مدرسة المعلِّمة العراقية مدمرة. الواجهة سوداء جراء احتراقها بعد تفجير انتحاري من “داعش”، وكل النوافذ مكسورة، وفي كل مكان تشاهد علامات حرب دمرت تعليم الأولاد مثلما مزقت النسيج المجتمعي في الموصل.
تنتظر سندس اليوسف بفارغ الصبر العودة إلى فصلها الدراسي في غرب الموصل، لتعليم دروس في اللغة العربية والحساب. وخلال أسابيع، سوف تستأنف الدراسة في عموم العراق.
ولكن، حتى الآن وبعد ثلاثة أعوام من احتلال “داعش” الذي غير المناهج الدراسية، وبعد تسعة أشهر من هجوم القوات الأمنية العراقية الذي ترك مساحات شاسعة من غربي الموصل أطلالاً، ثمة علم عراقي يتدلى من سارية فوق أحد الأسطح ليشكل العلامة الوحيدة لمحاولة استعادة الكرامة.
تشكل إعادة إحساء النظام التعليمي المحطم في المدينة مجرد نافذة واحدة وحسب على المهمة الكبيرة المتمثلة في إعادة بناء الموصل من الركام. ويقول مسؤولون وتربويون إن هذه العملية هي استثمار حاسم إذا اريد لمستقبل العراق تجاوز سنوات الحرب والحرمان والصراع الطائفي.
وتقول ليلى علي، الناطقة بلسان صندوق رعاية الأمومة والطفولة “يونيسيف” التابع للأمم المتحدة: “لا يمكن تجاوز أهمية التعليم في دعم جهود المصالحة ومساعدة الأولاد في التعامل مع آثار الصدمة التي نجمت عما تعرضوا له”.
وتقول السيدة يوسف التي تعيش بالقرب من مدرسة البنات الابتدائية الجديدة في الموصل، حيث كانت تعلِّم، إن نصف مدرستها قد حرق ونهب النصف الآخر. وتضيف: “الآن لا يوجد أي قرار حول متى ستفتح المدرسة”.
وتقول يوسف، مشيرة إلى أن التسجيل في مدرستها هبط من 300 طالبة إلى مجرد 35 بين عشية وضحاها عندما احتل “داعش” الموصل في حزيران (يونيو) 2014، إن “داعش غير كل شيء، وغادرت 90 في المائة من الطالبات”.
وتقول إنها أجبرت على التدريس لعام واحد، ثم سُمح لها بقضاء آخر سنتين من احتلال “داعش” للموصل في البيت. وتضيف: “المشكلة هي أن وزارة التربية تريد عمل الكثير من الأشياء، لكنها لا تمتلك المال لتحهيز المدرسة والكتب. لقد أحرق داعش الكتب”.
من جهتها، تقدر الأمم المتحدة التي طلبت حوالي مليار دولار كمساعدة لمواطني الموصل، أن 15 منطقة سكنية من أصل 54 منطقة في غرب الموصل قد دمرت بالكامل، وأن 23 منها قد تضررت بشكل متوسط. وتشير الأمم المتحدة إلى أن الحاجة تمس إلى أكثر من 700 مليون دولار لإضفاء الاستقرار على تلك المناطق وجعلها قابلة للسكن.
وعلى الرغم من الضرر، أعيد افتتاح أكثر من 100 مدرسة مؤخراً في غرب الموصل، وهو ما مكن حوالي 75.000 طالب وطالبة من العودة للمدارس، وفق منظمة “يونيسيف”.
تذكر يوسف أرقاماً يتم تداولها بين التربويين، مؤداها أن 60 في المائة من المدارس في غربي الموصل تضررت، و40 في المائة من الطلبة “ليسوا هنا” ويفترض أنهم بين 950.000 موصلي هربوا من المدينة منذ تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، عندما شنت القوات العراقية هجومها المعاكس على “داعش”.
