أنهى الرئيس الصيني شي جين بينغ ترتيب أوراقه الداخلية بتعزيز قبضته على الحزب الشيوعي الصيني الحاكم التي أوصلته إلى حقبة ثالثة على رأس الحزب في ختام مؤتمره العام الـ20 في تشرين الأول/أكتوبر 2022 وكرَّسته في تعديل لميثاق الحزب «زعيماً جوهرياً» مُرسِّخة «أفكاره كمبادئ توجيهية للتنمية المستقبلية للصين» ومؤكِّدة «موقعه ودوره المحوريَّين» داخل الحزب ولجنته المركزية، مما أمَّن له أيضاً في العاشر من آذار/مارس ولاية ثالثة في رئاسة البلاد بإجماع أصوات البرلمان في غياب أي منافسة.
تبنّى الحزب الشيوعي الصيني بعد ماو تسي تونغ رؤية لتطوير الصين. بدأ مسار التحديث والانفتاح مع دينغ شياو بينغ الذي قاد الصين بين 1978 و1992 ونَقلَ البلادَ من الاقتصاد الموجَّه إلى اقتصاد السوق، وأسهمَ خلفه جيانغ زيمين بين 1993 و2003 بتسريع الانفتاح وتحوُّل «التنين الأصفر» إلى قوة عالمية، وتتناقض النظرة إلى مرحلة «هو جينتاو» الذي تولى زمام السلطة عام 2003 بين إعادة ضبط إيقاع اندفاعة زيمين وبين ضياع السنوات العشر من حكمه الذي أعقبه صعود «شي» عام 2012 حاملاً ما يصفه بـ»الحلم الصيني». في زمن شي، جرى تعديل الدستور بشطب تقييد مدة الرئاسة بولايتين، فاتحاً بذلك الطريق أمام التجديد له. وخلال انعقاد المؤتمر العشرين لـ«الحزب» جرى إخراج الرئيس السابق – الذي كان يجلس على المنصة إلى جانب «الزعيم» – بطريقة مهينة من دون أن يرفَّ لشي جفن، وهو ما اعتُبر رسالة أمام أعين الكاميرات للداخل والخارج.
«الحلم» بالنسبة لشي جين بينغ هو إيصال الصين لتكون القوة الاقتصادية الأولى في العالم متجاوزة الولايات المتحدة والغرب في هذا الموقع. وتحدِّد رؤيته مرحلتين لتحقيق ذلك، الأولى بحلول العام 2035 بحيث تنضم إلى مصاف الدول المتقدمة المتوسطة، والثانية مع حلول العام 2050 لانتقالها إلى دولة عظمى. تربَّعت أمريكا على عرش قيادة العالم في نظام أُحادي القطبية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991. وفتح انتهاء الحرب الباردة الباب أمام شراكة استراتيجية بين أمريكا والصين، لكن طموحات بكين لتكريس «الدولة العظيمة» مع الذكرى المئوية لتأسيس جمهورية الصين الشعبية في العام 1949 دفع واشنطن إلى وضع استراتيجية لمواجهة «حلم الصين» وقطع الطريق على تحوّلها رافعة أو قائدة لتعديل في النظام الدولي القائم.
تحتل الصين المرتبة الثانية بناتج محلي إجمالي يصل إلى 14 ألف مليار دولار، فيما يصل الناتج المحلي الأمريكي إلى نحو 22 ألف مليار دولار. ورغم أن لدى بكين فائضاً مالياً يوفِّر لها قدرة استثمارية وتوظيفية في الخارج بخلاف واشنطن، لكن اقتصادها الذي يُوصف بأنه «مصنع العالم» يقوم على رأسمال غير محلي ما يربط قدراتها الإنتاجية بالتمويل والاستثمار الغربي وخصوصاً الأمريكي، والأوروبي، والآسيوي (اليابان وكوريا الجنوبية) ما يُفقدها عامل الاستقلالية ويجعلها ضمن دائرة الضغوط. كما أن الصين تفتقد إلى موارد الطاقة حيث تستورد قرابة 85 في المئة من احتياجاتها من الخارج وتحديداً من آسيا (المملكة العربية السعودية وإيران) وراهناً من روسيا بشكل متزايد، ومن آسيا الوسطى (كازاخستان وقيرغيزستان) وتعتمد في مرتكزاتها الاقتصادية على الأسواق الخارجية، وأكبرها السوقان الأمريكي والأوروبي، مقارنة مع الأسواق الأخرى، وإنْ كانت قد أطلقت مشروع «الحزام والطريق» بُغية تسريع إيصال منتوجاتها إلى الأسواق العالمية من خلال شبكة طرق برية وبحرية تغطي 66 دولة في قارات آسيا وأوروبا وأفريقيا.
