لقد زوَّدتنا جبال الهيمالايا منذ زمن طويل بخط حدودي بديع، ورُغم أنها لم تعُد سدا منيعا كما كانت دوما، فإنها تظل فعَّالة بصورة لا بأس بها، ومن ثم لا يجب أن نسمح باختراق ذلك الحاجز”.
(جواهرلال نهرو، أول رئيس وزراء للهند (1947-1964))
على ارتفاع أكثر من أربعة آلاف متر فوق سطح البحر، وفي ظل وحشة الجبال المحيطة بالوادي، ساد صمت تام ومُعتاد لا يكسره سوى صوت مياه نهر “گلوان” الجارية في الأسفل. يكسر النهر قيود الجليد هُنا بدءا من مايو/أيار، حيث ترتفع درجات الحرارة إلى الصفر، وتعبره ببضع درجات في النهار، لتجري مياه النهر سريعا وتدُب معها الحركة في وادي “گلوان”. ليس النهر وحده مَن ينتظر قدوم الصيف ليكسر صمت الوادي، فالضباط والمهندسون يهرعون إلى تلك الأرض البعيدة والنائية العام تلو العام، في سباق بارد لبسط سيطرتهم الفعلية على المنطقة الواقعة قُرب الحدود بين الهند والصين: أبرز وأطول حدود دولية لم يُتَّفق على ترسيمها حتى اليوم.
بينما خيَّم الظلام على الوادي في ليلة السادس عشر من يونيو/حزيران الحالي، عثرت دورية للجيش الهندي على قوة صينية حدودية كان من المفترض أنها أتممت انسحابها من موقعها قبل أيام بعد أن ثبت وجودها بولاية لداخ الهندية لا منطقة التبت الصينية. كان ظهور القوة في موقعها نفسه من جديد مفاجأة توجَّه على إثرها عقيد هندي وجنوده لمطالبة القوة الصينية بالانسحاب، لكنّ عراكا عنيفا بالأيدي سرعان ما اندلع وأحدث إصابات طفيفة، قبل أن تنجح القوة الهندية في تهدئة الأوضاع وتفكيك النقطة الصينية وإجبار الصينيين على العودة إلى موقعهم المُتَّفَق عليه. على مرمى البصر، وبينما وقفت القوة الهندية تراقب المنطقة، لاحت في الأفق تعزيزات من الجنود الصينيين قادمة تجاههم، فتجمَّع على إثرها مئة جندي هندي واتجهوا للموقع الصيني لوقف تقدُّمِهم، لينشب عراك آخر أكثر دموية بالأحجار والأسلاك الشائكة والعصيان الحديدية سقط على إثره بعضهم في النهر، ولقي آخرون حتفهم تأثُّرا بجراحهم في ذلك البرد القارس. فقَد الجيش الهندي عشرين من رجاله طبقا لتصريحاته الرسمية، في حين التزم الصينيون الصمت وسط أنباء عن خسارتهم ستة عشر جنديا. كان ذلك أول اشتباك تنجُم عنه خسائر في الأرواح منذ عام 1975، وأكثر الاشتباكات دموية منذ عام 1967، لكن أيًّا من تلك الاشتباكات المحدودة لا تزال غير كافية لإجبار البلدين على ترسيم الحدود بصورة نهائية. (مصدر)
لقد اتفق الهنود والصينيون على ألَّا يتفقوا منذ عقود، تاركين سلسلة جبال الهيمالايا المنيعة للقيام بواجبها الذي أدّته لقرون طويلة من إعاقة البلدين عن الانزلاق لحرب شاملة، ومن ثمَّ امتد ما يُعرَف بـ “خط السيطرة الفعلية” (LAC) لأكثر من أربعة آلاف كيلومتر بمحاذاة جبال الهيمالايا، بدءا من الشمال عند ولاية كشمير، وصولا لأقصى الجنوب الشرقي حيث تلتقي حدود البلدين مع دولة ميانمار. للمفارقة، وكما يشي اسمه، تحرَّك خط السيطرة الفعلية باستمرار وفقا لسيطرة البلدين الفعلية على الأرض، وهي سيطرة كانت ولا تزال