تحتل كل من إيران وتركيا موقعًا مهمًّا في خارطة الشرق الأوسط، ويثير البلدان مؤخرًا اهتمامًا متزايدًا نظرًا لانخراطهما في عدد من الملفات الإقليمية والدولية الحساسة والمهمة كالملف النووي والتنافس الثنائي على النفوذ الإقليمي بينهما، والذي اشتعل بعد اندلاع الثورات العربية والمواقف المتضاربة لكل منهما من هذه الثورات، ولاسيما من الثورة السورية.
وتحتل القضايا المرتبطة بإيران مؤخرًا حيزًا واسعًا من تغطية الإعلام التركي كما من نقاشات الخبراء والأكاديميين والمتخصصين، وطُرحت مواضيع من قبيل مستقبل العلاقة بين البلدين؟ ماذا إذا تحولت إيران إلى دولة نووية؟ إلى أي مدى إيران مستعدة لمواجهة تركيا من أجل سوريا؟ النفوذ الإيراني المتزايد داخل تركيا؟ النموذج التركي في مواجهة النموذج الإيراني؟ وغيرها من المواضيع.
وفي خضم هذه النقاشات، صدر في تركيا حديثًا (إسطنبول-2012) وباللغة التركية كتاب تحت عنوان: “إيران: تهديد أم فرصة؟” للمؤلف بولند كينيش، وهو من الكتّاب اللامعين الأتراك، ومن الأكاديميين المتخصصين بالشأن الإيراني أيضًا. عمل كينيش في صحيفة “توداي زمان” الواسعة الانتشار منذ العام 1994، وهو يشغل الآن منصب المحرر المسؤول في الصحيفة. درس كينيش العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة البوسفور وهو يدرِّس هذا الاختصاص اليوم في جامعة فاتح.
أبرز أفكار الكتاب
يتألف الكتاب الذي صدر عن دار “تيماشيا ينلاري” من ثمانية فصول ويقع في 394 صفحة، ويتناول السياسة الخارجية الإيرانية بشكل مفصّل وخلال مراحل زمنية مختلفة ومتسلسلة ما يوفر فهمًا للسلوك الإيراني الذي تقوم عليه السياسة الخارجية للبلاد تجاه عدد من القضايا واللاعبين الدوليين، وذلك عبر عرض وتحليل مختلف الوقائع المهمة على مرّ التاريخ السياسي لإيران بعد “الثورة الإيرانية” وحتى اليوم.
ويخصص المؤلف الفصلين الأول والثاني للتركيز على الديناميات الإيرانية الداخلية وخصائص إيران الجيوبوليتيكية، والديمغرافية، والخصائص الدينية والوطنية. فيما يركّز الفصل الثاني على معتقدات الشيعة والدور الذي لعبته خلال الثورة الإيرانية. وتتناول باقي الفصول العلاقات الإيرانية-التركية خلال مراحل متعددة منذ تأسيس الجمهورية الإيرانية.
الثورة الإيرانية وليس الإسلامية
يعرِّف كينيش “الثورة الإيرانية” بأنها مثال فريد على حركة سياسية تقوم على مرتكزات وقيم دينية ثقافية مدعومة بعناصر سوسيو-اقتصادية(ص48). ويشير المؤلف إلى أنه وحتى يتم فهم إيران جيدًا، فإنه من الضرورة بمكان فهم القيم الإيرانية نفسها أولاً والتي تختلف بطبيعة الحال عن القيم الموجودة في الدول المجاورة.
يركِّز كينيش على العقيدة الشيعية وتأثيرها على المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في إيران. لكن ما يلفت الانتباه هو تشديد المؤلف على تسمية ثورة عام 1979 في إيران بـ”الـثورة الإيرانية” وليس “الثورة الإسلامية الإيرانية” كما هو معروف عنها أو كما هي التسمية الرسمية بالأساس، معللاً ذلك باعتقاده أنّ العناصر والمظاهر الوطنية القومية كانت غالبة على العناصر الإسلامية في تلك الثورة، وهو ما يجعلها حقيقةً ثورة إيرانية فقط وليس إسلامية(ص18).
