لم تكن “المنطقة الأمنية؛ حماية للأمن القومي التركي”، وفق التسمية التي اتفقت عليها الولايات المتحدة وتركيا، وليدة توافقٍ سياسيٍّ أميركي تركي، بل حلاً لخلاف حول الموقف من “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)؛ التي تشكّل “وحدات حماية الشعب”، الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي)، عمودها الفقري؛ وتعبيراً عن محاولةٍ أميركيةٍ للاحتفاظ بشريكيْن بينهما عداوة مديدة: تركيا والحزب المذكور؛ بحلٍّ وسطٍ يلبي بعض تطلعاتهما السياسية والأمنية.
جاءت الخطوة بعد عاصفة النقد التي أثارها قرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، يوم 19 /12/ 2018، سحب القوات الأميركية من سورية؛ وردود الفعل الأميركية (الكونغرس، البنتاغون، الخارجية، مكتب الأمن القومي، الإعلام) والإقليمية (إسرائيل، السعودية، الإمارات، والأردن) والدولية (فرنسا، بريطانيا، ألمانيا، وهولندا) عليه؛ إن لجهة انعكاساته على الدور الأميركي والغربي في المنطقة، بالنسبة للمعترضين في الولايات المتحدة وأوروبا، أو لجهة كسره توازن القوى الذي وفره الوجود الأميركي على الأرض السورية، لصالح روسيا وإيران على حساب حلفاء واشنطن الإقليميين، بالنسبة لإسرائيل والسعودية والإمارات والأردن، وإطلاق يد روسيا للتصرف في سورية وفق رؤاها ومصالحها، وعلى حساب المصالح الغربية، بالنسبة للحلفاء الأوروبيين، فضلاً عن التضحية بالحليف المحلي الوحيد، “قوات سوريا
“عمق المنطقة الآمنة وفق الأميركان 32كم، لكنه يصل في الرؤية التركية إلى 60كم” الديمقراطية”، الذي قاتل “داعش” وهزمه، ودفع في سبيل ذلك خسائر بشرية كبيرة، قتلى بالآلاف.
نجحت الضغوط الأميركية والإقليمية والدولية في التأثير على قرار الرئيس الأميركي في عدة مستويات، أولها فترة الانسحاب؛ حيث جرى تمديد الفترة أربعة أشهر، غدا انسحاباً بطيئاً ومنسّقاً للغاية، وفق تصريح الرئيس الأميركي نفسه، بعد أن كان انسحاباً فورياً، وثانيها تأجيل الانسحاب من قاعدة التنف؛ تلبيةً لرغبة إسرائيل، من أجل تقييد حركة إيران عبر الحدود العراقية السورية، ومنع نقل أسلحة إيرانية إلى الحرس الثوري الإيراني وحزب الله والمليشيات الشيعية الأخرى، أما ثالثها فالبحث عن طريقة لحماية الحليف المحلي، “قوات سوريا الديمقراطية”، بعد أن كان الرئيس الأميركي قد سخّف الدفاع عنه، بقوله: “نحن ساعدناهم وهم باعوا النفط لتركيا والنظام”، إذ غدت حمايته شرطاً للسماح لتركيا بدخول منطقة شرق الفرات وملء الفراغ الذي ستتركه القوات الأميركية هناك، وتفويضها بالقضاء على ما تبقّى من “داعش” (تصريحات وزير الخارجية مايك بومبيو ومستشار الأمن القومي جون بولتون؛ والرئيس الأميركي نفسه الذي تعهد لإلهام أحمد، رئيسة الهيئة التنفيذية لـ “مجلس سوريا الديمقراطية” (مسد) خلال لقائه العابر بها في أحد فنادق العاصمة الأميركية، بحماية الكرد والمسيحيين؛ قال أمامها “إنه يحب الكرد”)، وسحب تفويض تركيا بالإجهاز على بقايا “داعش” عملياً بالتركيز على المعركة ضدّه؛ والعمل على حسمها قبل سحب القوات.
غير أن الاتفاق الأميركي التركي على إقامة “المنطقة الأمنية” لم يغلق ملف شرق الفرات، خصوصاً قضية “وحدات حماية الشعب” ومشروعها “الإدارة الذاتية”، إذ ما تزال الصورة حول طبيعة “المنطقة الأمنية”، وحدودها وطبيعة الدور التركي فيها محط أخذ ورد، فقد حدّد الرئيس الأميركي عمقها بـ20 ميلاً، أي بحدود 32 كيلومتراً، في حين كتبت صحيفة حرييت، المقربة من الحكومة التركية، أن “أنقرة وضعت خطتها للمنطقة الأمنية، إذ تصل أعماق بعض المناطق إلى 60 كم، لأن بعض المناطق عميقة، وأخرى أضيق، حسب التهديدات، وإمكانيات قرب القوات المسلحة من المصادر واستخدام الطرق، والدعم اللوجستي”. فضلاً عن عدم الاتفاق على من سيديرها، فقد نقلت وسائل إعلام أميركية مضمون نقاشات تجريها الإدارة الأميركية مع دول غربية مشاركة في التحالف الدولي ضد “داعش” (بريطانيا وفرنسا وأستراليا)، من أجل إقناعها بلعب دور قوةٍ عازلةٍ في “المنطقة الأمنية” بنشر قوات لها فيها “لمعالجة المخاوف التركية من الأحزاب الكردية، مع الإبقاء على القوات التركية بعيداً عن
“الاتفاق الأميركي التركي على إقامة “المنطقة الأمنية” لم يغلق ملف شرق الفرات” المقاتلين الكرد”، وفق ما نشرته صحيفة وول ستريت جورنال. بالإضافة إلى ما نُشر عن تفاهم أولي بين واشنطن وأنقرة، مفاده نشر قوات كردية من البشمركة السورية التي درّبتها البشمركة العراقية، وأخرى عربية في “المنطقة الأمنية” بعد انسحاب “وحدات حماية الشعب” منها؛ قدّرت تركيا عددهم في “المنطقة الأمنية” بنحو سبعة آلاف، فالولايات المتحدة في حالة بحثٍ عن صيغةٍ مناسبةٍ تطمئن الحكومة التركية، وتحمي “قوات سوريا الديمقراطية”، وعن قوى حليفة تقبل بلعب دور قوة عازلة على الأرض، وهذا يتناقض مع الموقف التركي الذي أعلنه الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، مرات ومرات، ومفاده “أن تركيا ستنشئ “المنطقة الأمنية” وحدها؛ وتديرها، ولن تقبل بوجود قوات أخرى، بما في ذلك قوات النظام السوري”.