مرهونة بتحرُّكات الضباط البطيئة والدؤوبة لحيازة الأرض المرتفعة والوعرة، وإخضاعها للرقابة والدوريات العسكرية دون أن يلحظ الطرف الآخر، وكذلك بمشاريع البنية التحتية كالطرق والجسور؛ تحرُّكات ومشاريع أعاقتها الطبيعة بما منحته لتلك المنطقة من قسوة، وأعاقتها الكثافة السكانية الضئيلة بالتبعية، والتي جعلت من مد خطوط السيطرة والإمداد والطرق عبئا ماليا ضخما على بلدين يعجَّان بملايين الفقراء رُغم ما قطعاه من أشواط التنمية الاقتصادية، وتتركَّز الكثافة السكانية فيهما بعيدا جدا عن تلك المرتفعات النائية. بيد أن ارتفاع الأرض بالتحديد هو ما منح الحدود الهندية-الصينية أهمية جيوسياسية فرضت على البلدين هذا السباق البارد المستمر، إذ إن نجاح أحد البلدين في اعتلاء تلك القمم والتطلُّع للأراضي الشاسعة الخاضعة للطرف الآخر يُعَدُّ بمنزلة إمساكه من عنقه
“هندي تشيني بهاي بهاي” أو “الهنود والصينيون إخوة”؛ كان ذلك الشعار الأشهر للعلاقات الهندية الصينية إبَّان إعلان الجمهوريتين الهندية (باستقلالها عن بريطانيا عام 1947) والصينية الشعبية (عام 1949 بقيادة ماو زيدونج عقب انتصاره ورفاقه الشيوعيين على القوميين في الصين). طغت حماسة التخلُّص من الاستعمار وقيام الشعوب الآسيوية من سُباتها حينذاك على أي اعتبارات واقعية أمكن معها قيام صراع بين البلدين، أو هكذا ظن الهنود على الأقل، فقد حفلت لقاءات نهرو وجو إنلاي في ذلك الوقت بزخم الاعتراف بالجمهورية الصينية في المحافل الدولية والوحدة الآسيوية والرؤية المتباينة بين دلهي وبكين لكيفية النهوض بشعوب العالم الثالث، دون أن تتطرَّق بشكل جدي للمسائل الحدودية. وحده نهرو امتلك ذلك الإيمان الرومانسي الراسخ بالوحدة الآسيوية كقائد شكّلته معركته السياسية مع الاستعمار البريطاني وصداقته الطويلة مع غاندي، في حين ارتكزت رؤى ماو زيدونج وجو إنلاي على رؤية أكثر واقعية للقوة الصينية، شكّلتها معركتهما العسكرية في حرب أهلية طويلة مع إخوة لهم من البلد نفسه، انغمسوا خلالها في جغرافيا الصين السياسية والمحددات العسكرية لحمايتها وبسط الحُكم عليها. (مصدر)
بينما شُغِل نهرو بالترويج لتلك الصداقة في مطلع الخمسينيات، وبرحلاته المكوكية بين دول العالم الثالث، كانت الصين منشغلة بملف هضبة التبت وترسيخ سيطرتها هناك بعد أن استحوذت عليها عام 1951، ومن ثمَّ شرعت سلطات الدولة الصينية -بمواردها وكفاءاتها المحدودة حينذاك- بالعمل في صمت لتمد شبكة الطرق إلى تلك الهضبة الوعرة. لسنوات طويلة تمدَّدت السيطرة الصينية داخل منطقة “أقساي تشين”، والواقعة في شمال الهند حتى ذلك الوقت طبقا لـ “خط جونسون” البريطاني الذي رفضت الصين الاعتراف به، بل ولم تتمسك به الهند نفسها لصعوبة الوصول إليه، فلم يُرفَع فيه علم الهند قط. بدأت الصين بتدشين طريق سريع يمر عبر “أقساي تشين” ليربط بين شينجيانغ (تركستان الشرقية) وولاية التبت في تلك الفترة، دون أن تلحظ السلطات الهندية في زمن لم يكن يعرف بعد الأقمار الصناعية والرصد عن بُعد (1).