التَّقيَّة الشيعية كأداة من أدوات العمل السياسي
يسلِّط المؤلف الضوء بشكل خاص على مفهومي التَّقيَّة والكتمان لدى الشيعة ودورهما في آلية صنع القرار في السياسة الإيرانية. وفقًا لكينيش، فإن التقية والتي كان يُنظَر إليها تاريخيًّا على أنها سبب من أسباب التقوقع السياسي سابقًا للشيعة، خضعت لمحاولات استخدام من قبل الشيعة المعاصرين كأداة للفعل السياسي(ص56).
ويوضّح المؤلف أن بعض الشيعة قاموا فيما بعد بتطوير مفهوم عملي يستطيعون من خلاله تشريع استخدام التقيّة في المجال الدبلوماسي كطريقة من طرق حماية المصالح وكذلك الأمر فيما يتعلق بالعلاقات الخارجية لإيران(ص57-59). ويعطي كينيش عدّة أمثلة يصفها بأنها دليل قوي على هذا النمط من السياسة الإيرانية عندما يتحدث عن الصفقات التي تقوم بها إيران مع الولايات المتحدة خلف الأبواب المغلقة في الوقت الذي تدعوها فيه بالشيطان الأكبر. كما يعطي مثالاً آخر على تحالف النظام الإيراني مع النظام السوري الذي يقوم بقمع كل الحركات الإسلامية داخل البلاد على مرِّ العقود في الوقت الذي تعلن فيه طهران دعمها للحركات الإسلامية بشكل عام.
وفي هذا السياق، وبالنظر إلى التجربة الإيرانية عبر التاريخ، يصل الكاتب إلى استنتاج مفاده أن الإيرانيين خبراء في مجال التقيّة والخداع والكتمان كما القوى الكبرى خبيرة في الدبلوماسية والعمل الدبلوماسي(ص60). ويوضح المؤلف في هذا المجال أن نمط السياسة الإيرانية مزعج لدول المنطقة بالقدر نفسه الذي يزعج به دول الغرب. ويضيف بأنّ مسيرة 32 سنة من الثورة الإيرانية، واستخدام النظام لوسائل العنف المباشرة وغير المباشرة وغيرها من الأدوات لتوسيع نطاق وإطار نفوذه وتصدير الثورة خلق صورة سلبية لإيران في أعين الفاعلين الإقليميين والدوليين(ص66).
نظرة إيران إلى العلاقة مع الغرب
تستند نظرة الإيرانيين للغرب والمجتمع الدولي إلى أنه نظام غير عادل وغير متوازن ويحارب الإسلام ويحاول أن يستغل موارد العالم الإسلامي(ص74). ويشرح المؤلف فيما بعد كيف ترى إيران نفسها بشكل مضخّم وكأنها محور الأرض ومركزها، وتبذل الجهود الكبيرة والضخمة لقيادة المنطقة في الوقت الذي تثير فيه مواقفها المتضاربة شكوك الدول المجاورة لها تجاهها. ومن المفارقة في هذا المجال أنه وفي الوقت الذي تريد فيه إيران احتكار شرعية تمثيل الإسلام، فإنها لا تحظى بثقة الكثير من الدول الإسلامية التي تنظر الى طهران بسلبية.
والغريب دومًا -كما يذكر الكاتب- هذا التناقض بين الطرح الإيراني المعادي للغرب والمهاجم له من جهة وبين موقع وتأثير الاقتصاد الإيراني في المنظومة الاقتصادية العالمية، ناهيك عن سعي النخبة الإيرانية الدائم إلى إرسال أبنائها سواء في العطلات أو للدراسة في العواصم الغربية وخاصة لندن وباريس ونيويورك.
