ما من حربٍ في العالم لا تجلب معها المِحَن. فحتى ولو ربح “حزب الله” الحرب السورية، ستبقى الانقسامات الحادة بين الشيعة اللبنانيين. وقد أدّت الحرب إلى تفاقم ظاهرة الطائفية بطرق مختلفة. فيومًا بعد يوم، يزداد الفقراء في المنطقة فقرًا، في حين تحقّق الطبقة الوسطى استثمارات مربحة.
وينتشر الشعور بالإحباط والاستياء على نطاقٍ واسعٍ في صفوف فقراء الطائفة الشيعية، كما يساهم فشل الأحزاب السياسية الشيعية في تحسين معيشة أنصارها في تعزيز هذه العقلية. وقد انعسكت هذه الظاهرة في متاجر رسم الأوشام. فأصبحت الأوشام تمثيلًا أكثر شيوعًا وقوةً للإضطرابات الداخلية، لاسيما في الطبقات الفقيرة والشباب غير المتعلمين بما فيه الكفاية والعاطلين عن العمل وغيرهم من أفراد المجتمع المهمشين.
وازدادت شعبية الأوشام الدينية بسرعة بعد اندلاع الصراع السوري. وتحمل الكثير من هذه الأوشام دلالةً طائفيةً مرتبطة بالطائفة الشيعية. وتعكس هذه الدلالة الطائفية الواضحة، بعدّة طرق، استعداد الأفراد في المناطق الطائفية المحدّدة لشنّ أي معركة للدفاع عن مجتمعاتهم الدينية. وإنّ هذه الأوشام هي الأكثر انتشارًا في المجتمعات الفقيرة، وتميّز بالتالي أفراد الطبقة الدنيا أكثر عن نظرائهم من الطبقات الاجتماعية الأخرى الذين سعوا لفصل أنفسهم عن الفقراء بحسب الحي السكني أو المدرسة مثلًا.
وعقدت مؤخرًا مجموعة من الشباب الشيعة العاطلين عن العمل والمحرومين اجتماعيًا واقتصاديًا سلسلةً من الاجتماعات في الضواحي الجنوبية لبيروت. وعلى الرغم من أنهم لم ينضموا إلى صفوف “حزب الله”، ينتمي هؤلاء إلى دائرة انتخابية تدعم الحزب عادةً، وتُعرف عمومًا باسم “الحاضنات الشعبية”. وللتعبير عن إحباطهم إزاء أوضاعهم المعيشية والحرب السورية وللإشادة بأقوال الإمام الحسين عن الشجاعة والنبل في الحرب، وافق كلّ منهم على رسم وشم يحمل رموز الطائفة الشيعية. ويقول محمد، وهو صاحب متجر لرسم أوشام، إنّه في الفترة الممتدة من عام 2013 إلى عام ،2015 أظهر عدد كبير من الشباب اهتمامًا بوشم أجسادهم بصورٍ دينية. وقام هو وزميله بوشم 1700 شابٍ شيعي تقريبًا في خلال هذه الفترة. وانخفض الإقبال انخفاضًا حادًا عام 2016 ليصل إلى 200 شابٍ منذ أوائل عام 2016 حتى شهر آذار/مارس 2017.
ومن بين الأوشام الأكثر شيوعًا: “هبوا للانتقام للحسين” و”كلنا عباس يا زينب” و”خلّصنا يا بقيّة الله” و”يا زينب”. ويحصل الكثيرون على وشمٍ جديد لتغطية وشمٍ قديم لا يحمل أهميةً دينية. وكان الإمام الحسين وشقيقه أبو فاضل العباس نموذجَين تارخيَين للصبر في وجه الفقر والحرمان الاجتماعي، وهما المشكلتان السائدتان في ضواحي لبنان التي يهيمن عليها الشيعة. وهكذا يُبدي الشباب من خلال أوشامهم استعدادهم للتضحية باللحم والدم في ما يعتبرونه معركةً محبطة وطويلة في سوريا.
ويرتبط اهتمام الشباب بالأوشام بنتيجة الحرب، فينحسر هذا الاهتمام مع انحسار الحرب. ووفقًا لمحمد، عاد النشاط إلى سوق الأوشام بعد معركة عرسال في شهر تموز/يوليو الماضي.
وقد سمحت الأوشام لأبناء المجتمع الشيعي الفقير بالإنخراط في خطاب الحرب بأجسادهم، ما منحهم صوتًا كانوا يفتقرون إليه في السابق. وحسب المساحة من أجسادهم التي تغطيها الرموز والشعارات الدينية، تخيف رؤية أجسادهم الآخرين أحيانًا. ويقول محمد: “إنّ شكل الوشم على جسدي يثير الخوف. أعيش في بيئةٍ مليئة بالمشاكل حيث يستخدم الناس عددًا من الأسلحة الخفيفة. ويوصل الوشم رسالةً للآخرين بأنني قادر على الردّ على الاعتداء”.
وإنّ القدرة على إيصال هذه الرسالة مهمة أيضًا عندما يتعلق الأمر بالصراع الطبقي. فإن الحادث الذي وقع في منتصف عام 2016 والذي قامت فيه مجموعة من الشباب المقيمين في منطقة الحرش التي تعاني من الفقر باقتحام منطقة الجناح الثرية يعكس درجة الإحباط والغضب اللذين يشعر بهما الكثير من الشيعة الفقراء تجاه نظرائهم الأغنياء.
