بغداد – قدم رئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني تعهدات بتنفيذ خمس أولويات، يتطلب بعضها سياسات رقابية صارمة، كما يتطلب بعضها الآخر تمويلات، ولكنه لم يذكر من أين سيأتي بالمال لتنفيذها، طالما أن الموازنة التي تم إقرارها مؤخرا تلحظ عجزا يقدر بنحو 63 تريليون دينار، ما يعادل 49 مليار دولار.
وهو ما دفع بعض المراقبين إلى القول إن السوداني منذ توليه رئاسة الحكومة في أكتوبر الماضي يميل إلى تقديم وعود دون أن يشفعها بأرقام، ودون أن يظهر أي دليل عليها في الموازنة، حتى لتبدو وكأنها وعود انتخابية أكثر منها برنامج عمل قابلا للتنفيذ.
وقال السوداني في مقابلة تلفزيونية محلية إن حكومته تحرص على تنفيذ خمس أولويات تتمثل في “معالجة الفقر، ومواجهة البطالة، ومكافحة الفساد المالي والإداري، بالإضافة إلى تقديم الخدمات والإصلاح الاقتصادي، كما أن هناك أولوية أخرى تقضي بالإسراع في إنجاز المشاريع المعرقلة منذ سنوات”.
إذا أرادت الحكومة تنفيذ مشاريع استثمارية لتقليص الفقر والبطالة فإنها ستكون بحاجة إلى اقتراض المزيد من الأموال
وقد وعد السوداني أيضا بأن تشمل الحماية الاجتماعية 42 ألف أسرة نازحة، وكذلك تخفيض الأجور الدراسية للطلبة المشمولين بالرعاية الاجتماعية في الجامعات الحكومية للدراسة المسائية والجامعات الأهلية.
وإضافة إلى أن قضية مكافحة الفساد المالي والإداري لم تتخذ بشأنها إجراءات تؤدي إلى الإطاحة برؤوس الفساد الكبرى المعروفة في العراق، ووكلائها المنتشرين في البرلمان والمؤسسات الحكومية والمصرف المركزي، بمن فيهم الجهات التي تحوم حولها شبهات تنفيذ ما صار يعرف بـ”سرقة القرن”، تتطلب الأولويات الأخرى استثمارات لا توفر الموازنةُ التي تم إقرارها مؤخرا غطاء ماليا كافيا لتنفيذها.
وبدا السوداني وكأنه يستجمع بعض الإمكانيات المتفرقة عندما قال إنه يمكن للبلاد توفير 3 مليارات دولار، في حال تشغيل مصفاة كربلاء بطاقة 140 ألف برميل يوميا، والتي كانت تذهب إلى استيراد مشتقات النفط.
وتبلغ موازنة العراق للعام الجاري 198.9 تريليون دينار (153 مليار دولار)، ولكن العجز فيها يبلغ أكثر من ضعفي العجز المسجل في موازنة عام 2021. ويذهب أكثر من ثلثي الموازنة إلى تغطية تكاليف الرواتب والإنفاق الحكومي، وهو أمر سبق أن أثار العديد من التساؤلات حول سبب تضخم العجز بما لا يتناسب مع معدلات التوظيف الجديدة في البلاد.
وتراهن الحكومة في تغطية العجز على الاقتراض. وهو ما يعني أنها لو أرادت أن تنفذ مشاريع استثمارية تؤدي إلى خفض معدلات الفقر والبطالة، فإنها ستكون بحاجة الى اقتراض المزيد من الأموال.
ويفسر خبراء اقتصاديون سبب تضخم الموازنة والعجز والحاجة إلى الاقتراض بأنها حلقات مترابطة تتعلق بمستويات إنفاق ينخرها الفساد، بما يشمل مئات الآلاف من الوظائف ورواتب التقاعد الوهمية التي تستفيد منها الميليشيات والأحزاب السياسية، لاسيما وأنها أحزاب تدفع رواتب لأعضائها، وليست كباقي الأحزاب التي تعتمد على تبرعات أعضائها.
وقال مدير ديوان الرقابة المالية السابق صلاح نوري إنَّ “تنفيذ بنود قانون الموازنة سيكون وفقاً للسيولة المالية الفعلية، خصوصاً في ما يتعلق بالمشاريع الاستثمارية”. وتابع “جميع الموازنات السابقة لم تتمكن من تحقيق الإيرادات المتوقعة، ولأنَّ السيولة المالية أقل بكثير مما هو متوقع؛ فإنَّ الأولوية تعطى للموازنة التشغيلية من رواتب ونفقات حاكمة”.
وأضاف نوري أنه “إذا ما تطلب تنفيذ جميع بنود الموازنة؛ فستكون تغطية السقف المالي لها عبر الاقتراض، وأنَّ المشاريع الاستثمارية لن تكتمل على الأغلب”.
153 مليار دولار موازنة العراق للعام الجاري ولكن العجز فيها يبلغ أكثر من ضعفي العجز المسجل في موازنة 2021
ومن جانبه قال المستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء مظهر محمد صالح “إن نسبة العجز ستكون مسيطراً عليها من خلال عدة أبواب، منها الفائض النقدي المتراكم للأشهر السابقة فضلاً عن إصدار السندات الحكومية والاقتراض الداخلي”.
وكان مجلس النواب أقرَّ في 12 يونيو الجاري موازنة لثلاثة أعوام تعتمد في 83 في المئة من إيراداتها على النفط. وذلك على أساس سعر يبلغ 70 دولارا للبرميل. وفي حال تراجع سعر النفط فإن العجز سيزداد.
ولكن ما يعد “واقع حال” هو أن الحكومة لا تملك أموالا كافية لتنفيذ مشاريع استثمارية. ولأجل تجاوز عقدين من الفشل المتواصل تضطر إلى الاستعانة باستثمارات خارجية لتنفيذ المشاريع المعطلة والمشاريع التي ترغب الحكومة في القول إنها قامت بتنفيذها، بأموال الآخرين ومساهماتهم، وليس بأموالها الخاصة.
ويقول مراقبون إنه على الرغم من أن المشاريع الاستثمارية الأجنبية، وخاصة تلك التي تنفذها الدول الخليجية، تعد منفذا حيويا لإخراج العراق من دائرة الفشل التي أحاطت به على امتداد سنوات ما بعد غزو 2003، إلا أن الحكومات العراقية كان بوسعها، لو لم يغلب عليها الفساد، أن تنفذ جانبا مهما من هذه الاستثمارات.
ويمتلك العراق فائضا نقديا يبلغ نحو 110 مليارات دولار. وبينما يُستخدم جانب منه لتوفير المرونة للمصرف المركزي لتمويل الإنفاق الحكومي، وتسديد أقساط الديون الخارجية، فإن جانبا آخر منه مازال بالوسع استثماره في تنفيذ مشاريع اقتصادية تعز الحاجة إليها، في مجالات إصلاح البنية التحتية، وشبكات المواصلات والكهرباء، التي تعد قاعدة أساسية لخدمة المشاريع الاستثمارية التي تُمول من جانب المستثمرين الخارجيين. وما لم تنهض الحكومة بهذه الأعمال، فإن المشاريع الاستثمارية الخارجية نفسها يمكن أن تتعطل أو لا تؤتي أكلها في الوقت المناسب.
العرب