الثورة الإيرانية: أزمة ثقة مع تركيا
يرى كينيش أن العلاقة بين البلدين تاريخيًّا ظلت تتأرجح بين الصعود والهبوط، التنافس والحرب، وما يُعرف باسم التوتر المضبوط(ص87). ويقتبس الكاتب وصف فلاديمير مينورسكي للعلاقة بين الأتراك والإيرانيين والذي يقول فيه بأنها كـ”الماء والزيت” لا يمتزجان أبدًا(ص88). ومع ذلك، فالبلدان يعتمدان على بعضهما البعض نظرًا للمعطيات الجيوبوليتيكية المشتركة والضرورات التي تفرضها معطيات الاقتصاد السياسي والحقائق الإقليمية.
يشير المؤلف إلى أن الجهود الإيرانية لتصدير الثورة بعد العام 1979 إلى الدول المجاورة ومن بينها تركيا، ودعم طهران لحزب العمال الكردستاني ساهمت في الوصول إلى أزمة ثقة حقيقية بين الطرفين. ولكن وبالرغم من الاختلاف والتباين في المواقف بين إيران وتركيا والذي شمل مواضيع رئيسية كانت مثار خلاف بين الطرفين طوال تلك الفترة كالحدود والأقليات (الكردية، الآذرية، الأرمينية)، وقضايا أيديولوجية وثقافية إلا أن التعاون الاقتصادي والسياسي بين البلدين استمر دون أي انقطاع تقريبًا.
تركيا وإيران: التعاون والتنافس
يشير المؤلف إلى أنّه وخلال عهد رفسنجاني (1989-1997) وعلى الرغم من المصالح المشتركة للبلدين، فإن العلاقة المشوبة بالتوتر والخصائص المتضاربة للدولتين حالت دون الارتقاء بمستوى هذه المصالح إلى درجة تشكيل نوع من التحالف الثنائي بينهما. وبقيت مواضيع مثل العلمانية التركية والتحالف التركي مع أميركا مقابل الدعم الإيراني للحركات الإرهابية كحزب العمال الكردستاني والمنظمات الأرمينية تمثل مصدر تهديد وانعدام ثقة لكل من أنقرة وطهران، لكنّ الأهمية الإستراتيجية للبلدين وعمق العلاقات الاقتصادية منع كلاًّ منهما من الوصول إلى درجة قطع العلاقة أو إحداث شرخ فيها.
وقد شهدت هذه الفترة تطورات عديدة على المستوى الإقليمي والدولي -منها انهيار الاتحاد السوفيتي واندلاع حرب الخليج- أشعلت النزاع والتنافس بينهما من وقت إلى آخر، وقد أدى ذلك إلى نشوء علاقة غير سوية تقوم على الاعتماد المتبادل للطرفين على بعضهما البعض والتنافس في ذات الوقت.
وعرفت هذه المرحلة الزمنية اقتراب تركيا من إسرائيل فيما يتعلق بالسياسات شرق الأوسطية مما زاد من حدة التوتر في العلاقات الثنائية بين أنقرة وطهران خاصة مع التنافس الشديد بينهما على التأثير والنفوذ في منطقة وسط آسيا. وقد طُبِع التوتر في هذه المرحلة بطابع أيديولوجية الدولة لدى كل منهما خاصة فيما يتعلق بالشؤون الداخلية والتي تنعكس بطبيعة الحال على السياسة الخارجية(ص119)، لكن ذلك لم يحبط الطبيعة البراغماتية والعقلانية لسياسة الدولتين تجاه بعضهما البعض.
خاتمي وجهود عقلنة السياسة الإيرانية
يلفت الكتاب إلى أنّ خاتمي حاول خلال فترة (1997-2005) أن يجعل من السياسات الإيرانية أكثر عقلانية وأن يركز في ذلك على تطوير المنظور الإصلاحي والمعتدل نسبيًّا. لكن، وكغيرها من المراحل الزمنية السابقة، بقيت موضوعات دعم إيران لحزب العمال الكردستاني والعلاقات التركية-الإسرائيلية مصادر توتر دائم بين البلدين. وبعيدًا عن تفسير مسار العلاقات السياسية والاقتصادية، يقول كينيش: إن التحقيقات التي جرت في العام 2009، أظهرت أن أنقرة كانت تلوم طهران في الفترة الممتدة منذ التسعينيات وحتى عام 2000 على مجموعة من الاغتيالات الغامضة وعلى عمليات حزب الله التركي دون وجود دلائل قاطعة(ص178).
