جامع الرحمن نقطة صراع بين الأحزاب العراقية الحاكمة

جامع الرحمن نقطة صراع بين الأحزاب العراقية الحاكمة

لا شيء يعدّ في معزل عن التجاذبات السياسية والصراعات الحزبية في العراق، فحتى المنشآت الدينية والسياحية الكبرى التي راهنت سلطات البلاد في ما مضى على إنشائها لتصبح قبلة عالمية، وقعت ضحية الأحزاب الشيعية التي تعيق تقدم البلاد وترهن استكمال المشاريع بغايات سياسية ومواقف تفاوض من أجل فرضها بالقوة على حساب القانون والقرارات الحكومية.

بغداد – مر نحو ثمانية عشر عاما على سقوط نظام الرئيس صدام حسين، ورغم ذلك لم تتمكن السلطات العراقية من استكمال أحد أهم المشاريع التي بدأ تشييدها منذ التسعينات، وحالت الصراعات الحزبية والنفوذ الشيعي الذي أدخل البلاد في دوامة صراعات لم تنته بعد، دون إنهاء جامع الرحمن، لا بل عرقلة كل الإجراءات القانونية المتخذة من قبل السلطات بخصوص الجامع.

ويتوجه المصلون الشيعة كل جمعة لأداء الصلاة إلى جامع الرحمن العملاق، أحد آخر المشاريع الكبيرة لنظام صدام حسين في بغداد والذي تم تشييده لينافس تاج محل، لكنه لم يكتمل حتى الآن بسبب الصراعات بين مختلف الأطراف السياسية والدينية.

بدأ العمل في تشييد جامع الرحمن في أواخر تسعينات القرن العشرين في خضم حصار اقتصادي فرضه الغرب على العراق، في خطوة شكلت تحديا لواشنطن. لكنه لم يكتمل بينما أطاح الغزو الأميركي بنظام صدام حسين في 2003.

وصمم الجامع لاستقبال 15 ألف مصلّ وكان يفترض أن يكون أحد أكبر المساجد في الشرق الأوسط.

وحتى يومنا هذا، ما زالت هناك فجوة كبيرة مفتوحة على السماء، بينما كان يفترض أن تتوسط المسجد في هذا المكان قبة وسطى من الخزف المزين بالذهب، يبلغ ارتفاعها 84 مترا.

في المقابل، تبدو القباب الثانوية الثماني التي تحيط بالبناء الرئيسي ويبلغ ارتفاع كل منها 28 مترا، شبه مكتملة. وتضم كل من هذه القباب 14 قبة أخرى يبلغ ارتفاعها 14 مترا.

وتعتبر سيسيليا بيري الباحثة المشاركة في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى، أن المسجد جزء من “سياسة رمزية معمارية” نفذها النظام السابق.

وتقول المختصة بهندسة العمارة في بغداد خلال القرن العشرين إنها “مرحلة ثانية من تخليد صدام لبغداد: خلال التسعينات واستغلال الدين: أضع (عبارة) الله أكبر على العلم وأبني المساجد”.

لكن المهندس مازن الألوسي رئيس دائرة التصاميم للمشروع في عهد النظام السابق، يشعر بالفخر بهذا المبنى، ويقول إنه “الفريد من نوعه”.

صبيح القشطيني: لا يمكن بناء الجامع دون إبعاده عن صراع الأحزاب
وأكد الألوسي الذي غادر البلاد بعد اشتداد العنف الطائفي مطلع 2005، أن “المبالغ اللازمة لإكمال بناء المسجد، ليست كبيرة بالدرجة التي يتصورها البعض”، معربا عن أمله في أن يكون المسجد قبلة للوحدة “يصلي فيه الشيعة والسنة على حد سواء”.

من جانبه، يقول المهندس المعماري محمد قاسم عبدالغفور “للأسف فرطنا بالإرث القديم وتراث البلد”، مؤكدا أنه “كان يفترض أن تكون هذه المشاريع ملك العراقيين جميعا، وإرثا يجب الاستفادة منه وتحويله إلى مواقع ثقافية وسياحية”.