إصرار أردوغان مرتبط بالانتخابات البلدية في شهر مارس/ آذار المقبل، وبضغط القوميين الترك عليه، ومطالبتهم بشن عمليات عسكرية واسعة في شمال سورية، من دون انتظار موافقة خارجية؛ مستغلين حاجته إلى أصواتهم في هذه الانتخابات، ما دفعه إلى تصعيد الضغط على الولايات المتحدة، كي توافق على رؤيته، بالإعلان عن “مواصلة التعاون بشكل وثيق مع روسيا وإيران حول قضايا المنطقة”، وفق تصريح المتحدث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم كالين.
واقع الحال أن مشكلة تركيا ليست في عدم وضوح الموقف الأميركي فقط؛ فالموقف التركي غير مقبول روسياً، تريد روسيا ملء الفراغ الذي سيخلّفه الانسحاب الأميركي من النظام. من هنا، جاء طرح الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، خلال القمة التي عقدها مع الرئيس التركي في موسكو يوم 23 /1 /2019، فكرة العودة إلى اتفاق أضنة الموقع بين تركيا والنظام السوري عام 1998، بحيث تعود الاتصالات بين الطرفين، ويتسلم النظام الحدود المشتركة، وينسق مع تركيا في حفظ الأمن وملاحقة الإرهابيين، وغير مقبول عربياً، ترفض مصر والسعودية والإمارات توسيع الدور التركي في سورية والإقليم، فضلاً عن رفض كل من إيران وإسرائيل لتوسع الدور التركي في سورية.
يرتبط التصور التركي بتوجه مضمر لإجراء تغيير سكاني في “المنطقة الأمنية”؛ عكسه حديث الرئيس التركي عن إعادة إسكان اللاجئين السوريين، قال “إن عددهم أربعة ملايين”، في هذه المنطقة؛ وما ذكرته صحيفة حرييت “إن أميركا طرحت على الجانب التركي قضية تموضع عناصر المليشيات الكردية في منطقة الجزيرة السورية، وإعادة المدنيين السوريين من العرب والكرد الموجودين في تركيا، إلى هذه المناطق الفارغة”، ما يثير هواجس السكان الكرد
“تستطيع تركيا تجنب تحديات صعبة وخطيرة بالقبول بالتفاهم مع “قسد” على حلٍّ وسطٍ يرضي الطرفين” ومخاوفهم في ضوء ما شاهدوه ولمسوه من ممارسات شاذّة في منطقة عفرين؛ قمع السكان وابتزازهم ونهب أملاكهم ومواسمهم الزراعية، ما سيدفعهم إلى الاستماتة في مواجهة القوات التركية، عبر حرب عصابات مفتوحة، خصوصاً أنهم لن يعدموا دعماً من خصومها.
تستطيع تركيا تجنّب تحديات صعبة وخطيرة بالقبول بالتفاهم مع “قوات سوريا الديمقراطية” وحزب الاتحاد الديمقراطي على حلٍّ وسطٍ يرضي الطرفين؛ تتحاشى به الذهاب إلى حربٍ مديدةٍ ومكلفةٍ، إذ نقل عن رئيسة الهيئة التنفيذية لـ “مجلس سورية الديمقراطية”، إلهام أحمد، استعداد “مسد” للتفاوض مع تركيا، وسعيها إلى طمأنة الأخيرة بإعلانها “نحن لسنا طرفاً في الصراع الدائر في تركيا”، تسحب به البساط من تحت أقدام خصومها الإقليميين الذين ينتظرونها عند كل منعطف، لتقييد حركتها بمحاصرتها، والحد من دورها في المعادلة الإقليمية.
كرّر الرئيس التركي، أردوغان، في حديثه عن اللاجئين السوريين مرّاتٍ، مقولة “نحن الأنصار وأنتم المهاجرون”، حبذا لو أكمل الاقتداء ببقية الواقعة التاريخية، وآخى بين الترك والكرد، كما فعل النبي بين الأوس والخزرج، وانحاز مجدّداً إلى السلام، وعاد إلى المفاوضات، لاستكمال استحقاقات خريطة الطريق التي اتفق عليها الطرفان عام 2010 ففي ذلك المخرج الوحيد المتسق مع الرغبة في الاستقرار والازدهار.
العربي الجديد