يعدُّ هنري كيسنجر من ألمع الدبلوماسيين الأمريكيين في النصف الثاني من القرن الماضي، وآراؤه مازالت مؤثرة في السياسة الخارجية للإدارة الأمريكية إلى حد الآن، سواء أكانت ديمقراطيّة أم جمهوريّة، جمع بين القول السياسي والفعل، أو بين النظريّة والتطبيق (الممارسة)، ما حدا بالبعض إلى وصفه بـ «ثعلب الدبلوماسية»، لِمَا في أرائه من مكر ودهاء وخبث، جعل من مبدأ الميكافيلية «الغاية تبرر الوسيلة» قانوناً مشروعاً في ظل الصراع الدولي، الذي لا يعترف إلا بالقوّة.
ولد هنري كيسنجر في مقاطعة فورث في ألمانيا في 27 مايو/ أيار 1923، قضى صباه في ظل الحكم النازي، حيث طُرد بسبب أصوله اليهودية رفقة أخيه من المدارس الحكومية، كما طُرد والده من وظيفته كمعلم، في عام 1938 هرب وأهله إلى الولايات المتحدة الأمريكية، عمل كيسنجر خلال الحرب العالمية الثانية (1939-1945) في الجيش الأمريكي، خلال هذه الفترة تحصل على الجنسية الأمريكية، بالإضافة إلى عمله في ألمانيا مترجماً ومدّرساً في المدرسة الأوروبية لقيادة المخابرات.
أمّا في ما يخص حياته العلمية، فقد درس في هارفارد، ثم انضمّ بعد ذلك إلى هيئة التدريس، وتدّرج في السلّم الأكاديمي حتّى حصل على درجة الأستاذية في عام 1962، لديه العديد من الدراسات والمؤلفات الرصينة، التي لاقت إقبالا كبيراً، وشهرة في الوسط العلمي والسياسي منها: «الدبلوماسيّة، درب السلام الصّعب، نحو سياسة خارجيّة جديدة، والنظام العالميّ» بالإضافة إلى العديد من المقالات المنشورة في كبرى المجلات والجرائد العالمية. تقلّد كيسنجر العديد من المناصب في الإدارة الأمريكية، حيث عمل مستشاراً لعديد من الرؤساء، من إيزنهاور إلى كينيدي إلى جونسون، كما تقلّد منصب وزير الخارجية في الفترة الممتدة من 1973 إلى 1977 في عهد نيكسون وفورد، وفي عهد ريغان عينه في 1983 رئيسا للهيئة الفيدرالية التي تم تشكيلها تجاه أمريكا الوسطى، وأخيرا قام جورج بوش (الابن) بتعيينه رئيساً للجنة المسؤولة عن التحقيق في أسباب هجمات 11/9/ 2001.
كيسنجر وأصوله اليهودية
إن الأصول اليهودية لكيسنجر جعلت العرب يتعاملون مع فكره بحذر، ومع آرائه بشك؛ فدفاعه المستميت عن إسرائيل في كل مرّة، وإفصاحه عن كرهه للعرب والمسلمين، وإعلاؤه لمصالح الغرب وأمريكا دائماً، جلبت له العداوات والضّغائن، بحيث وُصف بأنّه عدوٌ للعرب والمسلمين، وخادمُ الصهيونية الأمين.. لكن السؤال الذي يطرح هو: هل دفاعه عن إسرائيل نابع من يهوديته، أو هو نتاج الفكر الغربي المتشبع به؟
يرى عبد الوهاب المسيري (1938- 2008) أن محاولة العرب، في كل مرّة، استحضار البعد اليهودي في تفكير كيسنجر أمر لا طائل من ورائه، لأنّ طريقة تفكيره وأولوياته وإدراكه لمصالح العالم الغربي وإدارته للأزمات (سواء في الشرق الأوسط أو غيرها من المناطق) جزء لا يتجزأ من التفكير الاستراتيجي العام في الغرب بمنطلقاته الصراعية الداروينية، التي تعود أصلا إلى عصر النهضة، وفلسفة الدولة، وهو تفكير يسعى، في الأساس، إلى حماية أمن الغرب، والدفاع عن مصالحه، من خلال استخدام كل أشكال القوة، ولعل ذلك ما قصده كيسنجر عندما أعطى المصالح الأمريكية «الأسبقية على مصالح الدول الأخرى بما فيها إسرائيل، التي تعتبر حليفاً استراتيجياً للولايات المتحدة، وسوطاً في يدها».
أن الصراع بين الحضارات في منطق كيسنجر أمر مؤكد، بلا أدنى شك، بل هو ضرورة لبقاء الهيمنة الأمريكية على العالم.
