صحيح أننا نعرف الإرهاب عندما نراه. لكن التعامل مع خطورة الإرهاب العالمي المعاصر، بات بحاجة ماسة إلى مقاربات استشرافية لكيفية بناء نماذج صارمة، محايدة، واضحة، معبرة، بسيطة، بعيدة عن الانطباعات الشخصية والرغائبية، يعتمد عليها في الإنذار المبكر من إمكانية وقوع عمل إرهابي. لأن الإرهاب المعاصر، بمساعدة آليات العولمة المختلفة، بات يؤثر في جميع مناحي الحياة اليومية للبشر، فلم يعد من المقبول انتظار رؤية الإرهاب وهو يدمر الدول والمجتمعات وحياة البشر.
تعد عملية بناء المؤشرات الخطوة الأولى والأهم في عملية الإنذار المبكر وتحليل المخاطر، وبناء الخطط والتكتيكات والاستراتيجيات لكيفية التعامل مع ظاهرة الإرهاب العالمي ومكافحتها. وهي على درجة عالية من الأهمية بالنسبة لمنظومة طويلة من العمليات والنشاطات الحساسة للدول والمجتمعات والأفراد في حقبة العولمة الحالية وفي المستقبل؛ ابتداء من السياحة والسفر، والاستثمار الخارجي والداخلي وبيئة الأعمال، والتعليم، حتى الهجرة واللجوء.
ولا نغالي إذا ما قلنا إن الجزء الأكبر من مشكلة دراسة الإرهاب العالمي الآن يتمحور حول إشكالية تحديد مؤشرات الإرهاب “الكمية”. وتأتي طبيعة هذه الإشكالية من جوهر مفهوم الإرهاب نفسه، واختلاف وجهات النظر بشأنه، وضمن ذلك سيطرة وجهة النظر الغربية والأميركية تحديداً في حقل الدراسات والأبحاث في هذا المجال.
ولأن هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 أدينت على نطاق واسع عالميا، ولم يعد من السهل التسامح السلبيّ مع الإرهاب، أو التغاضي عنه من قبل الجهات الرسمية في العالم، فقد استغلت أميركا هذا الوضع بأن قولبت دراسة الإرهاب بشكل عامّ، ومؤشراته بشكل خاصّ، وفق منهجيتها الخاصة التي يمكن القول إنها المنهجية الأبستمولوجية السائدة حالياً، ألا وهي “المنهجية الوضعية” بتجلياتها المختلفة؛ سواء الواقعية الجديدة، أو الليبرالية الجديدة، ومقاربات الرئيس الحالي باراك اوباما “الهجينة”، إذ تستقي من الأطياف السياسية الأميركية المعاصرة كافة.
الإرهاب فعلٌ ذو خلفية وأبعاد سياسية. وهو ليس إلا شكلاً من أشكال العنف واستخدام القوة. ويخضع تعريفه ومعالجته ومكافحته، وتمييزه عن غيره من أشكال العنف الأخرى، لاعتبارات سياسية محكومة بالبيئة السياسية الدولية والظروف التاريخية والموضوعية السائدة. وهو في ذلك كله مرتبط بقيمة الأمن التي تعدّ إحدى القيم الأساسية في العلاقات الإنسانية، وموضوعاً جوهرياً في النظرية السياسية، على الرغم من تعرضه للإغفال من جانب منظّري العلاقات الدولية في المدرسة “الوضعّية” التي أغرقته في بحر من المسائل الغائية، مثل: استراتيجية الردع، والسياسة الدفاعية، ودبلوماسية الإكراه والقسر، ومدارس “ما بعد الوضعّية” التي تخلط ما بين الأخلاق والأيديولوجيا.
ونقصد بمؤشرات الإرهاب، تلك المؤشرات الخاصة بالقياس الكمّيّ (القياس الذي يعتمد الإحصاءات والأرقام) للظاهرة، ويستخدمها الباحثون والمهتمون والخبراء، إن على مستوى الأفراد أو مراكز الدراسات والأبحاث الحكومية أو الخاصة، أو مراكز الأبحاث الجامعية أو الدراسات الأكاديمية المتخصصة التي نشطت بشكل منقطع النظير بعد هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001.
وعلى الرغم من إجماع الباحثين على أن دراسة ظاهرة الإرهاب ليست بالجديدة الحديثة، إلا أنه ولأسباب كثيرة، أصبح الخطر الذي يشكله الإرهاب العالمي، خاصة بعد ظهور تنظيمي “القاعدة” و”داعش” حاليا، أكثر من ذي قبل.