وكان نصف الموصل الذي يقع إلى الشرق من نهر دجلة قد “تحرر” رسمياً في شهر شباط (فبراير) بضرر أقل بكثير من الجانب الغربي. ومنذئذٍ أعيد افتتاح 400 مدرسة في الجانب الشرقي لاستيعاب 400.000 طالب، طبقاً للـ”يونيسيف”. وكان قد تم الإعلان عن تحرير هذا النصف الغربي يوم 11 تموز (يوليو) الماضي، على الرغم من وجود خلايا نائمة وألغام وعبوات ناسفة ما تزال توقع الإصابات.
حتى الآن، عاد ما يقدر بحوالي 60.000 شخص إلى الجانب الغربي من الموصل، بينما وعدت وزارة التربية بأن تعقد الامتحانات، التي كانت قد أُجلت في وقت سابق هذا العام، في 23 آب (أغسطس)، على أن تبدأ السنة الدراسية الجديدة في منتصف أيلول (سبتمبر).
لكن الآنسة يوسف لم تسمع سوى القليل عن الكيفية التي قد تعقد بها الامتحانات تحت ظروف هذا التدمير، ناهيك عن عن موجة الحر التي ترفع درجة الحرارة إلى 46 مئوية.
“أنماط من التشرد”
تقول يوسف إن هناك حقيقة واحدة تعلو على كل شيء في مدينة اشتهرت في عموم العراق بمكانتها التربوية ذات مرة: تدمير المباني، والفرض الدرامي لمنهاج دراسي داعشي جهادي يعلم الطلبة “طلقة زائد طلقة تساوي طلقتين”، والتشريد القاسي للعائلات ومجتمعات بأكملها، ويضاف إلى كل ذلك “تدمير 100 في المائة” من النظام التعليمي في غرب الموصل. وتقول إن ذلك يعني أن “يبدأوا من الصفر” في زمن ما بعد “داعش”.
وتضيف السيدة علي الناطقة بلسان “يونيسيف”: “فوّت الكثير من هؤلاء الأولاد ثلاثة أعوام دراسية، وكلهم يبدون شغفاً بالعودة إلى الصفوف الدراسية والتعلم والتطلع نحو مستقبل أفضل”.
في الفترة الأخيرة، صدر تقرير عن منظمة “يونيسيف” والذي رصد أثر الحرب على أطفال العراق. ولاحظ التقرير الذي صدر في حزيران (يونيو) الماضي أنهم “يعانون من ندوب الحرب الجسدية والنفسية. ويتكون نصف الذين يتلقون العلاج في مراكز معالجة الصدمة والإصابات بجروح ناجمة عن عيارات نارية أو شظايا في غرب الموصل من الأطفال”.
وجاء في تقرير اليونيسيف: “خلق العنف أنماطاً من التشرد والتدمير ودفع أكثر من مليون ولد وبنت إلى خارج المدارس، مما تركهم بمهارات أقل وجعلهم أكثر عرضة لخطر الغرق في الفقر”.
وحتى عملية “التحرر” من داعش يمكن أن تثبت أنها كارثية هي الأخرى كما اكتشفت هذه الضاحية الجنوبية الغربية، عندما كانت الأولى التي تستعيدها القوات العراقية في آذار (مارس) الماضي.
كانت قوات مكافحة الإرهاب العراقية قد أقامت قاعدة متقدمة في منزل يقع مباشرة عبر الشارع المفضي إلى المدرسة، والتي اجتذبت مركبة انتحارية لـ”داعش” يوم 11 آذار (مارس) والتي أسفرت عن مقتل خمسة أو ستة أشخاص، كما تتذكر عائلة يوسف. كما دمر ذلك التفجير مبنى المدرسة.
وبعد أقل من أسبوع، يوم 17 آذار (مارس)، أصبحت منطقة “الجديدة” ذائعة الصيت لسبب آخر: موجة سريعة من الضربات الجوية التي شنها التحالف بقيادة الولايات المتحدة، والذي استهدف مسلحين من “داعش” كانوا على أسطح المنازل والأزقة الضيقة، وتسبب في انهيار المباني على رؤوس مدنيين كانوا يحتمون في الملاجئ تحت الأرضية، مما أسفر عن مقتل أكثر من 200 شخص.
