مع إقفال آخر مراكز الاقتراع مساء الاثنين الماضي، تجمعت حشود من الأكراد المبتهجين في ضاحية بولاق في كركوك. ولوحت عائلات بالأعلام الكردية من نوافذ السيارات، بينما صفق الرجال الشباب ورقصوا في الشارع. وكافح أمن أسايش الكردي لفرض نظام منع التجول، وصادر بندقية هجومية من امرأة كانت تطلق عيارات نارية منها في الهواء احتفاءً.
جاءت تلك الاحتفالات في أعقاب إجراء استفتاء مثير للجدل على الاستقلال الكردي، والذي لم يغط منطقة كردستان العراق التي تتمتع بحكم ذاتي وحسب، وإنما تجاوزها إلى مناطق متنازع عليها يسيطر عليها الأكراد راهناً وتطالب بها الحكومة المركزية العراقية أيضا.
أجري الاستفتاء برغم اعتراض سكان المدينة من التركمان والعرب والمسيحيين -وحتى مؤيدين أقوياء للاستقلال الكردي الذين أقروا بأن المدينة تشهد وضعاً متوتراً. وقال المواطن الكردي علي محمد البالغ من العمر 54 عاماً، وكان من آخر الناس الذين أدلوا بأصواتهم في مدرسة مخوت يوم الاثنين: “الجزء الأكثر حساسية لأي حوار مستقبلي بين الأكراد وبغداد سيكون وضع كركوك”، وأضاف أن كركوك “تلخص مشاكل العراق”.
لم تنطو مقامرة حكومة كردستان الإقليمية بإجراء استفتاء الاستقلال ضد إرادة الحكومة الفدرالية والجارتين تركيا وإيران، والكثير من دول المجتمع الدولي، على خطورة أكبر من المخاطرة بالأراضي المتنازع عليها. ويراهن القادة الأكراد على أنهم إذا استطاعوا الحفاظ على الهدوء في الأيام المقبلة، فإنهم سيكونون في وضع أفضل للتفاوض مع بغداد. ولكن، مع نشوب اشتباكات بين مليشيات شيعية وبين قوات البشمرغة الكردية في بلدات في المناطق المتنازع عليها، ومع تهديد بغداد والدول الجارة باتخاذ إجراءات عقابية ضد الأكراد، فقد ارتفع خطر اندلاع نزاع طائفي رئيسي قد يصل مستوى قياسيا غير مسبوق.
يدّعي الأكراد بأن محافظة كركوك كردية تاريخيا، لكن اهتمامهم بالمدينة ربما يعود كثيرا إلى حقول النفط التي تحتويها تحت ترابها والتي ستلعب دورا رئيسيا في المحافظة على تعويم اقتصاد دولة كردية مستقلة. (تزود حقول النفط في كركوك حاليا حكومة إقليم كردستان بنحو 275.000 برميل نفط يوميا). ويشكك تركمان المدينة في الادعاءات التاريخية الكردية حول المدينة، لكن العرب في كركوك يرغبون أن يظلوا جزءا من العراق.
وكان قد أعيد توطين الكثيرين من عرب كركوك بعد نقلهم من جنوب العراق خلال حملة إعادة توزيع عرقية في ظل الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، والتي شردت الآلاف من الأكراد من المنطقة الغنية بالنفط. ومع ذلك، وبعد الغزو الأميركي للعراق، حاول الدستور الجديد وضع خريطة طريق لحل مسألة الحوكمة في المناطق المتنازع عليها، والتي تأثرت ديمغرافيتها بسبب التعريب. ونصت المادة 140 من الدستور على أن السكان سوف “يطبعون” عبر إعادة توطين العرب والأكراد للحفاظ على العروبة، ثم يتم بعد ذلك إجراء استفتاء لتقرير ما إذا كان السكان المتبقون يريدون الانضمام إلى منطقة كردستان العراقية أو البقاء في العراق الفدرالي. لكن ذلك الاستفتاء لم يجر أبدا. ولا توجد اليوم أرقام يعتد بها لتركيبة سكان كركوك -ويظل عمل إحصاء محفوفا بالمخاطر. لكن الأكراد عادوا منذ العام 2003 بأعداد ضخمة. وفي الأعوام الأخيرة عززوا سيطرتهم على كركوك.
قبل يومين من إجراء الاستفتاء، افتتح محافظ كركوك –وهو نفسه كردي- تمثالاً بارتفاع 26 مترا للبشمرغة في أطراف كركوك. وكان مجسم المقاتل الذي يحمل العلم ويرتدي ملابس كردية تقليدية قد بني إحياء لذكرى المقاتلين الأكراد الذين سيطروا على المدينة منذ هرب وحدات الشرطة والجيش العراقيين الفدراليين أمام تقدم “داعش” في شمالي العراق في العام 2014.
نظر عرب وتركمان المدينة إلى التمثال -بنفس الطريقة التي نظروا من خلالها إلى رفع العلم الكردي فوق المباني الحكومية في وقت سابق من العام، والقرار بإجراء استفتاء الاستقلال في المدينة- كخطوة غير مشروعة لتقرير مستقبل كركوك بشكل استباقي. وينفي كل من الرئيس الكردي مسعود برزاني والمحافظ كريم هذا الاتهام. وقال كريم لهذه المجلة عشية التصويت: “ليس تصويت الاستفتاء حول أن تكون كركوك منطقة كردية أو منطقة عراقية. فأساس تقرير مستقبل كركوك ما يزال مضمناً في المادة 140”.