لكن ومع توقيع الاتفاقيات الأمنية والتعاون الأمني بين طهران وأنقرة منذ العام 2000، أصبح ملف حزب العمال الكردستاني يفقد أهميته وأولويته على جدول أعمال البلدين، ثمّ جاء الغزو الأميركي للعراق ليخلق مساحة أخرى للتعاون بين البلدين فيما يتعلق بالحرص على وحدة العراق ومنع أية حركات انفصالية، وأيضًا لكبح الصعود والتفوق الأميركي في المنطقة(ص180-182).
في هذه المرحلة ومع شعور إيران بأنها أصبحت بين فكي كماشة أميركية في العراق وأفغانستان، عمدت طهران إلى تطوير علاقاتها الاقتصادية والسياسية مع تركيا، فيما عمدت أنقرة إلى اختيار مقاربة الحوار البنّاء بدلا من العزل المزدوج تجاه طهران، ودعمت الإصلاحيين من أجل أن تعزز وتزيد من عمق العلاقات الاقتصادية(ص185).
إيران راديكالية من جديد مع نجاد
تميزت المرحلة الممتدة منذ عام 2005 وإلى الآن أو إلى انتهاء فترة حكم نجاد التي لا تزال مستمرة، باعتماد كل من إيران وتركيا على مبدأين أساسيين في التعامل مع بعضهما البعض، يقوم الأول على تجاهل الاختلافات الأيديولوجية للدولتين، ويقوم الثاني على مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية.
ويلفت المؤلف إلى أن العلاقات الثنائية خلال فترة أحمدي نجاد لم تشهد مشاكل حقيقية حتى الآن، ومع انفتاح تركيا والسياسة التركية على الشرق الأوسط، جرت هناك مساعٍ إيرانية لإعادة بناء العلاقات التركية-الإيرانية لتحقيق تقارب أكبر بين البلدين. وفيما كان يتم إعادة تعريف المنظور التركي لإيران، كانت الأخيرة تبدي اهتمامًا أكبر بالانفتاح على تركيا. وقد أدت الزيارات الرسمية المتبادلة بوتيرة أسرع في وقت من الأوقات خلال هذه المرحلة بالإضافة إلى توسيع دائرة التعاون إلى التغلب على العقبة السيكولوجية المتمثلة بفقدان الثقة والتي كانت دائمًا موجودة لدى الطرفين(ص204). واستقطبت كل هذه التطورات الإيجابية في العلاقة بين الدولتين ردود أفعال مختلفة من قبل العديد من الدول الغربية، وإن لم تغيّر في نفس الوقت من مستوى التعاون والتنافس الملتهب أصلاً.
إيران وورقة الملف الكردي
في الوقت الذي يذكر فيه الكتاب أن تركيا بقيت دومًا قلقة من موضوع استخدام إيران للورقة الكردية ضدّها، يرى المؤلف أنّ الطرفين لم يستخدما الورقة الكردية ضد بعضهما البعض في الوقت الذي تكون فيه العلاقة جيدة وسليمة(ص257).
وأيقظ الغزو الأميركي للعراق المخاوف من نشوء دولة كردية قد يؤدي تأسيسها إلى تسريع عمل الحركات الانفصالية الكردية، ولكن وبعكس تركيا التي كانت قلقة من هذا الموضوع، فإن مخاوف إيران كانت أقل بل إنها سارعت -لمعطيات براغماتية وإستراتيجية- إلى إقامة علاقات دبلوماسية مع الحكومة الإقليمية لشمال العراق الكردي -وكانت من أوائل الدول في هذا- سعيًا وراء توظيف الحكومة الكردية في خدمة مصالح طهران الخاصة في المنطقة(ص285).
ومن الملاحظ أنه ومع سقوط نظام صدّام حسين في العراق، ارتفعت نسبة عمليات الحركات الكردية المسلحة التي تنطلق من الحدود العراقية باتجاه كل من إيران وتركيا ولاسيما حركتي حزب الحياة الحرة الكردي الذي يعمل ضد إيران، وحزب العمال الكردستاني ضد تركيا، وقد دفع ذلك البلدين إلى الاقتراب أكثر فأكثر من بعضهما البعض فيما يخص مقاربة الملف الكردي والعمليات المشتركة(ص287).