تلك العوامل، في قراءة مطلعين، تُصَعِّب على الصين تجاوز أمريكا كمنافس لها، فضلاً عن أنها تعتمد في منتجات عدة، سواء أكانت عسكرية أم مدنية، على صفائح إلكترونية تستوردها من الخارج، وتُنتج تايوان قرابة 85 في المئة منها وفق «شيفرة» أمريكية. ويقول هؤلاء المطلعون إن اعتماد واشنطن لتايوان كمصنع للصفائح الإلكترونية من حيث المواد الأولية، والتقنيات، واليد العاملة الرخيصة إضافة إلى الشيفرة الأمريكية، هو أحد دوافعها الرئيسية وراء عدم السماح بسيطرة الصين على تايوان لتفادي استيلائها على تلك القدرات الإلكترونية لتلك الجزيرة التي هي جزء من الصين، فيما تُدرك بكين أن الانطلاق نحو الريادة العالمية يحتاج إلى استعادة تايوان. وقد ظهرت أهمية المسألة التايوانية من خلال تضمين ميثاق الحزب بنداً بضرورة «محاربة جميع المحاولات الانفصالية التي تدعو إلى استقلال تايوان وكبحها». وإذ أكد شي جين بينغ، في تقريره لمؤتمر الحزب، على مبدأ «التوحيد السلمي» و«دولة واحدة ونظامان» كأفضل نهج لإعادة التوحيد بين جانبي مضيق تايوان، قال إنه «لن يتعهد بالتخلّي عن اللجوء إلى القوة والاحتفاظ باتخاذ جميع التدابير اللازمة في هذا الشأن».
وفي رؤية شي مقاربة دائمة للعصر الجديد، وهدف تحقيق «دولة اشتراكية حديثة وعظيمة على نحو شامل» التي يقول الزعيم الحاكم إن من المتطلبات الاستراتيجية لبنائها تقوية الجيش ليصبح جيشاً من الدرجة الأولى ولرفع القدرة الاستراتيجية في الدفاع عن سيادة الدولة وأمنها ومصالحها التنموية. ويضرب موعداً لجهوزية الجيش في الـ2027 مع الذكرى المئوية لتأسيسه.
ما يلفت إليه متابعون هو أن الداخل الصيني سيسير على الأقل لفترة رئاسية ثالثة، وربما أكثر، على أفكار وتوجهات «القائد الأول» في الحزب والدولة، بعدما أحاط نفسه بقيادة موالية لخطته الاستراتيجية تعزيزاً للنفوذ الصيني المتنامي، وحماية لدور الصين وموقعها الذي تستحقه في النظام العالمي، بما يتعدى الدور الاقتصادي إلى ما هو سياسي وعسكري. حجَّم خصومَه حاملي وجهات النظر المختلفة حيال التنمية الاقتصادية، والتي ظهرت بقوة مع سياسة الإغلاق وما أنتجته سياسة «صفر كوفيد» من أضرار على الاقتصاد وانكماش وكُلفة، في وقت اعتبر البعض أن سياسة «صفر كوفيد» كانت جزءاً من مخطط شي لإضعاف ما يُعرف بـ»جماعة» أو «زمرة شنغهاي» التي استمدت نفوذها من الرئيس السابق زيمين، الذي قاد عملية الإصلاح الاقتصادي، وفتح الطريق أمام جذب الاستثمارات الغربية إلى الصين وجعلها قاعدة إنتاج و«مصنعاً للعالم» من دون التطلُّع إلى لعب أي دور سياسي انسجاماً مع الثقافة التاريخية للصين.
عَـزَتْ مديرة برنامج الصين في مركز «ستيمسون» الأمريكي للأبحاث «يون سون» تجنُّب شي أي مبادرات في سياسته الخارجية في الـ2022 قبل إنجاز مؤتمر الحزب إلى رغبته بعدم توريط الصين في نزاع قد يُضعِف موقفه في المعارك السياسية الداخلية. وتوقعت – بعد الاطمئنان على مستقبله السياسي – أن يسعى إلى إعادة ترسيخ القوة الصينية في مجالات ذات أولوية استراتيجية بالنسبة لبلاده، وستتصدر النزاعات في غرب المحيط الهادئ رأس القائمة، حيث التوترات بين الصين وكوريا الجنوبية، والصين واليابان، والصين وأمريكا حول تايوان، وحيث تُعزِّز واشنطن تحالفاتها وشراكاتها لمواجهة دور بكين. ورجَّحت سون أن تُصبح المنطقة بأسرها أكثر توتراً في ضوء تلكُّؤ الصين في المفاوضات مع دول جنوب شرق آسيا لإعلان وثيقة لقواعد التحرُّك في بحر الصين الجنوبي، التي من شأنها إرساء قواعد للنشاط البحري، وإيجاد آلية لتسوية النزاعات بشأنها.