رئيس الوزراء الهندي جواهرلال نهرو (يمين) ونظيره الصيني جو إنلاي (يسار) في الخمسينيات
لم تكن ثمة طرق معبَّدة تقريبا تربط بين الصين والتبت عام 1951، بل كانت الطرق القديمة بينهما ثلاثة فقط منحتها الطبيعة لمَن يرغب بصعود الهضبة من الأراضي الصينية؛ من الشمال الشرقي عبر ولاية تشينغهاي (استخدمه المغول وقت غزواتهم)، ومن الشرق عبر سيتشوان، ومن الشمال الغربي عبر مدينة قشغر التركستانية مرورا بصحراء “أقساي تشين” الباردة والمرتفعة وشبه الخالية من السكَّان. افتُتِح طريقان سريعان -بين تشينغهاي والتبت، وبين سيتشوان والتبت- عام 1954، ويظل الأول حتى اليوم شريان الحياة الرئيسي الأكثر استخداما للدخول والخروج من التبت. رُغم نجاح هذين الطريقين، تمتَّع الطريق الطبيعي من قشغر بمزايا عديدة، أهمها صعوده التدريجي وصولا لارتفاع الهضبة (نحو 4600 متر) وثباته من بعد ذلك بشكل مستوٍ، على العكس من طريق سيتشوان-التبت مثلا، والمليء بالانعطافات حول الجبال وبين الوديان، والذي يصعد ويهبط مرات عديدة حتى يصل للعاصمة التبتية لاسا. علاوة على ذلك، تعاني الطرق الشرقية من هبوط كثيف للأمطار والثلوج سنويا، مما يعقِّد مهمة صيانتها وإبقائها مفتوحة طوال العام، في حين تتسم “أقساي تشين” بمعدل هبوط ضئيل للمطر والثلج رغم شتائها القارس.
تباعا، كانت صحراء “أقساي تشين” نقطة جغرافية مهمة لقبضة الصين في التبت بالنظر لسهولة نقل القوات واحتياجاتها عبر مدن التبت الحدودية طوال العام من خلال طريق قشغر-لاسا، ومن ثم ضمان إمداد لا ينقطع للجيش الصيني في الهضبة، وكذلك حماية منطقة الحدود مع الهند حال نشوب صراع معها -صراع لم تتصوَّره الهند أبدا، لكن الصين كانت تسير نحوه ببطء. يُضاف إلى ذلك خطر سيطرة الهند على تلك الصحراء؛ ما يستتبع فعليا دخولها بسلاسة إلى الهضبة إن أرادت مقابل تعقيد الوجود الصيني فيها. علمت الهند باختراق الصين لخط جونسون مرارا وتكرارا بدورياتها العسكرية منذ مطلع الخمسينيات، لكنها اختارت تجاهل الأمر لا سيَّما وأنها لم تمتلك آنذاك إمكانية بسط سيطرتها على تلك الأرض البعيدة. ولا نعرف حتى اليوم ما إن كان ذلك جزءا من ترجيح أهمية العلاقات مع الصين على حيازة تلك الصحراء من جانب الهند، أم تقليلا من شأن الاختراقات الصينية المؤقتة كما رآها الهنود لتعزيز حكم الصين في التبت، لكن الافتتاح الرسمي لطريق قشغر-لاسا عام 1957 أحدث صدمة في دلهي بدأت معه بوادر تغيُّر في السياسة الهندية؛ تغيُّر أتى متأخرا (2).
