يتعايش الوضع العربي مع سلسلة كبيرة من التحولات، وبطبيعة الحال سيجد كل متابع صعوبة في وضع هذه التحولات في إطار واضح وتسلسل مترابط. فالإقليم العربي ومحيطه الإسلامي يعاني من أحداث بعضها نتاج سياق طبيعي بينما بعضها الآخر نتاج مفاجآت وانفجارات صادمه. لقد بدأ التحول منذ 2011، إذ لابد أن نلاحظ أن ما بدا أنه وضع مستقر قبل ذلك تبين في اليوم التالي بأنه ليس كذلك. إن كل نظام سياسي اعتقد أنه استعاد مبادرته السياسية سيكتشف عكس ذلك، ففي زمن التحولات والتغير الاجتماعي السياسي يصعب إدامة الاستقرار. إن المبادرات السياسية تحت كل الظروف في النظام العربي هي دون المستوى والطموح، لهذا يستمر الحراك الشعبي بين منطقة واخرى في الدول العربية. لقد أصبح الواقع العربي والإقليمي أكبر من الأنظمة والمؤسسات التابعة لها. إن الديكتاتورية وحجز الحريات وعدم الالتفات لقيم العدالة لم تعد قابلة للاستمرار بلا مقاومة من قبل الناس والمجتمعات.
من مظاهر التحول في الإقليم أن المواطن العربي يبحث عن أمور أصبحت طبيعية في الكثير من مجتمعات العالم وذلك من حيث مكانة الحريات التي تتضمن حق النقد و الرأي وحق المساءلة و التجمع والتجمهر والكتابة ومنع التعذيب والإهانة، إضافة لحق تغيير الرئيس والسلطة التنفيذية والتشريعية بصورة سلمية. الحرية في الجانب الحقوقي والإنساني والحرية في الجانب السياسي والمدني أصبحت مطالب يسعى اليها المواطن العربي. من جهة أخرى اصبحت الحرية، في الوعي العربي، مرتبطة بالعدالة. فالعدالة المفقودة في التوزيع بين الأغنياء والفقراء، كما والعدالة المفقودة في المعاملة بين أصحاب النفوذ والمستضعفين تحرك المواطنين العرب وتحثهم على النضال من أجل التغيير.
من مظاهر التحول في الإقليم العربي ومحيطه الإسلامي أن القوى الدينية التي تمكنت من الخطاب العربي الرسمي والشعبي منذ 1979، أي منذ الثورة الإسلامية في إيران ومنذ قيام جهيمان العتيبي باحتلال الحرم المكي قد بدأت في التحول. فالدين بصفته مصدر الشرعية السياسية ومصدر الحراكات السياسية العربية والإسلامية، كما عرفناه منذ 1979 بدأ يشهد تراجعا واضحا على أصعدة عدة. هناك مثلا تراجع واضح في دور الإسلام السياسي في الحياة العامة وتراجع في مفاهيم الشريعة وتعريفاتها التي انتشرت في الثمانينيات من القرن العشرين. لهذا ليس غريبا أن نجد بأن المزيد من الإسلاميين يراجعون مواقف السابق ويتبنون فهما مختلفا للشريعة أقرب في اتجاهه العام لتبني قيم الحرية والعدالة عوضا عن قيم الحدود واكتشاف الحلول في الماضي. وتمثل هزيمة داعش ونموذجها للدولة الإسلامية في العراق إضافة لبروز سياسات جديدة في المملكة العربية السعودية تجاه الإرث الوهابي والديني السابق بداية انحسار تجربة وتعبير عن حقبة جديدة.
