كانت تركيا هي الدولة الأخيرة التي كانت في حالة لا حرب ولا سلم مع تنظيم داعش، وها هي تنضم إلى الآخرين في سياق الحرب المعلنة، وهو ما رد عليه أنصار التنظيم بالتهديد بالمفخخات، وتنظيمهم قادر على ذلك على الأرجح إذا ما قرر الذهاب بعيدا في العداء الشامل.
تورطت تركيا في المستنقع السوري، لا شك في ذلك، ولكنها فعلت ذلك من باب الاضطرار، وهي ترددت كثيرا (ستة شهور أو أكثر) قبل أن تحسم موقفها، وذلك بعد محاولات محمومة للتوسط بين السلطة والمعارضة، لكن إيران لم تكن تريد ذلك، فهي تعتقد أن أي تنازل للمعارضة ستتبعه تنازلات من الصعب معها الاحتفاظ بحكم أقلية طائفية. وبذلك صار أردوغان بين خيارين؛ إما أن ينحاز إلى مصالحه التي كانت تعمقت مع النظام السوري في الأعوام القليلة التي سبقت الثورة، وإما أن يخسر غالبية الأمة، تماما كما خسرتها إيران، فكان أن اختار الأخيرة، رغم ما تنطوي عليه المغامرة من كلفة باهظة.
بعد ذلك تداعت الأحداث، وصارت القوى الجهادية هي عصب الثورة، وفي مقدمتها تنظيم داعش، وأصبحت تركيا بين مشهد دولي يضغط عليها باتجاه العمل ضد التنظيم، وبين آمالها بأن تصل الحال حد انتصار الثورة أو التوصل إلى تسوية دون بشار الأسد، فضلا عن التطورات المعروفة التي حدثت في العراق.
وحين نشأ التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة ظلت تركيا بعيدة عنه نسبيا، مع بعض المجاملات التي تفرضها التزاماتها الدولية، وكان ذلك مناسبا لتنظيم داعش أيضا، واستمرت هذه الحال إلى أن جاء تفجير سوروج الأخير الذي نفذه تنظيم الدولة، وإن لم يعلن ذلك رسميا.
ولم ينتبه التنظيم إلى أن أردوغان لم يعد في وضع مريح كما كانت عليه حاله قبل الانتخابات الأخيرة، فالأكراد الذين استهدفهم التنظيم داخل تركيا، يشعرون بغرور القوة؛ ليس في تركيا وحسب، بل حتى في سوريا، فضلا عن العراق الذي يتحدون فيه الحكومة المركزية، ويتصرفون باستقلالية وصولا إلى بيع النفط في السوق السوداء دون خوف من حكومة بغداد التي تبدو مضطرة هي الأخرى لمجاملتهم؛ لأن أولويتها هي الحرب مع التنظيم .
لم يكن أمام تركيا بعد التفجير الذي وقع، وفي ظل حساسيات وضعها الداخلي، بما في ذلك العجز حتى الآن عن تشكيل حكومة توافق.. لم يكن أمامها سوى الرد على التنظيم بحملة الاعتقالات والقصف التي تابعناها، وهو ما يشير إلى مرحلة تصعيد من الصعب معرفة مداها. والأسوأ بطبيعة الحال هو ذلك التصعيد الذي يقوده حزب العمال الكردستاني، أو الجناح المتشدد منه، والذي يحظى دون شك بدعم إيراني، إن كان مباشرة أم عبر النظام السوري، والذي يتواطأ بدوره مع مساعي أكراد سوريا للتمدد، والتهيؤ للانفصال إذا ما توافرت ظروفه، وهو ما يساعد في الإبقاء على خيار الدويلة العلوية قائما في حال الاضطرار. وقد يُضاف هنا الموقف الملتبس لأكراد العراق الذين لا يعادون تركيا في العلن، لكنهم أقرب إلى أقرانهم في تركيا وسوريا، ويساعدونهم بطرق شتى.
هكذا وجد أردوغان نفسه بين معركة ضد تنظيم الدولة يستفيد منها النظام السوري، وبين معركة مع حزب العمال، وبين مخاوف الداخل التركي وحساسياته، وبين هواجس منع أكراد سوريا من الانفصال، وتهيئة الأجواء للانقلاب على الاتفاق التاريخي مع أكراد تركيا.
في المقابل، فإن إعلان تنظيم الدولة الحرب على تركيا سيرتب عليه خسائر كبيرة، بل كبيرة جدا، ليس بسبب القصف، بل بسبب تجفيف منابع دعمه عبر الحدود التركية، ومن الأفضل له أن يهدئ على نحو يمهد الأجواء لتهدئة تركية في المقابل تعيد الوضع إلى ما كان عليه في السابق.
بعيدا عن هذه القضية، من الواضح أن هناك خللا أساسيا في إدارة تنظيم الدولة للمعركة، إذ يخلط بين النزعة الثأرية، وبين الرؤية السياسية العاقلة في جلب المصالح ودرء المفاسد، بدليل أنه يستعدي دولا بلا حساب وبلا طائل، كما هو الحال مع السعودية مثلا، مع عدم قدرة على التفريق بين ما تفرضه الالتزامات الدولية على الدول، وبين حال التنظيمات، أو حتى الدول الخارجة عن السياق الدولي بالكامل، والتي لا يتوافر منها إلا نموذج الدولة الإسلامية.
ما الحاجة مثلا إلى فتح معركة مع السعودية التي تواجه إيران في اليمن، حتى لو شاركت في التحالف الدولي، وهي مشاركة رمزية، تماما؛ كما مشاركة جميع الدول العربية، فضلا عن حقيقة أن التحالف لم يبذل كل جهده في الحرب، باستثناء حالات خاصة كما في كوباني وتكريت، وكانت نتيجتها المعروفة، وطبعا لأسباب سياسية ليس هنا مجال الخوض فيها.
لا يمكن لأي تنظيم، ولا حتى دولة أن تخوض حربا مع العالم كله ثم تربحها في النهاية، مهما طالت واستطالت، ولم يحدث في التاريخ أن جمعت دولة أو تنظيم من حوله هذا الفضاء من العداء الشامل كما فعل تنظيم “الدولة الاسلامية” داعش. وليس هذا فقط لأن الآخرين جميعا كفرة ومرتدين كما يقال، بل أيضا لأن هناك خللا في إدارة المعركة، وتجاهلا كاملا لموازين القوى.
نعود إلى قضية تركيا وتنظيم الدولة، فهي مسألة حساسة ومركبة ومعقدة، ولا ندري إلى أي المسارات ستفضي، لكنها في العموم جزء لا يتجزأ من هذه الفوضى التي صنعتها إيران في المنطقة، والتي تستنزف الجميع بلا طائل، ولن تنتهي إلا بتسوية يقبل بها الجميع، لكنها لن تأتي قبل أن تُشفى إيران من مرض غرور القوة الذي تلبسها، ولم تتعاف منه إلى الآن، بل لا تتوافر ملامح حقيقية على تعافيها القريب، بخاصة بعد اتفاق النووي الذي سيمنحها موارد مالية سيستخدمه محافظوها في المزيد من العدوان.
ياسر الزعاتره
صحيفة الغد الأردنية