كيسنجر وصراع الحضارات
نتوقف في هذا المقال قليلا عند قضية «صدام الحضارات»، التي أثارت الكثير من النقاش والجدل، ليس في العالم الإسلامي فحسب، بل في العالم ككل، لاسيما وأنّها جاءت في مرحلة مفصلية من تاريخ البشرية لمّا نحا التاريخ منحى آخر، مبشراً بانتصار أمريكا، ومعلناً بذلك صلاحية نظامها الاقتصادي والسياسي، كنموذج يحتذى من بقية دول العالم، ومؤذناً، في الوقت نفسه، بسقوط الاتحاد السوفييتي، وأن المجتمعات العالميّة اتخذت قرارها برفض نموذجه، كانت تلك اللحظة بمثابة إعلان عن موت الأيديولوجية، بالتالي، على البشرية بعد الآن أن تختار الطريق الأمريكي الأصلح للبقاء في حظيرة التاريخ، إلا أن مقالة «صراع الحضارات» لصموئيل هنتنغتون (1927- 2008) في مجلة «فورين آفيرز» في 1993، التي جاءت رداً على أطروحة نهاية التاريخ لفرانسيس فوكوياما، شككت في هذا الخيار، حيث أكد فيها على أن «صراعات ما بعد الحرب الباردة لن تكون بين الدول القومية لعوامل سياسية أو اقتصادية أو أيديولوجية، لكن توقع أن تظهر مواجهات حضاريّة لأسباب دينيّة وثقافيّة»، جاعلا من الإسلام والكونفوشوسية مصدر التهديد الأول ضد الغرب وحضارته.
يتفق كيسنجر إلى حد بعيد مع هذه الأطروحة، مبرزاً أن الصراعات الجديدة بعد نهاية الأيديولوجيا « لن تكون بين الطبقات الاجتماعية أو بين الفقراء والأغنياء أو على أساس اقتصادي»، بل ستكون ناتجة عن الاختلاف الثقافي والديني والإثني، من ثمّ، فإن هذه الصراعات سوف تحدث بين الحضارات المختلفة، وأي إمكانية للتصعيد سيجعل دولا أخرى تتدخل للدعم من منطلق الدين الواحد أو التقارب الثقافي، ويسوق لذلك مثالا بالصراع الذي نشب في يوغوسلافيا في التسعينيات «إذْ قدّمت روسيا مساعدات للصرب، وقدّمت، في المقابل، السعودية وتركيا وإيران وليبيا مساعدات للبوسنيين». وبما أنّ الاختلاف الثقافي يؤسس لحالة من الصراع بين المختلف، فإن كيسنجر يدعو إلى التعامل مع هذا الآخر، الذي يحمل ثقافة مختلفة أو ديناً مغايراً، بالقوة، سواء بتدميره، أو إضعافه واحتوائه، في هذا الصدد يبين المفكر إدوارد سعيد (1935- 2003) نظرة كيسنجر للاختلاف الثقافي باعتباره ساحة لخلق الصراع، ولا سبيل للتخلص من الآخر المختلف إلا بالسيطرة عليه، حيث يقول: «يتصور كيسنجر الفرق بين الثقافات أولا: بوصفه يخلق ساحة صراع بين هذه الثقافات، وثانيا: بوصفه يدعو الغرب إلى السيطرة على الآخر واحتوائه وحكمه». أما الآليات التي ينبغي أن يستعملها الغرب في تحقيق هذا الهدف الأساسي؛ فيحددها كيسنجر في المعرفة المتفوقة، والقوة القادرة على إخضاع الخصم، في هذا السياق يضيف سعيد بالقول: إن الهدف لا يتحقق إلا: «عبّر معرفة متفوقة، وقوة قادرة على الاحتواء والاستيعاب».
بين هنتنغتون وفوكوياما وكيسنجر
في الأخير لا بد من الإشارة إلى نقطة مهّمة مفادها، أنّه إذا كان هنتنغتون يقسم العالم على أساس الدين والثقافة إلى العالم الغربي ذي الأصول المسيحيّة واليهوديّة، والعالم غير الغربي من مسلمين وصينيين.. وغيرهم، وإذا كان فوكاياما يقسم العالم إلى ديمقراطيّ وغير ديمقراطيّ، ويرى أن الديمقراطيّات لا تتصارع، ولا يُحارب بعضها بعضاً، بل منشأ الصراع هو هذا الاختلاف، أي اعتناق الديمقراطيّة من عدمها؛ فإن كيسنجر بنزعته الميكافيلية كان أكثر صراحة عندما يضع أمريكا في مواجهة العالم، وهو بذلك لا تهمّه التقسيمات السياسية، ولا الدينية، ولا الثقافية، ولا الجغرافية، إنما همّه الوحيد أن تبقى أمريكا القوة الأولى، إن لم تكن الوحيدة المسيطرة على العالم، وتحججه بالاختلاف الثقافيّ ما هو، في الحقيقة، إلا تمويه، أو بمعنى آخر، لأجل كسب مودة الحلفاء في حروبها ضد خصومها، لذلك فهو يتوجّس من أوروبا الموحدة، ومن التنين الصيني، ويخاف من الطموحات الروسية، ومن القوة الهندية المتنامية، ومن المزاحمة اليابانية. بعبارة أكثر وضوحاً، أن الصراع بين الحضارات في منطق كيسنجر أمر مؤكد، بلا أدنى شك، بل هو ضرورة لبقاء الهيمنة الأمريكية على العالم.
القدس العربي