في منطقتنا تسقط الشرعيات الواحدة وراء الأخرى: تسقط شرعية الرعية وتسقط شرعية ولي الأمر وشرعية السمع والطاعة وشرعية الحكم الأحادي وحكم الفرد أمام نمو ثابت لشرعية الحقوق والديمقراطية والمشاركة. إن شرعية الفساد وشرعية سحق المواطن لم تعد مقبولة في أعين الناس
لقد كانت المملكة العربية السعودية تصدر لكل منطقة الخليج والمنطقة الإسلامية خطابا أيديولوجيا دينيا، وقد ترك هذا الخطاب والسلوكيات الناتجة عنه أثرا كبيرا في العالم الإسلامي كما والعربي. اليوم اختلف الأمر، فشرعية الدولة السعودية المستمدة من الدين لم تعد قائمة الآن. لست هنا في صدد التكهن عن طبيعة الشرعية الجديدة القادمة في المملكة. فالواضح أن التفسير التقليدي يتآكل. بالطبع هناك تناقضات: فهناك من الإصلاحيين والتنويريين السعوديين ممن تم إقصاؤهم وسجنهم وهناك أمور كثيرة تمس حقوق الإنسان وحرياته. لهذا تعيش المملكة في تناقض هو الأكثر صخبا منذ تأسيسها. لكن بنفس الوقت يمثل الحراك الإيراني الراهن الناقد للنظام، رغم قدرة النظام الإيراني على تفتيته وقمعه، انعكاس لخروج قطاعات أكبر من المواطنين الإيرانيين من عباءة الإسلام السياسي التقليدي. إن تراجع الإسلام السياسي في شقه السني والشيعي، دون أن يعني ذلك ضعف في الحس الديني لدى الناس، يمثل أحد مشاهد التغير في الإقليم العربي.
وبنفس الوقت هناك نمو واضح في الإقليم العربي والإسلامي للرؤية الحقوقية. فالناس تبحث الآن بصورة اكبر واشمل من السابق عن دولة المواطن و الحقوق ودولة الدستور وفصل السلطات. لهذا يمكن التنبؤ بأن مشاريع الاستبداد القادمة ستصطدم بوعي المواطنين لحقوقهم واحتياجاتهم الجديدة. كما أن التناقض بين الأجيال حول الحاضر والمستقبل في ازدياد، فالأجيال الصاعدة أقل طائفية وأقل تشددا، وأكثر سعيا للمشاركة والتعبير، بل أكثر قناعة بأن الشريعة رسالة سلام وتسامح وعدالة. لهذا يمثل الحراك اللبناني والعراقي كما هو قائم الآن جوانب أساسية في التحول العربي، فما يقع في لبنان من حيث التضامن السني الشيعي و المسيحي الدرزي هدفه دولة المواطن أولا، وهذا ما يقع الآن في العراق، وقد اتنبأ مؤكدا بأن مصر الإسلامية والقبطية وسوريا العلوية والدرزية والسنية ستشهد حراكات أكثر تجانسا بين مكونات المجتمع الساعية لدولة الحقوق والمواطن.
و بإمكاننا أن نتساءل: كيف سيتعامل النظام العربي بشكل عام و النظام السياسي الخليجي وخاصة السعودي، الرافض حتى الآن للنماذج الديمقراطية، مع إمكانية نشوء نموذج ديمقراطي في العراق وفي الجزائر والسودان بل وفي اليمن، ثم في مصر. إن الصراع بين الديمقراطية والاستبداد والذي يتضمن قيم اقتصادية وعدالة وحريات ومساءلة سيكون على أشده في المرحلة القادمة.
يتضح من المشهد العربي السائد اليوم أن الحروب المفتوحة والحروب الأهلية أكانت حرب اليمن أو الحرب السورية والحرب العراقية ضد داعش قد قضت على بعض الأطراف لكنها لم تعرف كيف تتعامل مع المأزق الذي سبب بروز الحوثيين في اليمن وداعش والنصرة وغيرهم في سوريا و في العراق. في اليمن تعقد الموقف ودمر اليمن ولازالت أهداف الحرب دون التحقيق. يثبت التاريخ لنا أن الانتصار على أرض محروقة (كما حصل مع نظام الأسد على سبيل المثال) يفتح الباب للمفاجآت. في منطقتنا تسقط الشرعيات الواحدة وراء الاخرى: تسقط شرعية الرعية وتسقط شرعية ولي الأمر وشرعية السمع والطاعة وشرعية الحكم الأحادي وحكم الفرد أمام نمو ثابت لشرعية الحقوق والديمقراطية والمشاركة. إن شرعية الفساد وشرعية سحق المواطن لم تعد مقبولة في أعين الناس.
القدس العربي