وأضاف عبدالغفور وهو أستاذ جامعي أيضا، أن “هذه أموال العراق ويجب أن تستفيد الدولة منها ماديا ومعنويا كونها أموال وأملاك جميع أبناء البلد”.

وبني المسجد سنيا لكنه تحول بعد سقوط النظام السابق عام 2003، إلى محور صراع بين أطراف من الشيعة الذين يهيمنون حاليا على السلطة في بغداد بعد عقود من التهميش.

ونقلت وكالة فرانس برس عن مسؤول حكومي لم تسمّه قوله إن “المسجد سيطر عليه حزب الفضيلة بعد سقوط النظام السابق ولم يقم بتطويره بسبب الإمكانيات الهائلة التي يحتاجها إتمام بنائه”.

حزب الفضيلة هو واحد من جملة الأحزاب والتيارات الشيعية التي تأسست بعد عام 2003، في إطار ديني يقوم على فكرة تقليد الأتباع للمرجع الديني في دينهم ودنياهم، ما يكسب رجل الدين هالة يختلط فيها الشأن الحياتي اليومي بالمقدس.

وشارك الحزب وزعيمه محمد اليعقوبي في العمليات الانتخابية المختلفة التي شهدها العراق بعد 2003، واستأثر بوزارة العدل في حكومات متعاقبة، حتى صارت تسمى باسمه.

وأكد المسؤول أن هذا الحزب وقف “عائقا” أمام مشاريع حكومية لتحويل هذا الجامع إلى جامعة أو متحف، موضحا أن “صدام أراد أن يجعل منه تحفة فنية تضاهي تاج محل الشهير”.

وينفي الحزب رسميا استيلاءه على المسجد على الرغم من توجه أنصاره لأداء الصلاة هناك كل جمعة.

وتسكن منذ سنين نحو مئة وخمسين عائلة في منازل عشوائية في الأراضي المحيطة بالمسجد، في ظل عجز الحكومات المتعاقبة عن إبعادها لأنها تدين بالولاء لحزب الفضيلة.

وحصل الوقف الشيعي الذي يملك العديد من العقارات في عموم البلاد في يناير العام الماضي، على قرار قضائي بانتقال ملكية الجامع له.

جامع الرحمن تحول إلى محور صراع بين أطراف من الشيعة الذين يهيمنون على السلطة في بغداد بعد عقود من التهميش

كما طالبت المحكمة حزب الفضيلة بدفع تعويضات تصل إلى أكثر من 313 مليار دينار عراقي (176.5 مليون يورو)، حسبما ذكر بيان للمؤسسة الشيعية.

واتهم البيان، الحزب باستغلال الموقع لأكثر من ستة عشر عاما وإدارته من جانب واحد “دون وجه حق قانوني وشرعي”. لكن هذا القرار القضائي لم ينفذ.

ويقول الباحث والمراقب صبيح القشطيني إن “الجيش والشرطة تدخلا أكثر من مرة لكن قوة سلاح الأحزاب توازي سلاح الدولة”، مؤكدا أنه “لا يمكن بناء الجامع دون إبعاده عن صراع الأحزاب”.

ولا تزال العديد من رافعات البناء مثبتة في مواقع مختلفة من المبنى.

وتفيد إحصائية أجرتها هيئة النزاهة بأن العدد الكليَّ للعقارات التي تعرضت لتجاوزات أو اعتداءات في بغداد والمحافظات، باستثناء إقليم كردستان، بلغ 31 ألفا و378 عقارا.

وأوضحت الهيئة أنَّ “العقارات العائدة إلى الدولة التي تمَّ التجاوز عليها في بغداد والمُحافظات تُصنَّفُ بنايات وأرضا زراعيَّة وساحات وقوف للسيارات ومحلات، ودورا وشققا سكنيَّة وأرصفة وشوارع عامّة ومدارس وساحات عامة ومنتزهات”.

ويؤكد الوقف بأنه يمكن توفير 20 ألف فرصة عمل، بفضل الاستثمارات التي يمكن إقامتها كمراكز تجارية أو مجمعات سكنية على الأراضي المحيطة بالمسجد. لكن بانتظار ذلك، لم يتغير الوضع.

العرب