على مدار نهاية الخمسينيات كشف الحزب الشيوعي الصيني عن نيّاته تجاه التبت والحُكم الذاتي الذي مُنحَت إياه، وتلاشت وعودُه للهند بأن تلقى منطقة التبت معاملة خاصة بالنظر لتقاليدها البوذية، فقد رزحت تلك الهضبة الشاسعة ضئيلة الكثافة السكانية (تعدادها اليوم لا يتجاوز ثلاثة ملايين) تحت قبضة لم تنفك منها حتى اليوم. وهُنا يشير وزير الخارجية الهندي السابق جيوتيندرا ديكشيت إلى أن الدعم غير المشروط الذي منحته الهند للصين في المحافل الدولية وعزوفها عن دعم قضية التبت كان هدية بلا مقابل، في حين أمكن لنهرو في وقت مبكِّر أن ينتهج سياسة واقعية للضغط على الصين عبر التنسيق مع الولايات المتحدة، والتي اهتمت بملف التبت خلال تلك الفترة بالنظر للحرب غير المباشرة بينها وبين الصين في كوريا وفيتنام (3).
في عام 1959، بينما اشتعلت انتفاضة لسكان التبت ضد السلطات الصينية، اتخذت الهند خطوة رمزية وجريئة في آنٍ واحد باستضافتها لزعيم التبت الروحي الدالاي لاما، ليصبح لاجئا في مدينة دارمسالا شمالي الهند حتى يومنا هذا. منذ تلك اللحظة غضّت الهند الطرف عن المساعدات السرية التي أرسلتها الولايات المتحدة إلى سكان التبت في انتفاضتهم، لتبدأ فعليا سياسة هندية جديدة في الظهور من تحت مظلة مثاليةِ عدم الانحياز والصداقة الآسيوية. في العام نفسه، بدأت الاحتكاكات على الحدود غير الواضحة، فاصطدمت قوتان هندية وصينية بقرية “لونغجو” في الجنوب الشرقي للهيمالايا، وبعد شهرين اصطدمت قوتان مجددا عند نقطة “كونغكا لا” جنوب “أقساي تشين” مرت بها دورية شرطة هندية قبل أن يُطلق الصينيون النار عليها تاركين تسعة قتلى. تباعا، تبنَّى نهرو ما عُرِفَ بـ “سياسة التقدُّم”، أي بناء نقاط حدودية هندية في كل الجيوب الصغيرة المتنازع عليها كنوع من إعلان تمسُّك الهند بمواقعها على خط السيطرة الفعلية (4).
كانت سياسة كتلك بحاجة إلى قوة عسكرية صلبة تقف وراءها، لكن الهند ورثت جيشا لم تصقله حروب كبرى بالصورة نفسها التي صقلت بها نظيره الصيني. ومع تقدُّم الهند عبر نقاطها وتقدُّم الصين بمواجهتها، بالتوازي مع احتواء الهند لقضية التبت، استشعرت بكين أنها باتت في خطر، وفي وقت كانت تتعرَّض فيه للضغوط الأميركية في كوريا وفيتنام، قرّرت أن ترُد بحسم على أي طرف أراد فتح جبهة ثالثة. في عام 1962 أتى الرد قاسيا بحرب لم يتوقعها الهنود شنّها الجيش الصيني شمالا وجنوبا، وتلقّت فيها الهند الهزيمة الأسوأ منذ استقلالها، وفقدت فيها “أقساي تشين” بكاملها وولاية كاملة في الجنوب الشرقي (أرونتشال)، قبل أن ينسحب الصينيون من الأخيرة بعد نهاية الحرب. منذ تلك اللحظة وخط السيطرة الفعلية هو تقريبا خط 1962، وقد جرت المفاوضات باستمرار حوله بدءا من الثمانينيات، وحظي بنوع من الاعتراف القانوني حين ذُكِر في اتفاقات بين الطرفين أُبرمت عامي 1993 و1996، لكنها لم تُحقق سوى آليات للتفاهم الحدودي بخصوص عدم تجاوز خط السيطرة، بل وتنص على أن التفاهمات بشأن الخط لا ترقى لترسيم رسمي. ونصّت اتفاقية 1996 أيضا على عدم استخدام أي أسلحة في نطاق كيلومترَين من خط السيطرة، ليصبح خاليا من المسدسات أو المفرقعات أو غيرها. بيد أن ذلك لم يمنع الاشتباك -والقتل كذلك- بالأيدي والأحجار والعصي، ولم يحُل دون استمرار سباق البنية التحتية.