وقد حوّل حسين البالغ من العمر 24 عامًا جسده إلى لوحة رمزية تصوّر تاريخ الشيعة، مع الاقتباس “يا عباس” مكتوب على صدره. ووفقًا لحسين، تمثّل الصور التي تغطي جسده قدسية الشيعة وترتبط بالحروب في سوريا والعراق. ويوضح أنّ وشم الدمعة في زاوية عينه اليسرى يذكّره بحزنه على موت الإمام الحسين، كما يعكس إصراره على توفير قوته اليومي. ولكن للدمعة قصة أخرى، فغالبًا ما يستخدمها المراهقون كرمز إلى انخراطهم في العصابات المنتشرة في جميع أنحاء الأحياء التي يكثر فيها العنف والجرائم.
ويقول جعفر البالغ من العمر 20 عامًا إنّ الأحدات التي وقعت حيث يقيم في منطقة صبرا المعروفة بالجرائم تسببت في شعوره بالخوف: “يسيطر العنف على هذه المنطقة، ويتجول فيها المدمنون على المخدرات من دون أي عقاب”.
ولم تنفّذ الحكومة اللبنانية مشاريع إنمائية في ضاحية بيروت الجنوبية منذ عقود، كما لم تساعد الأحزاب السياسية الشيعية كثيرًا في هذا المجال. وأدّى ذلك إلى قيام ظروف مؤاتية للعنف. ويضيف جعفر: “نحن جاهزون لأعمال العنف لأنّ أوضاعنا المعيشية تجبرنا على ذلك”.
وفي الوقت عينه، تقوم الأجهزة الأمنية اللبنانية بمداهمات في المناطق الشيعية الفقيرة لإلقاء القبض على المجرمين بمن فيهم تجار المخدرات والأسلحة. وبينما ترسل الأجهزة الأمنية المئات إلى السجن، تفتقر إلى الموارد اللازمة لإعادة تأهيلهم. وتكشف نظرة سريعة على التقارير الأمنية الرسمية أنّ عددًا كبيرًا من الشباب المدانين وُلدوا في التسعينيات، ومن بينهم جعفر. وبحسب روايته، قد خذله نظام السجن، إذ قال: “دخلت إلى السجن بسبب سلوكي السيء وخرجت منه أسوأ بكيثر”.
وما يزيد الأمور سوءًا هو أنّ المظاهرات التي يقوم بها “المشاغبون” غالبًا ما تصبح عنيفة. ففي شهر آذار/مارس 2017، قامت منظمات المجتمع المدني اللبناني وعدد من الناشطين بتنظيم مظاهرات ضدّ زيادة الحكومة للضرائب. وأثناء المظاهرة، رمت مجموعة من الأشخاص الملثمين زجاجات المياه على رأس رئيس الوزراء سعد الحريري بعد وصوله ليدعو المتظاهرين إلى تشكيل لجنة لمناقشة مسألة الضرائب. وتسبّب سلوكهم بموجة من الاستياء بين النخبة تجاه تصرفات المجتمع المدني اللبناني. وانسحب بعد ذلك المتظاهرون من الشوارع خوفًا من تعرّضهم للخطر.
وعلى مدى سنوات طويلة، ادّعى كلٌّ من “حزب الله” و”حركة أمل” أنهما يمثلان مطالب الشيعة اللبنانيين وتطلعاتهم. وحاولا توطيد سلطتهما من خلال إشراك الفئات المهمّشة، ولكنهما باتا مؤخرًا يتجاهلان أنصارهما الفقراء ويقدمان لهم خدمات أقلّ. وعلى وجه الخصوص، يفتقد “حزب الله” لأي خطة لتحسين حياة الجماعات المحرومة، ما يساعد على تفسير انخراطه المتزايد في الحرب السورية كوسيلة لتشتيت الانتباه. وإنّ عمق الأزمة التي يعاني منها الفقراء غير واضح، ولكنها أخطر من أن استيعابها حاليًا.
وفي السنوات الأخيرة، اعتمد “حزب الله” على حملة إعلامية لتصوير تدخله في سوريا كحرب لحماية الشيعة في لبنان، وحشد الرأي العام لصالح هذه الحملة العسكرية. ومع ذلك، فإنّ هذه الجهود للتأثير على المجتمع الشيعي مقترنةً بالعسكرة المتزايدة بسبب الحرب لم تؤدِّ إلّا إلى مفاقمة المشكلة.
وحاولت وسائل الإعلام الموالية لـ”حزب الله” التعتيم على محنة المجتمع الشيعي اللبناني من خلال نشر النجاحات السطحية. وفي منتصف شهر حزيران/يونيو 2017، أطلقت محطة تلفزيونية مؤيدة لـ”حزب الله” حملةً إعلانية تصوّر ضاحية بيروت الجنوبية في حالة ممتازة بشوارع نظيفة ورجال شرطة ينظمون حركة المرور. كما حاولت الحملة تصوير تدخّل الحزب في سوريا كحرب استباقية ضد الارهاب وضرورية للحفاظ على استقرار ضواحي بيروت وجمالها. ومع ذلك، تمّ التصدي بسرعة لهذه الإعلانات من قبل شابة مناصرة لـ”حزب الله” كتبت تعليقًا على موقع فيسبوك أنّ الوضع في الضاحية أسوأ بكثير ممّا يصوّره الإعلان.
ومن المرجّح أن يتدهور وضع المجتمع الشيعي الفقير مع مرور الوقت، إذ إنّ الوضع في سوريا لا يزال يُلحق الضرر بالمجتمع الشيعي اللبناني. ويمكن أن تكون إحدى العواقب ولادة حركة تزرع فوضى أكثر ممّا هو موجود. ولا تتأثر الطبقة العليا إلى حدٍّ كبير بعواقب الانقسامات الطائفية في الوقت الحاضر. ومع ذلك، إذا اجتمعت هذه التوترات في حركة سياسية منظمة جديدة، ستشعر كل الفئات الاجتماعية والاقتصادية في لبنان بآثارها.
حلا نصر الله
معهد واشنطن