على أن أولى مبادرات الرئيس الصيني، يوم انتخابه رئيساً في العاشر من آذار/مارس، كانت باتجاه الشرق الأوسط مع الإعلان عن اتفاق صيني – إيراني – سعودي لعودة العلاقات الدبلوماسية في غضون شهرين بين الرياض وطهران، يُقدِّمها ضامناً للاتفاق الذي من شأنه، إذا قُيّد له النجاح، أن يُخفِّض من حدة التوترات التي تشهدها المنطقة منذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران.
ثمَّة مَن يعتبر أن «الاتجاه غرباً» هو سياسة صينية لمواجهة «الاتجاه شرقاً» التي تعتمدها الولايات المتحدة في استراتيجيتها لاحتواء «التنين الأصفر». وقد شكَّل توقيع اتفاقية الشراكة الاستراتيجية مع إيران في آذار/مارس 2021 التي تمتد على مدى 25 سنة باستثمارات تصل إلى 450 مليار دولار، خطوة متقدمة في وجه النفوذ الأمريكي الحاضر بقوة في المنطقة، على طريق التنافس الاستراتيجي بينهما في هذه البقعة من العالم. واعتُبرت زيارة الرئيس الصيني إلى المملكة العربية السعودية والقمم الثلاث التي عقدها (سعودية وخليجية وعربية) في كانون الأول/ ديسمبر 2022 بأنها «الخطوة الدبلوماسية الصينية الأكبر والأرفع مستوى مع العالم العربي منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية» وفتحت مزيداً من أبواب التعاون الاقتصادي، ولا سيما أنَّ السعودية جزء من مشروع «الحزام والطريق».
استفادتِ الأطرافُ الثلاثة (بكين – الرياض – طهران) من التحوُّلات الجارية جراء الغزو الروسي لأوكرانيا والانخراط الأمريكي – الغربي فيها. سيُعزِّز نجاح الصين في لجم إيران من مكانتها في العالم العربي وفي المنطقة. ولكن رغم أنها منذ سنوات الشريك التجاري الأول للمملكة التي تُعد أكبر مُورِّديها من النفط، فإن الولايات المتحدة تبقى إلى أجل طويل الحليف الاستراتيجي الأول للرياض والخليج والقوة العسكرية الأكبر في الشرق الأوسط.
ثاني الخطوات التي يقوم بها الرئيس الصيني تتمثل بزيارته، في العشرين من الشهر الجاري، موسكو لإجراء محادثات قال الكرملين إنها لتطوير الشراكة الشاملة والتفاعل الاستراتيجي بينهما على الساحة الدولية. يذهب شي إلى موسكو، وقد سبقه مقترح صيني بإنهاء الحرب في أوكرانيا، وتأكيد من الخارجية الصينية بأن بكين ستتمسك بموقف موضوعي وعادل حيال تلك الحرب. لا مؤشرات بأن المقترح الصيني لديه حظوظ حقيقية. الاعتقاد السائد لدى متابعين أن شي سيحثُّ بوتين على إنهاء الحرب بعدما انكشفت روسيا في قدراتها العسكرية، ما أَخْرَجَها من نادي الدول العظمى، تماماً كما التحقتْ أوروبا بشكل أكبر بأمريكا. وعلى رغم إعلان الرئيسين الروسي والصيني عن تعاون غير محدود خلال زيارة بوتين إلى الصين في افتتاح الألعاب الأولمبية الشتوية قبل الغزو، فإن بكين – وإنْ أظهرتْ اصطفافها الاستراتيجي إلى جانب موسكو – نَحَتْ عن تزويدها بالسلاح والدعم خوفاً من العقوبات الأمريكية. اليوم يعتبرُ شي أن اليد الطولى أضحت له في أي مسألة تتعلق بالجانبين. فالغزو الروسي لأوكرانيا عزَّز موقع الصين على موقع روسيا التي خاضت حربها لخلق وقائع جديدة تؤكد مكانتها كدولة عظمى وبالتالي تستعيد شراكتها في النظام العالمي. ربما أضحت اليوم فرص تحقيق عالم متعدِّد الأقطاب أقل، لمصلحة «ثنائية قطبية» أمريكية – صينية، غير أن الكثير من المراقبين يؤكدون أن تبلور معالم النظام العالمي سيتحدَّد في ضوء النتائج التي ستُفضي إليها الحرب في أوكرانيا.
تُعوِّل الصين بزعامتها الحالية على فُرص استراتيجية جديدة لديها على وقع ما يجري من تعديل عميق في ميزان القوى الدولية وتسارع وتيرة التغيرات الكبيرة التي لم يشهدها العالم منذ قرن، وتطوُّر الجولة الجديدة من الثورة العلمية والتكنولوجية والتغيير الصناعي بشكل مُعمَّق» وفق تعبير شي الذي رسم مسار بلاده لتكون دولة عظمى بعد ربع قرن. دولة قد لا تتقدَّم بإمكاناتها على أمريكا، لكنها ستبني هيكلية شراكتها في النظام العالمي.
القدس العربي