في أغسطس/آب من العام 2013، حلَّقت طائرة النقل العسكرية “C130J” التابعة لسلاح الجو الهندي نحو “دولت بگ أولدي” المرتفعة، والواقعة على مقرُبة من خط السيطرة الفعلية، لتلمس عجلاتها الأرض بسلام في أعلى مهبط للطائرات في العالم. “إنه استعراض متميِّز لقدراتنا.. سنكون في موقع أفضل لتلبية احتياجات القوات البرية المعتمدة على الجسر الجوي في تلك المناطق العالية والخالية من السكان”، هكذا أشار بيان القوات الجوية الهندية، مشيرا بوضوح إلى أن الهبوط تمَّ في منطقة “أقساي تشين” ما من أحد يقطن تلك النقطة، والتي لا تحوي سوى مهبط الطائرات والمنشأة العسكرية المحيطة به، والسبب بالطبع جوُّها القارس الذي أردى أحد ملوك المغول قتيلا في عودته من إحدى الغزوات مانحا النقطة اسمها: “دولت بگ أولدي”، وتعني “مات أمير الدولة”. (مصدر)
مجددا، في ارتفاعها تكمُن أهميتها، فقد عكفت الهند على مد طريق جديد يربط “دولت بگ أولدي” بمدينة “لِه” عاصمة ولاية لداخ. ويسير الطريق الجديد المُفتَتَح العام الماضي بالقُرب من خط السيطرة في معظم أجزائه، وبفضله باتت الرحلة من “لِه” إلى “دولت بگ أولدي” تستغرق ست ساعات فقط بدلا من يومين. لم تتوقف مشروعات الهند عند ذلك الطريق، بل امتدت مؤخرا إلى ربطه بوادي “گلوان” عبر جسر يعبر النهر، ويقف قبل خط السيطرة بسبعة كيلومترات ونصف؛ الأمر الذي دفع بالصينيين للاعتراض في جولات التفاهمات المعتادة. وادي “گلوان” دون غيرِه يُقلق بكين لأنه النقطة الوحيدة التي تمنح وصولا مباشرا إلى “أقساي تشين” بالمقارنة مع بقية المحيط الوعِر لتلك الصحراء المرتفعة. (مصدر)
منذ بضعة أشهر، أمسكت الصين بزمام المبادرة، وقررت عبور الخطوط المتَّفَق عليها، واحتلت جيوبا جديدة تصل مساحتها إلى خمسين كيلومتر مربع فيما يُعد جزءا من ولاية لداخ، كما زادت من أعداد القوات بشكل ملحوظ غير معتاد في الدوريات الحدودية، وشرعت في بناء طرق وثكنات جديدة لا يبدو أنها ستكون مؤقتة. بدأت الاحتكاكات بين الطرفين في مايو/أيار حين منعت دورية صينية نظيرتها الهندية من العبور قُرب بحيرة “بانغونغ” التي اعتاد الطرفان تبادل الأدوار حولها، قبل أن تقوم بالتصعيد الأخير قبل أيام، بالتوازي مع إعلان سيادتها على وادي “گلوان” كاملا، بل وأشارت تقارير صحافية عدة بأنها تحاول تغيير مجرى نهر “گلوان” لحيازة المزيد من الأرض. (مصدر)
