صندوق الاستثمارات العامة من 600 مليار إلى ما يزيد على 7 تريليونات ريال سعودي، مع رفع نسبة المحتوى المحلي في قطاع النفط والغاز من 40 بالمئة إلى 75 بالمئة ومن المستهدف زيادة حجم الاقتصاد السعودي وانتقاله من المرتبة الـ19 إلى المراتب الـ15 الأولى على مستوى العالم.

ويؤكد ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان صاحب هذه الإصلاحات أن خطة التحول ستزيد من رفاهية المواطن السعودي، وستخفض من تبعية الاقتصاد للنفط. وتأمل الأوساط الاقتصادية أن يتم السير على خطاها لدى العديد من دول الخليج العربي النفطية.

لكن رغم مساعي الإصلاح بدول الخليج لتغيير الاقتصاد هيكليا، فإن مواصلة تقديم الدعم المحلي وزيادة الإنفاق الحكومي قد تقوض هذه الجهود.

وقد طبقت الإمارات الضرائب على القيمة المضافة إلى جانب زيادات أجور القطاع العام في 2018 وقامت السعودية بإصلاحات خاصة بتنفيذ الضرائب إلى جانب الدعم المباشر كجزء من برنامج حسابات المواطنين في 2017 و2018، وأخرت سلطنة عمان تطبيق ضريبة القيمة المضافة وهي قضية تثير قلق السلطنة نظرا إلى حاجتها الملحة إلى الإصلاح.

وفي جميع أنحاء الخليج العربي، نفذت الدول تغييرات هيكلية لتحسين الإنتاجية، وتقليل الاعتماد على القطاع العام كوسيلة للتوظيف وزيادة إيرادات الدولة إلى ما وراء الهيدروكربونات، غير أن تقديم امتيازات ودعم جديدين يقوض هذه الإصلاحات.

وأخرت مجموعة الدول التي تخشى عدم تجاوب شعبي إعادة الهيكلة الاقتصادية الضرورية، التي كانت تنوي اتباعها، حتى بعد أن أشارت إلى المشروعات الضخمة والاستثمارات الأجنبية كدليل على نجاح برنامجها الاقتصادي.

وواصلت دول الخليج سياسة الدعم والإنفاق الحكومي، والتي تغرس الاعتماد على الدولة بين السكان، مما يقلل من فرص قدرتهم على المشاركة في أي تحول اقتصادي في بلادهم. ولم تقم أي دولة خليجية بكسر هذا النمط بعد، خاصة في وقت أدى فيه ارتفاع أسعار النفط إلى تقليل الحاجة الفورية إلى الإصلاح الهيكلي.

وتخطط السعودية لزيادة الإنفاق الحكومي إلى أعلى مستوى له على الإطلاق عند 1.11 تريليون ريال (295 مليار دولار) هذا العام، من 1.03 تريليون في 2018، في مسعى لتحفيز النمو الاقتصادي الذي تضرر جراء أسعار النفط المنخفضة نسبيا. غير أن صندوق النقد الدولي حذر السعودية من أن زيادة الإنفاق ستعرض ميزانية المملكة للانكشاف في حال انخفاض أسعار النفط بشكل غير متوقع.

تحد سكاني وأمني
يعد الارتفاع السكاني أحد أبرز التحديات التي تواجهها دول الخليج العربي. وأكدت دراسة لصندوق النقد الدولي صدرت عام 2016 أن دول مجلس التعاون الخليجي سجلت أسرع معدلات النمو السكاني في العالم خلال العقد الماضي ومنتصف هذا العقد.

وأظهرت أن معدل تزايد سكان دول الخليج، جاء أعلى بنحو 4 مرات من نظيره في الولايات المتحدة، وأعلى 7 مرات من الصين، ونحو 10 مرات من دول الاتحاد الأوروبي. وأرجعت الدراسة سبب ذلك النمو إلى تدفق العمالة الأجنبية التي تشكل الآن نسبة كبيرة من سكان دول مجلس التعاون الخليجي. وتوقعت الدراسة أن يواصل عدد سكان دول مجلس التعاون الخليجي نموه وأن يرتفع عدد السكان في دول المجلس بنحو 30 بالمئة بحلول عام 2020.