ويلاحظ أنه على الرغم من أهمية ظاهرة الإرهاب واتجاهاته المعاصرة، إلا أنه لا تتوافر لدى الخبراء والباحثين والدارسين للظاهرة مؤشرات يعتدّ بها من حيث الشمول والمصداقية. ذلك أن هناك عدداً من الإشكاليات التي تعيق وتعقّد مسألة بناء المؤشرات. وأهمّ هذه الإشكاليات أن معظم المعلومات عن الإرهاب تأتي من المصادر المفتوحة (الصحافة ووسائل الإعلام الأخرى)، وفي حالات محدودة من مصادر رسمية. لذلك، فإن مسألة إجراء “دراسات كمية” للظاهرة، أو بحث مسائل مثل دوافع الإرهاب، والخصائص النفسية للإرهابيين، واتجاهات الظاهرة الجغرافية،غير موجودة، فضلاً عن بناء مؤشرات لها. وبشكل عامّ، فإن المتوافر من معلومات وبيانات لدراسة الظاهرة أو بعض الأحداث الإرهابية لا يعدو أن يكون تقارير صحفية وسجلات الشرطة أو الأمن، أما المعلومات والبيانات الصحيحة والموثقة والدراسات حولها فإنها تحفظ في خزائن الأجهزة الأمنية بشكل سريّ، ولا تصل إلى أيدي الباحثين المهتمين (إلا ما ندر) بدعوى حماية الأمن القوميّ.
يضاف إلى ذلك مشكلة تداخل حقل الإرهاب مع حقول أخرى من الدراسات، مثل علم النفس، وعلم الاجتماع، والاقتصاد، والعلوم السياسية.
وعليه، فليس هناك نظريات خاصة بدراسة الإرهاب كظاهرة، كما أن معظم الدراسات حول الإرهاب تعاني من الضعف والضحالة المنهجية، وليس هناك أيّ نموذج نظريّ متماسك لدراسة الظاهرة وبناء المؤشرات.
وما يزيد من الصعوبة والإشكالية في بناء المؤشرات، استمرار النظرة السطحية للظاهرة بشكل عامّ، أو حتى التقليل من شأنها، واستمرار “المناظرات” حول التقليل من دور الإرهاب وتأثيره على “بنية الدول وسلوكها”، كما استمرار الجدل والنقاش حول سيطرة الدولة، والبقاء في فضاء “النظرية الواقعية” في السياسة.
ويتجلى أثر النظرية الواقعية السياسية المسيطرة في أميركا في أنه يصعب تقريبا أن تجد دراسة جدّية تبحث في أثر الإرهاب على الأفراد، وبدلاً من ذلك فإن الأعمال الإرهابية ومؤشراتها تمّ التعامل معها كأنها من الكوارث الطبيعية (Natural Disaster). فعلى سبيل المثال، تعاملت الإدارات الأميركية مع أحداث إرهابية شهيرة مثل تفجير مركز التجارة العالميّ، وتفجيرات مدينة أوكلاهوما، وأحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، وغيرها الكثير، بالعقلية نفسها؛ أي كأنها هزة أرضية، أو فيضان، أو إعصار. كذلك، تتردد وتتجنب السياسة الأميركية قدر المستطاع، وصف عمليات الإرهاب الناشئ محليا، وعمليات ما يسمى “الذئب المنفرد” والجماعات المتطرفة الأميركية (مثل الأمة الآرية)، بأنها إرهاب داخلي، وبدلا من ذلك توصف بأنها جرائم كراهية.
ثم، هناك مشاكل ومعيقات أخرى تحول دون إجراء الدراسات العلمية للإرهاب وبناء المؤشرات، مثل الفصل بين إرهاب الدولة وإرهاب المجموعات والأفراد ضد الدول. ومعظم الدول تعطي نفسها حق الردّ على العمليات الإرهابية باسم “الحق في الدفاع عن النفس”، وحماية المصالح الوطنية، وتحرم غيرها من هذا الحق. ويرتبط بهذه النقطة بالذات أن الكثير من دراسات الظاهرة تركز على الإرهاب الدوليّ.
لذلك كله، فإنه وكما كان مفهوم الإرهاب مثار خلافٍ وتباين كبيرين، فإن مؤشرات الإرهاب تحمل التباين نفسه.
د.سعود الشرفات
صحيفة الغد الأردنية