ينما نَعَت الهند قتلاها من الجنود في الحادث الأخير، أتى ردُّها عن طريق مهندسيها لا جنودها، إذ أصدرت هيئة الطرق الحدودية أوامرها بإنهاء أعمال الجسر الدائم فوق نهر “گلوان”، معلنة تمسُّكها بالمشاريع التي لاقت اعتراض الصينيين، وحقها في تعبيد أي منطقة تقع في نطاق السيطرة الهندية. بعد ثلاثة أيام من الحادث، افتُتِح الجسر بالفعل، والذي سيتيح نقلا أسرع للقوات بما في ذلك المركبات والدبابات، إلى عُمق الوادي، وسيُشكِّل خط حماية إضافيا لطريق “دولت بگ أولدي” المعرَّض للخطر حال نجحت مساعي الصين للسيطرة على الوادي، فالجيش الصيني يستطيع قطع الطريق بسهولة إذا ما نشَبَت حرب جديدة بين البلدين، لكنه الآن يقف بمواجهة تحرُّك سريع للقوات الهندية المتمركزة بصورة أفضل قُرب الجسر الجديد. (مصدر)
جنازة أحد الجنود الهنود الذين ُقتلوا في اشتباك على الحدود مع القوات الصينية في منطقة لاداخ
ليس وادي “گلوان” نقطة الصراع الوحيدة، بل ثمة نقطة أخرى تبعد نحو ألفي كيلومتر إلى الجنوب الشرقي بمحاذاة الهيمالايا أيضا، لكنها تجلب مملكة بوتان الهادئة والصغيرة إلى ساحة الصراع بين العملاقين. إنها هضبة دوكلام، الخاضعة لسيطرة بوتان والمتاخمة لحدودها مع الصين، والمُتنازع عليها هي الأخرى وفق الادعاءات الصينية، حيث ترغب الصين في الاستحواذ عليها مقابل التنازل عن بقية ادعاءاتها في شمال بوتان، في حين تُشكِّل الهند ضغطا كبيرا على بوتان لكيلا تفرِّط فيها. وبوتان بالطبع هي الدولة الأقرب للهند في المنطقة، وتحوي أراضيها المئات من ضباط الجيش الهندي لحمايتها، على العكس من نيبال صاحبة العلاقات المتأرجحة بين بكين ودلهي، والتي توتَّرت علاقاتها مع الهند مؤخرا أيضا بسبب خلافات حدودية صغيرة. (مصدر)
تكمُن أهمية هضبة دوكلام في نُقطة تلِّ “زمفري” الذي سيسمح لمَن يسيطر عليه بالقدرة على التحرُّك العسكري اليسير نزولا من التل ونحو ممر سيليجوري المحوري للهند. وممر سيليجوري هو شريط ضيق يبلغ عرضه 22 كيلومترا داخل الأراضي الهندية، ويربط بينها وبين ولاياتها السبعة الصغيرة الواقعة في الشمال الشرقي، والتي يرتبط بعض قاطنيها ثقافيا ولغويا بميانمار والتبت، لتصبح تلك المنطقة بمنزلة “التبت” الهندية من حيث حساسيتها الجغرافية والديمغرافية. ومن ثمَّ فإن سيطرة الصين على تلك النقطة كانت ولا تزال خطا أحمر في إستراتيجية الهند، إذ يستطيع الجيش الصيني بسهولة أن يسيطر على ممر سيليجوري إذا تمركز فيها عسكريا. (مصدر
كعادته، شرع الجيش الصيني بالتمدُّد الصامت عبر المناطق التي يدَّعي السيادة عليها دونما سيطرة فعلية، وبدأ في يونيو/حزيران 2017 بمد شبكة الطرق الصينية داخل هضبة دوكلام مقتربا من تل زمفَري، مما دفع بالجيش الهندي لتحريك قواته ووقف أعمال البناء قبل أن تدخل إلى أراضي بوتان. تلت تلك الواقعة زيادة في التعبئة العسكرية على جانبي الحدود الصينية الهندية، فقد رصدَت الأقمار الصناعية نقل صواريخ الدفاع الجوي الصينية “HQ-9” قُرب