في نقد الكتاب
من الإيجابيات التي قد يحبذها القارئ الأكاديمي أو الباحث المنهجي أنّ الكتاب جاء موضوعيًّا، بمعنى أنّه لم يحمل مقاربة أيديولوجية أو موقفًا مسبقًا وإنما تناول الأمور من واقع المعطيات المتوافرة ليصل إلى الاستنتاجات اللازمة بشأنها. ولعل أحد الأسباب الرئيسية في ذلك هو أن الكتاب كان في الأصل عبارة عن رسالة علمية للمؤلف نال من خلالها شهادة الدكتوراه قبل أن يضيف عليها ويعيد صياغتها بالشكل الذي خرج للقرّاء.
ومن مميزات الكتاب أنه يصلح أن يكون دليلاً سهلاً وسلسًا للتعريف بإيران بالنسبة لأولئك الذين لا يمتلكون أية معلومات عن إيران ويريدون البدء بالتعرف عليها من مكان ما، خاصة في الفصول الأولى منه. كما أنه يصلح لأن يكون في نفس الوقت مرجعًا للمختصين لاسيما في الفصول اللاحقة.
ومن الإيجابيات التي تُحسَب للكتاب أيضًا تطرّقه إلى قضايا غاية في الأهمية لم يسبق أن تم التطرق لها على الأقل بهذا المستوى من الصراحة في التناول المباشر في المؤلفات السابقة، كموضوع تطوير بعض المعتقدات الشيعية للاستخدام في أغراض العمل السياسي والسياسة الخارجية للبلاد لاسيما مفهومي التقيّة والكتمان، وأيضًا موضوع تشخيص الثورة الإيرانية على أنها ثورة قومية في الأساس وليست دينية أو إسلامية كما يسميها “النظام الإيراني”.
لكن من الملاحظات التي قد يأخذها البعض على الكتاب أنه لم يُجِب على السؤال الرئيسي الذي حمله في عنوانه أصلاً، وهو “إيران: تهديد أم فرصة؟”؛ إذ لم يقدّم الكتاب حكمًا نهائيًّا في هذا الصدد، وإنما ترك المجال مفتوحًا للقارئ ليصل إلى الاستنتاج الذي يراه مناسبًا بنفسه من خلال المعطيات المذكورة، علمًا بأنّ هناك معطيات في الكتاب تتلاقى مع حجج كلا الفريقين المؤيد والمعارض. وقد يكون الخوف من ردود الأفعال أو من حملة تشويه أو مقاطعة للكتاب أحد الأسباب الأخرى في عدم تقديم المؤلف حكمًا قاطعا عمّا إذا كانت إيران تهديدًا أو فرصة بالنسبة لتركيا، خاصة أنّ الكاتب كان قد عبّر بشكل صريح في مقالاته اليومية مؤخرًا عن خوفه من مدى تأثير اللوبي الإيراني في تركيا، والهجوم العنيف الذي يتعرض له كل من يحاول نقد إيران بشكل صريح وواضح.
ومن الملاحظات التي يمكن أيضًا ذكرها فيما يتعلق بالكتاب، أنّه لم يتطرق إلى سوريا رغم أهمية وإستراتيجية العلاقات الإيرانية-السورية وتأثيراتها على العلاقة مع تركيا، علمًا بأنه تطرّق في كثير من المحاور إلى العراق وأذربيجان وأرمينيا. وحتى عند الحديث عن الملف الكردي لم يتطرق المؤلف إلى سوريا وهو ما يُعتَبر ثغرة كان من الممكن سدّها ولو حتى بقليل من الحديث عن التطورات مؤخرًا من حيث الدور الإيراني والتركي في سوريا.