ندرة في الكتب
عندما فتحت المدرسة الابتدائية مؤقتاً في حزيران (يونيو)، برزت مشاكل متوقعة فيها. فإلى جانب فقدان معلمين وطلبة، كانت الإمدادات بطيئة في الوصول ولم تكن كافية أبداً.
وتقول يوسف إنه قد يكون هناك 20 كتاباً في المعدل لكل 90 طالبة. وبالنسبة لمساق الدراسات الاجتماعية، كانت هناك ثلاثة كتب وحسب لـ80 طالبة -وهي أعداد عنت المبالغة في الاعتماد على تعليم السبورة الأقل فعالية.
وتقول ساجدة محمود اليوسف، مفتشة التربية في غربي الموصل حتى العام 2003: “الآن لا يفهم الطلبة أي شيء لأن ‘داعش’ أثر على عقوله..”.
وتضيف ساجدة، وهي أخت المعلمة سندس: “لا يتوافر الطلبة على أحذية أو ملابس أو نقود؛ ومعظم منازلهم دمرت”. وفي العديد من الحالات يعنى مستوى التدمير أن الطلبة يجلسون على الأرض.
وتقول أيضاً: “لا توجد مقاعد دراسية ولا كراس. لماذ لا توجد كراسي؟ لأن ‘داعش’ أحرقتها للتدفئة في الشتاء وللطبخ”. وتحت حكم داعش “كانت هناك معاناة. كان كل شيء سيئاً. وكأنهم أرادوا القول -لقد فتحنا المدارس لغايات الدعاية”.
وكان قد تم الإعراب عن تحديات مشابهة وتفاؤل حذر في شرقي الموصل في شباط (فبراير) الماضي، بعد أسابيع من استعادة القوات العراقية السيطرة التامة. وكان القتال هناك أقل دماراً منه في غرب الموصل، حيث كان “داعش” قد أعلن عن قيام خلافته المزعومة في العام 2014 وحفر خنادق لغاية القتال حتى الموت.
ويقول السيد عصام محسن جيلي، مدير مدرسة الرسالة الإسلامية للذكور في شرقي الموصل للمونيتور، إن التعليم في الموصل كان في شهر شباط (فبراير) “فارغاً”، وإن الطلبة كانوا يعودون “باسوداد في قلوبهم وعقولهم”. ومنذ ذلك الحين، تدخلت منظمة اليونيسيف وغيرها من وكالات المساعدة الأخرى لمساعدة مدرسته ومدارس أخرى.
حريصون على البدء
تحولت مخاوف السيد جليلي السابقة الآن إلى تفاؤل بالنسبة للموصل. واعتماداً على مواردها، يتنبأ جليلي بأن يستغرق الأمر ثمانية أشهر حتى تتمكن مدارس غرب الموصل من التعافي. وقال إنه إذا كان هناك القليل من المساعدات من المنظمات غير الحكومية، “فسوف تحتاج لوقت أطول”.
وكانت وزارة التربية قد طلبت من الطلبة الذين هربوا من الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي العودة استعداداً للسنة الدراسية المقبلة. ويقول جليلي: “الوزارة تدعمهم، وذلك شيء جيد. الآن أصبح المجتمع يرفض ‘داعش’. لقد فقد الناس كل شيء بسبب ‘داعش’”.
ويتم الشعور بذلك الثمن الباهظ لتواجد “داعش” في مدرسة البنات في غربي الموصل، حيث يعرض المشهد من خلال النوافذ المحطمتين سيارتين مدمرتين وأكواماً من الركام في الشارع.
وفي الداخل، كومت الكراسي القليلة القابلة للاستعمال في الفصول الدراسية القابلة للاستخدام. وثمة العديد من الجدران التي اسودت بفعل الحرائق. وتبدو رائحة الحريق وكأنها دائمة.
لكن المعلمة يوسف متفائلة، وتقول إن المعلمات الثماني والطالبات الـ300 ينتظرن بفارغ الصبر اليوم الأول للدراسة عندما يحين.
وتقول: “إنني أتطلع إلى أن يكون كل شيء جاهزاً للطلبة”.
سكوت بيترسون
صحيفة الغد