المنطقة، وتدشين ممر جديد لهبوط الطائرات وثمانية مهابط للمروحيات في قاعدة شيغاتسِه بمنطقة التبت، مع نقل طائرات عسكرية وطائرات مُسيَّرة إليها، وزيادة الحركة العسكرية في قاعدة لاسا. من ناحيتها، عزّزت الهند من تجهيزات قاعدتيها الجويتين الأقرب لدوكلام (هاسيمارا وسيليجوري)، ونقلت لهما طائرات سوخوي المقاتلة، والمزوَّدة بإمكانية إطلاق صواريخ “براهموس” المطوَّرة بالاشتراك مع القوات الروسية. (مصدر)
على امتداد آلاف الكيلومترات وبارتفاع آلاف الأمتار، يستمر الصراع البارد إذن بين الهند والصين من أجل السيطرة على ما أمكن السيطرة عليه من أودية وتلال في تخوم الهيمالايا. إنه صراع يعكس سباقا جيوسياسيا بين قوتين صاعدتين، ليُعيد إلى الأذهان صراعات القوى الأوروبية قبل الحرب العالمية، وثيقة الارتباط بالأرض عموما والبنية التحتية خصوصا. وهو صراع يشي كذلك بمكامن الهشاشة المستمرة لدى الدولتين في ترسيخ حُكمهما على مناطق وعرة جغرافيا، لا يزال سلطان الدولة الحديثة -الصينية كانت أم الهندية- عاجزا عن الهيمنة الشاملة عليها، ومناطق منفصلة ديمغرافيا أيضا بأعراقها ومذاهبها المتنوِّعة، والمختلفة عن الكُتل السكانية الرئيسية للصين والهند.
يتراقص خط السيطرة الفعلية في مساحة تبدو عالقة إستراتيجيا في القرن العشرين، وستظل عالقة فيه وفي حساباته الباردة واشتباكاته العسكرية الكلاسيكية لوقت طويل. لا حاجة هُنا بالطبع إلى السلاح النووي، ليس فقط لأن كليهما يملكه وبالتالي تسري عليهما قاعدة الردع المتبادل، بل ولأن استخدامه في تلك المرتفعات النائية عديم الجدوى؛ فلا أحد يريد ضجيجا أو تدميرا ليُجبر الآخر على الخضوع، بل إن البناء في صمت وتعزيز المواصلات والاتصالات لُب الصراع في تلك المنطقة. الصراع هُنا أشبه بسباق سيارات لا بمباراة ملاكمة، فالمطلوب صناعة سيارة كفء وعبور خط النهاية أولا، لا خسارة الخصم بضربة موجعة، وإن كان الضرب أثناء السباق مشروعا كما أثبتت حرب 1962.
يظل احتمال الحرب المفتوحة ضعيفا، ولكن يظل ترسيم الحدود في إطار تسوية شاملة احتمالا أضعف. لوقت طويل، سيمضي البلدان في صراعهما البارد والمحدود لأنه ببساطة يواكب رغبة كلٍّ منهما في التشكيل المستمر لبنية المناطق الخاضعة لسيطرته الحديثة، وربما الرغبة في حيازة أراضٍ جديدة كما تكشف التحرُّكات الصينية في السنوات الأخيرة. في يونيو/حزيران 2020 كانت الأحجار وعصي الحديد سلاحا كافيا لتشتعل اشتباكات وادي گلوان، وتودي بحياة عشرات من جنود البلدين، في رمزية تشي بمدى “كلاسيكية” الصراع المستمر حول الهيمالايا: المنطقة الوحيدة في العالم اليوم التي يبدأ فيها اشتباك عسكري باللكمات
الجزيرة نت