ويرى محللون أن هذا الارتفاع السكاني يطرح تحديات كبيرة لمواجهة متطلبات نمو الاستهلاك وتوفير الوظائف والسكن، وهي تحديات تتطلب جهودا مضاعفة وإصلاحات اقتصادية هيكلية.

وأشار الخبير الاقتصادي حسن العالي في تصريحات صحافية إلى أن هذه المؤشرات تقتضى من دول مجلس التعاون الخليجي إجراء مراجعة شاملة لسياساتها السكانية، بهدف تحقيق توازن سكاني في دول المجلس لتلافي أي خلل في التركيبة السكانية، إلى جانب تحقيق توازن بين المناطق في كل دولة بهدف الحد من الهجرة الداخلية إلى المدن، وتنمية رأس المال البشري من خلال توفير الرعاية الصحية والاجتماعية والتعليم والتدريب بالمستويات الملائمة وزيادة المشاركة الاقتصادية للمواطنين والإناث وتطوير النظام التعليمي بما يتفق مع احتياجات سوق العمل.

وتابع بقوله “لا بد من التأكيد على الجهود الحالية التي تبذلها دول المجلس من أجل تفعيل الاستراتيجية السكانية الموحدة لدول المجلس خصوصا أن هذه الاستراتيجية تستهدف، وفقا لما هو معلن، تهيئة اقتصاديات دول المجلس للتكيف مع توجهات ‘العولمة’ ومرحلة ما بعد قيام منظمة التجارة العالمية والتعامل بإيجابية مع ما تثيره من تحديات وتتيحه من فرص، وكذلك تطوير أساليب التخطيط بدول المجلس في ضوء المستجدات الدولية والإقليمية، والتأكيد على البعد التكاملي والتعاون بين دول المجلس عند التخطيط للتنمية”.

وبدورها تقوض التهديدات الأمنية، التي تقف وراءها إيران بهدف زعزعة استقرار دول الخليج وسائر المنطقة العربية، طريق الإصلاح المجتمعي والاقتصادي في الوقت الذي تسعى فيه دول كالسعودية إلى تبني صورة جديدة من خلال شن اصطلاحات جريئة في عمق المجتمع السعودي.

ورغم أن قطر الدولة الخليجية والعضو في مجلس التعاون الخليجي انحازت للمحور الإيراني والتركي بدل أن تنضم إلى الجهود الخليجية لردع هذه التهديدات فهذا لم يمنع بقية دول الخليج من دعم جهود الوحدة الخليجية وتعزيز خطط الشراكة.

وعلى العكس من ذلك فهذه التهديدات بدل أن تشتت دول الخليج زادت من وحدتها وأججت المشاعر القومية التي ترفض المساس بأمنها ومعاقبة من يتجاوز ذلك.

ولتعزيز روابط الوحدة الخليجية تعول دول مجلس التعاون الخليج على تأسيس مبادرات مشتركة في مجالات حيوية وعلى جميع الأصعدة كالتعليم والاقتصاد والثقافة للحفاظ على هذه الهوية جراء تحديات العولمة والثورة الرقمية.

ويستنتج تقرير مركز معهد ستراتفور الأميركي أن هذه الحماسة الوطنية والإحساس بالمسؤولية يفرضان على القادة الخليجيين التفكير في سكانهم بطرق جديدة وعميقة واستشراف المستقبل السياسي والاقتصادي انطلاقا من التغيرات الإقليمية، ومراعاة الإحساس بالقلق من المستقبل في مرحلة مع ما بعد النفط، وهو ما يقتضي المضي في طريق الإصلاحات وإن كانت قاسية للحفاظ على رفاه المجتمع الخليجي.

العرب