بعيد عن أن يكون مؤكدا
يحذر القادة التركمان والعرب في كركوك من عنف مجتمعي كامن قد ينجم عن الاستفتاء. وكان نائب رئيس الجبهة العراقية التركمانية، حسن توران قد قال لهذه المجلة عشية التصويت: “إذا ذهبنا إلى الاستفتاء من دون إجماع، فسوف تندلع حرب طائفية في كركوك. وقد قررنا مقاطعة الاستفتاء”.
وبالمثل، عارض قادة من العرب السنة الاقتراع. وقال المستشار السني المحلي الشيخ برهان العبيدي: “ترفض المجموعة العربية في كركوك تماما اجراء الاستفتاء في هذه المحافظة. نحن نعتبر كركوك مدينة عراقية”.
على العكس من الإقبال العالي على التصويت في المناطق الكردية، كانت مراكز الاقتراع في الضواحي ذات الأغلبية العربية والتركمانية هادئة. وفي ضاحية بولاق الكردية التركمانية المختلطة، قدر مشرف انتخابات كردي أن ثلث التركمانيين المؤهلين للتصويت قد صوتوا. وخارج المدينة في مناطق تشهد تنافسا أكثر حدة، وضعت محطات الاقتراع في مناطق كردية، طبقا للباحثة كرستين فان دين تورن، مديرة معهد الدراسات الإقليمية والدولية في الجامعة الأميركية في العراق، السليمانية، التي قالت: “لا أحد من التركمانيين توجه إلى واحدة من هذه الضواحي وصوت بـ”لا””.
في حين تحكم القوات الكردية سيطرتها على مدينة كركوك، ثمة مناطق مثل طوز، والتي يجري التنافس عليها بين القوات الكردية والمليشيات الشيعية. وفي السابق، كانت جزءا كرديا في سواده الأعظم من محافظة كركوك، ثم ضُمت طوز إلى محافظة صلاح الدين في عهد صدام لخفض النفوذ الكردي في كركوك الغنية بالنفط. وكانت العاصمة الإقليمية، طوزخورماتو، مسرحا لاشتباكات عنيفة في الماضي. ويوم إجراء الاستفتاء، اشتبكت المليشيات الكردية والشيعية هناك.
ربما سيأتي أكبر خطر للصراع إذا حشدت القوات العراقية في الجنوب. وبينما كان الأكراد في كركوك يحتفون مساء الاثنين، طالب البرلمان العراقي بإرسال قوات إلى المناطق المتنازع عليها. وقال كريم إنه يأمل أن يخفت هذا الخطاب وأن يسود الهدوء. وأضاف: “نأمل –وأعتقد شخصياً بأن تهديدات العنف لن تتحقق”.
من دون آلية قانونية لتنفيذ محصلة الاستفتاء، يأمل الأكراد الآن الدخول في مباحثات انفصال مع بغداد. وعموما، لم يكن الرد من بغداد مشجعاً. ويتعرض رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، حاليا إلى ضغوط من عتاة الشيعة لعدم التسوية. وكان صارماً في كلمة له وجهها عبر التلفزيون الرسمي يوم الاثنين، حيث قال: “لسنا مستعدين لبحث أو إجراء حوار حول نتائج الاستفتاء لأنه غير دستوري”.
في الأثناء، يتعين على الأكراد وضع استراتيجية لجلب بغداد إلى طاولة المفاوضات. وفي مقابلة معمقة مع مجلة فورين بوليسي أجريت في حزيران (يونيو) الماضي، امتنع برزاني عن الإفصاع عن الكيفية التي سيرد الأكراد من خلالها على عدم موافقة بغداد على محادثات. وعندما سئل مرة ثانية في مؤتمر صحفي يوم السبت الماضي، أجاب بقوله: “لن نغلق الباب أبداً وقطعياً أمام المفاوضات من جانبنا”.
من جهة أخرى، تدرس بغداد طائفة من الإجراءات العقابية ضد منطقة كردستان. وقد طلبت فعلاً من البلدان الأخرى عدم شراء نفط من حكومة إقليم كردستان المتمركزة في أربيل، وهددت بإغلاق المجال الجوي الكردي. ومن ناحيتها، هددت تركيا بإغلاق خط الأنابيب الذي تعول عليه حكومة إقليم كردستان للوصول إلى الأسواق الأجنبية، كما أجرى جيشها تمارين عسكرية بالقرب من الحدود.
إذا كان إجراء الاستفتاء في كركوك لعبة قوة كردية، فقد تكون حكومة إقليم كردستان قد بالغت في مد يدها. وإذا أثار الاستفتاء توترات إلى الحد الذي ينهار معه الحوار، فإن الأكراد الذين لا يطلون على البحر يخاطرون بأن تعزلهم بغداد وجاراتها، وهن سيناريو حدث ذات مرة قبل التسعينيات. وقالت فان دين تورن من الجامعة الأميركية في السليمانية: “أعتقد أن هذا الاستفتاء كان في الكثير منه من أجل الحصول على وسيلة ضغط أكبر في أي مفاوضات ستجري في كركوك”. وأضافت: “مع ذلك، أعتقد في هذه النقطة أن الفرصة من أجل المفاوضات قد فقدت، ربما بسبب استقطابها بين أربيل وبغداد وبسبب وضع العبادي في زاوية”.
بالعودة إلى مركز الاقتراع في بولاق مساء الاثنين، حيث استخدم المقترع الكردي محمد مثلا عربيا عندما سئل عن مستقبل كركوك فقال: “إذا أردت شيئا ما فعليك التنازل”. ولكن عندما سئل كيف يسري هذا المثل على الأكراد في كركوك أجاب بالقول :”كان التصويت تنازلنا”.
كامبل مكديارميد
صحيفة الغد