أضف إلى ذلك، فقد كان من المفيد بمكان لو تطرق المؤلِّف أيضًا للسياسة الخارجية التركية أثناء مقاربة العلاقات الإيرانية-التركية خلال مراحل مختلفة حتى يسهل على القارئ رؤية الصورة بشكل أوسع وأكثر وضوحًا من مختلف الزوايا وهو ما لم يتم.
رغم كل ذلك، لا يمكن إنكار أن الكتاب بمجمله يُعَد إضافة متميزة بالنسبة للمهتمين عمومًا، وعلى وجه الخصوص لأولئك المعنيين بالعلاقات الدولية وبالتعرف على الطريقة التي تدير بها إيران ملفاتها والعقلية التي تقوم عليها إدارة هذه الملفات أو السياسة الخارجية للبلاد.
إضافة في فهم الواقع
بشكل عام، يوفّر الكتاب للقارئ أيضًا فهمًا صحيحًا للسلوك الإيراني الذي تقوم عليه السياسة الخارجية لإيران تجاه عدد من القضايا واللاعبين الدوليين، وكذلك الأمر بالنسبة للعلاقات الإيرانية-التركية خلال مراحل مختلفة منذ اندلاع الثورة الإيرانية وحتى اليوم.
ويساعد الكتاب أيضًا على تزويد القارئ بالمنظور الذي يستطيع من خلاله تخمين أو توقع سلوك إيران وخطواتها اللاحقة في عدد من القضايا سواء تلك المتعلقة بالسلوك العام في السياسة الخارجية أو تلك المتعلقة بقضايا محددة داخل هذا الإطار العام كالعلاقة الإيرانية-التركية أو العلاقة الإيرانية-الأميركية أو في ملفات أخرى كالملف الكردي أو الملف النووي.
فالمؤلف يربط المعطيات المتسلسلة على سبيل المثال في الملف النووي الإيراني والمواقف الدولية منه وطبيعة الدور التركي والوساطة التركية ليصل إلى استنتاج مفاده أنّ طهران لا تريد على ما يبدو أن تصل إلى حل وسط بهذا الخصوص، وهو ما يجعل المؤلف يعبّر عن يأسه من إمكانية التوصل إلى حل لهذا الموضوع على المدى القصير، مع تأكيده أنّ أي خيار آخر باستثناء الخيار السلمي للتعامل مع الملف النووي الإيراني سيكون مكلفًا جدًّا بالنسبة لتركيا.
وكما الملف النووي، يمكن الخروج باستنتاجات متعددة على أكثر من صعيد، إذ يمكن القول: إن العداء الإيراني-الأميركي ما هو إلا غطاء لحصول إيران على شرعية إقليمية سواء من قبل شعوب المنطقة أو من قبل اللاعب الأميركي نفسه حينما يتعلق الأمر بالاعتراف بمنطقة نفوذ مشروعة لإيران؛ إذ يُستخدم العداء حينها كرافعة لسقف المطالب الإيرانية فيما يتعلق بنفوذها ودورها الإقليمي، وعليه فإن العلاقة الثنائية مفتوحة دومًا على دبلوماسية الأبواب الخلفية المتبوعة بسياسة براغماتية، وهو الأمر الذي يجعل -مشفوعًا بعوامل أخرى- إمكانية تصور اندلاع حرب مباشرة بين الطرفين مسألة غاية في الصعوبة.
وينسحب تحليل المعطيات التي يوفرها الكتاب عن العلاقات الإيرانية-التركية على نفس الآلية في فهم طبيعة العلاقة التي تحكم الطرفين اليوم والتي تتراوح دومًا بين التعاون والتنافس والاصطدام المحدود، وبالتالي استنتاج الاتجاه الذي ستسلكه العلاقة بينهما لاحقًا؛ فالطرفان يحتاجان إلى بعضهما البعض، وإن كان لدى الإيرانيين ميل أكبر للذهاب بشكل أبعد للصدام المحدود، فإن الأتراك عادة ما يذهبون أبعد في سياسة احتواء الصدام، وهذا يعطينا بدوره مؤشرًا على أن إمكانية المراهنة على أن يقف الأتراك بوجه الإيرانيين بشكل حازم وحاسم قد لا تكون عالية ضمن المعطيات الحالية.